رقصة الموت، مملكة يهودا أو ما بعد الحرب الدينية
تاريخ النشر: 29/12/15 | 9:14لماذا يخرج للعلن المنظر المقزز المثير للغثيان في ما يسمى ‘حفل الزواج الدامي’ أو ‘عرس الكراهية’ الآن بالذات؟! حيث يظهر أحد المستوطنين يطعن صورة الطفل علي دوابشة في رقصة على أنغام الأغنية الأكثر رواجًا في المستوطنات ‘الانتقام’؟ لا سبب وجيه سوى رغبة جهاز الأمن العام (شاباك) في كسب نقاط في الحرب الإعلامية العاصفة الدائرة بينه وبين جماعات الإرهاب اليهودي، حيث باتت الانتقادات لجهاز الشاباك تتعاظم وبدا الموضوع منافسة بين أنسنة ‘الإرهاب اليهودي’ وبين ״أنسنة״ الشاباك. وقد نجح كلا الطرفين برأيي حتى الآن بكسب النقاط بعد تحويل جهاز الأمن الأكثر ضراوة وقسوة وانتهاكا لحقوق البشر من الفلسطينين – الشاباك، إلى مركز الإجماع الإسرائيلي وحامي الأمة اليهودية من الشرور بأخلاقه وعنفوانه، وتحويل قتلة البشر حرقا وهم أحياء إلى فتيان ضحايا التهميش وعدم الاهتمام وملاحقة الشاباك لهم زورا وبهتانا. ولفهم هذه المفارقات العجيبة لا بد من الرجوع قليلا إلى تركيبة المجتمع اليهودي وفهمه لنزعاته القومية/ الدينية.
‘شخصيات’ ثلاث تتحكم في صقل العقلية الاسعتمارية لليهود الذين استوطنوا في فلسطين: ‘الله’، ‘هتلر’ و’بلفور’. ويتمحور فهم أحقية اليهود على هذه البلاد رغم فعل الاستيطان السيء الصيت في ثلاثة فئات مركزية: الفئة الإلهيّة (الحريديم) تتغنى بـ’كوشان’ مقدس أعطي هدية من السماء وسجل في ‘الطابو الإلهي’- التوراة. فيقولون: الله هو سبب وجودنا هنا، وكل ما عدا ذلك من حروبات وكوارث وبطولات هو تفاصيل في تاريخنا المقدس. أما الفئة الهتلرية (الأشكناز العلمانيون) تتغنى بالبطولة وتبكي المحرقة النازية، وتستعلي على ‘المتخلفين’ من يهود المغرب والعراق. يقولون هتلر هو سبب وجودنا هنا ولو أن إلهكم حق؛ لما تركنا نحترق بالملاين في ألمانيا وبولندا. سنحمي أنفسنا بأنفسنا.
وتكمن في الفئتين أعلاه صفات متشابهة، على اختلاف منطلاقتها، فالاثنتين بحاجة إلى ‘عملية’ صيانة دائمة ومستمرة للراوية الأم التي عليها يبنى الادعاء الأساسي للأحقية اليهودية في الوجود والتواجد عند الفئة الأولى، وفي استثمار إطار ‘حق تقرير المصير’ ذي الشرعية الدولية عند الفئة الثانية.
أما الفئة البلفورية (الصهونية الدينية) فقد سلكت طريقًا مختلفًا، يدمج بين المرجعية الإلهية التوراتية وبين رواية المحرقة كتفصيل مفصلي في تاريخ اليهود، إلا أنها لا تعول عليهما كمخرج لادعاء سيطرة اليهود على أرض فلسطين بأي ثمن، بل أنها تذهب بعيدًا في المجالين وتؤججهما، حيث تتسم هذه الفئة بالتطرف الديني الطائفي وتستثمر فعل المحرقة لتأجيج مشاعر العدوانية ضد كل من هو ليس يهودي (چوي- غريب). يقولون: نحن هنا على الأرض التي منحنا الله إياها لأننا انتزعنا وعدًا من بلفور البريطاني ولأننا خضنا حربا ضد العرب وانتصرتا عليهم. نؤمن بالله ونجل وعده ونثمن المحرقة ونبكيها ولكن وجودنا متعلق بقوتنا وجيشنا الجبار.
