روائع من التاريخ “9”
تاريخ النشر: 01/01/16 | 12:04قصة المفتي وآخرة السلطان ……كان السلطان سليم الأول العثماني معروفًا بميوله العسكرية المحضة ، وهذه الميول تورث صاحبها شدة في التعامل وقسوة في العقاب وغلظة في اتخاذ القرار، وكلها كانت صفات موجودة في السلطان سليم الأول المعروف بشدة بطشه بخصومه وقسوته المفرطة مع المخالفين ، وكان سريعًا في سفك الدماء خاصة لرجال الدولة من الوزراء والكتبة والأمناء وغيرهم حتى ضرب به الأمثال في ذلك ، وصار يدعى على من يراد هلاكه بأن يصبح وزيرًا لسليم الأول !
كان الشيخ علاء الدين الجمالي من أشهر علماء الدولة العثمانية وفقهائها ، تولى العديد من المناصب الهامة داخل الدولة أيام السلطان بايزيد الثاني والد السلطان سليم الأول ، وكان شيخًا فاضلاً يصرف جميع أوقاته في التلاوة والعبادة والتدريس والفتوى ؛ وكان شديد الورع في فتاويه حتى أنه كان يغلق باب داره ويقعد في غرفه له ، فتلقى إليه رقاع الفتاوى فيأخذه ويكتب ثم يدليها ، حتى لا يرى صاحب الفتوى فيدخل في قلبه شيء منه أو يحابيه لحاجة ما وهكذا ؛ كما كان الشيخ علاء الدين جريئًا في الحق صادعًا به ، أمارًا بالمعروف ، ناهيًا عن المنكر ، يواجه بذلك كل الناس فلا يهاب سلطانًا ، ولا يخشى طغيانًا .
حدث ذات مرة أن حاسب السلطان سليم الأول حفاظ الخزينة فوجد عندهم خللاً وتقصيرًا ، فأمر بقتلهم جميعًا وكانوا مائة وخمسين رجلاً فلما علم الشيخ علاء الدين الجمالي وكان وقتها مفتي الدولة العثمانية أسرع للقاء السلطان سليم الأول ، فلما دخل عليه سلَّم ثم جلس وقال : وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان ، وقد سمعت بأنك أمرت بقتل مائة وخمسين رجلاً من أرباب الديون لا يجوز قتلهم شرعًا ، فغضب السلطان سليم غضبته المعروفة والتي عادة ما تنتهي بقتل المتحدث أو نفيه وقال للمفتي علاء الدين : لا تتعرض لأمر السلطنة وليس ذلك من وظيفتك . ولو سكت المفتي بعدها ما لامه أحد ، فلقد قال كلمة الحق وأبان حكم الشرع ولو خالفه السلطان فالوزر عليه وحده ، ولكن العالم العامل الذي يعلم قدر علمه وقدر مهمته وغاية وظيفته يعاود الكلام ويرد على السلطان حدته وجبروته ويقول له : بل أتعرض لأمر آخرتك وهو من وظيفتي ، فإن عفوت فلك النجاة وإلا فعليك عقاب عظيم ، فعندها انكسرت سورة غضب السلطان وثاب إلى رشده وعفا عن الكل ، ثم زاد المفتي في إحسانه ونصحه وإرشاده وظل يتحدث مع السلطان الذي تبددت سحائب الغضب من على عقله وقلبه ، ثم سأله في إعادة الأمناء إلى مناصبهم فأعادهم جميعًا .
نعم قال للسلطان : لا .. قالها واثق بنفسه متوكل على الله سبحانه وتعالى واثق بنصر الله له . نعم قال : لا . قال كلمة الحق بعيداً عن الخوف من سطوة الحكام وضياع المناصب وقطع الهدايا والعطايا ، مدركاً منذ البداية طبيعة وظيفته ومكانته وقدره في الجهر بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ولو كان مع أقوى الحكام وأطغى الرؤساء .
ملبياً لنداء الله سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) المائدة : 8
بقلم : محمود عبد السلام ياسين