خارج الإيقاع
تاريخ النشر: 05/01/16 | 11:37في ليلة غير مقمرة، ظلمتها حالكة، وأنا في قمة انسجامي، لكنّ أعصابي شبه متوترة، حبست نفسي وأنفاسي في غرفتي، وجلست في مقعدي محاولًا عبثًا التحرر من كل الالتزامات، لأقرأ تأمّلات في شذرات برقيات لا نهائيّة في المعنى والماهيّة لهرقليطس هذا الزمان، الكاتب المميّز عبد عنبتاوي.
دخلت في رحلة فلسفية وعالم آخر لا يشبه هذا العالم، عالم عجيب من التناقضات والتأمّلات غير المألوفة يذكّرني بالذين هبطوا من السماء، ومثلث برمودا يسيطر عليه جوٌ رهيب وهدوء مطلق، شوارعه بلا روح سوى أشباح تتراقص وتتمايل كساحرة ملعونة تحمل عصا سحريّةً رسم عليها أفعى (كوبرى). أحاول أن أسبح وأغوص في بحر عطائه المتدفّق وأفسّر كلماته المبهمة؛ لأحلّ رموز معادلاته المعقّدة، أجده صاخبًا دائم المدّ والجزر، أتوقف لألتقط أنفاسي، أرتشف فنجان قهوة مركّزة أعدّتها ابنتي إيناس- فهي الوحيدة التي تروق لي قهوتها- فيتّضح لي أنّ الكاتب المذكور، مهما كان سبّاحًا أو غواصًا محترفًا، فمصيره محتوم بعدم الوصول إلى نهاية الرحلة بأمان نظرًا لتشوّش ذاكرته وتمرّدها.
يستهل الكاتب شذراته قائلًا:
” الحياة قصيدة تراجيديّة لم تكتمل رغم محاولات الشعراء”
“الحياة أبعد من مجرد وجود وبقاء… الحياة في جوهرها ماهيّة وارتقاء”
“كلامأقل… وقول أكثر”
نعم، الحياة قصيدة لم ولن تكتمل إلى يوم الدين، وهي كالمرأة ممكن أن نحصل على أفضل النتائج حين نبتسم لها. وقصيدة إرادة الحياة لأبي قاسم الشابيّ، وقصيدة الحياة لإيليّا أبو ماضي، هما أفضل رد.
نعم، ليس مجرد كلام مثير، إنّه فلسفة عميقة يخوضها الكاتب في أعماق النفس والذاكرة وثقافة راقية، بحث، معرفة، واكتشاف، وفكر نيّر يقدّره أصحاب الفكر المتحضّر.
حقيقة لم يكن سهلا بالمرة اختيار أيّ فقرة؛ لأنّ كل كلمة وعبارة لها معانيها، ميزاتها، أبعادها، إيجابيّاتها وسلبيّاتها.
قد تُثير هذه الشَّذرات لدى البعض، بوصفها مادّة فكريّة، كثيرًا منالاشمئزاز، وقد تُثير في “عقول” ونفوس عدد من القُرّاء، أو كثيرٍ منهم، أبعد من الاستفزاز؛ لأنّ دوافعها ومُنطلقاتها، جَوْهرها ومَراميها، ومن ثمّوُجْهتهاوغاياتها، أُسلوبها وحِدَّتها؛ كلّ ذلك يُعدُّ خارج السّائد من قوالب ومَناهج ومَذاهب دوغماتيّة وتقليديّة، مَوْروثة أو مُسْتَنْسَخة أو مُقلِّدة، في جُلِّها، من حيث المعنىوالمبنى..
فهذه “المادّة” ليست مُوَجَّهة لمن يعيشون في طُقوس، إنما لمن يحيون ويبحثون عنماهيَّة، لذلك فهي لا تحمِل التزلُّف ولا تحتمل الرِّياء والتملُّق، لا تُقدِّسوترفُض الأيْقونات، ولا تحاول كسب وِدّ من يُعادون بطبعهم وطبيعتهم البِدائية، كلّما ومنْ هو مختلف جَوْهريًّا حَدّ النقيض، وكل ما هو حقيقة جديد..
رغمأنّ اللغة متمكنة وغنية لكن الفكرة هي بطلة النصّ، إنّها ملامح فلسفيّة جريئة قراءتها ليست سهلة على القارئ؛ إذ تتطلّب التركيز والتدقيق فيها، كونها مركّبة. في نظر الكاتب أنّه تعمّد هذا النهج لأنّه لا يكتب لكل طبقات المجتمع، ولا ينتظر كلمة إطراء أو مجاملة، ويرفض رفضا قاطعا الكتابة التقليديّة، وهو على علم أنّأسلوبه يستنفر الكثيرين؛ نظرًا للهجته القاسية ونقده اللاذع، ولأنّه وبصدق مبنيّ على وقائع وحقائق، وهو يسعى لمحاربة آفات المظاهر الخداعة والتلوّن والجهل الذي يسيطر على طبقات المجتمع كافّةً، والآخذ بالتردّي في مجالات الحياه ومرافقها، وقضاياه الفكرية التربوية الاجتماعية والسياسية.
معين أبو عبيد