وتشوب هذه الفئات تناقضات داخلية ومفارقات جمّة لا تزال “نائمة”، تعمل ضمن الإجماع الإسرائيلي الذي يعطي اليهود الأحقية والامتياز، فنرى أن الفئة الإلهيّة لا تحترم المحرقة ولا تولي لها اهتمامًا بل تعتبرها عقابًا من الله. أما الفئة الهتلرية، فبمعظمها ليست متدينة، ولا تولي اهتماما للمقدس، ومع ذلك ترفع شعار ‘دولة اليهود’.
والفئة البلفورية بالرغم من مرجعيتها الدينية وتعاليم التوارة وسخطها لتجربة المحرقة؛ فلا مشكله لديها باعتناق افكار نازيّة الجوهر حد تنفيذ فعل هتلر بشعب آخر!
إلا أن هذه الجماعة، لم تتطلع يومًا ما إلى فرض خطابها على الشارع الإسرائيلي بشكل واضح ومباشر، بل انتهجت سياسة الأمر الواقع في المواقع التي من شأنها إضعاف الرأي الإسرائيلي العام، وفق توقيت سياسي يقوم على تعبئة الفراغ السياسي ورفع سقف خطاب الدولة اليهودية عبر التنافس في تبني المواقف المتطرفة التي تمزج بين تسييس الدين ورفض أي حديث عن حقوق سياسية للفلسطينيين، وتغير ما حدث في إستراتيجية الصهيونية الدينية في السنوات الأخيرة حيث تحولت إلى محاولة فرض الخطاب السياسي والتأثير على الإجماع وصناعة السياسات، فنرى أن اللوبي الاستيطاني في حزب الليكود يتعاظم في السنوات الأخيرة، من باب ‘إذا أردت أن تؤثر انضم إلى الحزب الحاكم’، ونرى توحيد أحزاب الصهيونية الدينية في حزب واحد كبير ‘البيت اليهودي’ الذي اختار دخول المعترك السياسي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، عبر تضخيم ‘كعكته’ واستعمال شخصيات نجومية لكسب تأييد قطاعات واسعة من خارج الشرائح الكلاسيكية، ذلك علاوة على تغيير جذري في فهم اللعبة السياسية ومبتغاها، حيث فهمت الصهيونية الدينية أنه يجب عليها تمكين نفسها في مؤسسات الدولة لكي يسود خطابها، فمهاجمة المحكمة العليا بات يرافقه عمل مضني لمحاولة إدخال قضاة مع توجهات يمينية لنفس المحكمة، إضافة إلى تقوية لوبي الصهيونية الدينية في مفاصل الحكم المختلفة واحتراف اللعبة الديمقراطية والتأثير على لجان الكنيست وصنّاع القرار في الحكومة، إضافة إلى تولي مناصب عليا في الجيش وجهاز الشاباك والشرطة.
هذا التطور في العمل السياسي لجماعات الصهيونية الدينية انتج واقعا جديدا في حركات الاستيطان وزاد من حدة التطرف لدى أوساط مركزية تمثل مركز الحراك الشعبي في الصهيونية الدينية، بسبب شعور بالانصهار في ‘لعبة السياسة’ أو حتى التفاوض على ‘أرض إسرائيل’، الأمر الذي كان له إسقاطات في عزوف هذه الأوساط عن العمل السياسي والكفر بالمنظومة حد اعتناق افكار معادية لدولة اسرائيل بمنظومتها القائمة كما بدا جليًا في ما بات يعرف بوثائق التأسيس للجماعات اليهودية هذه، التي عثر عليها في أعقاب جريمتي دوما وكنيسة الطابغة.
فيما رفعت الصهيونية الدينية منذ زمن شعار الحرب الدينية وبعد أن ساد هذا الخطاب في اليمين وبدأ ينتشر في مؤسسات الحكم، تبدو الحرب الآن في أوساط المتطرفين، حربا على الرواية الدينية (أي دولة يهودية؟) لا على تفوق الخطاب الديني على الخطاب المدني ومجرد طرح أحقية اليهود بوطن قومي. إما اسرائيل او مملكة يهودا.
خالد تيتي