أرواح فلسطين
تاريخ النشر: 04/08/13 | 1:39الوطن ليس مجرد جسد ، بل ان داخله روح تنبض بالحياة الابدية ، اما غذاء هذه الروح فهو مجموعة ارواح الشهداء والمناضلين والأسرى الامنيين الذين وهبوا حياتهم ومماتهم لهذا الوطن ، لذا فهؤلاء لا يفنون لان ارواحهم اندمجت بالروح الكبيرة ، وعلي احمد كان له الشرف الابدي بالمساهمة بإحياء فلسطين عبر مشوار نضالي شاق ، وإذ تربطني صلة الرحم مع المرحوم فهو ابن عمتي وإذ تربطني فيه الصداقة ايضا لكن ارتباطنا في عذابات الاسر جعل من هذه العلاقة تدوم بحب مشترك مع الوطن وقضاياه المعقدة ، ولد علي قبل 42 عام في رمضان وتوفي ايضا في رمضان ، وبينهما عاش حياة طاهرة شريفة تليق ببدايته القدرية ونهايته ، فقد قدر له ان يدهس في حادث سيارة في نفس المكان الذي شهد انتصاراته مع شبان ام الفحم في الكثير من المظاهرات ، حيث اعتقل في احداها وهو ما يزال في الثامنة عشر ، وقضى فترة ليعود مصرا على مواصلة درب النضال وليسجن للمرة الثانية على خلفية امنية ، بمناسبة الحديث عن علي فهذه الكلمات لا تأتي في اطار السرد التاريخي لذاك الفتى الذي قرأ التاريخ بتبصر وتشرب منذ نعومة اظافره من ينابيع ادبيات المقاومة الفلسطينية ، كما ان هذه الكلمات لا تأتي من اجل رثاءه فمثل علي لا يموت ، فحتى جسده ما زال حيا في اجساد الانسانية فقد تبرع اهل الفقيد بأعضائه الحيوية لمرضى مشرفين على الموت ، وهكذا فقد وهب علي الحياة حتى بموته ، لكن الحديث عن علي احمد يشكل قضية بحد ذاته ، قضية متشعبة تعكس احلام تكسرت بفعل العاصفة الامنية الاسرائيلية ، تكسرت احلام الفتى بعد ان وصلت في التخطيط الى حدود السماء فقد طمح للانخراط في العمل الفني المسرحي الوطني الملتزم ، وكانت لو جولات في بلدان اوروبية ، وكذلك تكسرت طموحاته العلمية رغم تفوقه المشهود في الدراسة ، تكسرت كل احلام الفتى ليس بفعل حادث دهس غير مقصود بل منذ ان وضعت سياسات حكومية استخباراتية تجيز مصادرة حياة اي سجين من الناحية المعنوية والمادية خاصة اذا حافظ على مبادئه ولن يرحمه ان احترم بعدها او اخترق القانون ! لذا فعندما نتحدث عن علي فلا يجب تهميش محيطه التاريخي او تجاهل سياسات دولة تجاه الاسرى الامنيين من عرب الداخل ، فيختلف الاسر من هنا وهناك نظرا لتشعب الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات ، وكذلك فيختلف التحرير ، ومثل تحرير شاب كعلي سيعني عمليا انه خرج من سجن صغير ليدخل سجن كبير ، وهذا ليس بتحليل بقدر ما انه تهديد مباشر سمعه اغلب المعتقلين في اقبية التحقيق ، فهم فوق اي قانون ونحن تحت مجهرهم وكأن حياتنا مجرد مختبر لتنفيذ مواهبهم واستقوائهم علينا ، كما ان هؤلاء السجناء سيعانون من خطة اقتصادية رهيبة خاصة وأنهم مرتبطون بمعيشتهم بالمجتمع الاسرائيلي ، فهم يمنعون من مزاولة الاعمال في كل المرافق الخدماتية والمؤسسات العامة باختلافها وبجميعها وحتى المهن التي تعد سوقية ! وفي المقابل فإننا نرى تجاهل من قبل مؤسساتنا الرسمية والغير رسمية لهؤلاء الاسرى ليتركوا في مواجهة دائمة قد تصل الى الحرب الضروس على لقمة العيش، رغم اهتمام هذه المؤسسات بتوظيف لاعبي كرة قدم معتزلين ! وهذا ليس من باب الاعتراض بل من "شباك" المفارقة ! ولن تنتهي معاناة الاسرى المتمسكين بنقاء قضيتهم اذا اضفنا لتلك المعاناة الخلايا العميلة القائمة والنائمة في هوامش الطرقات والحركات والتي تقوم بالتشويه الامني والاجتماعي المستمر عبر علمية الاشاعة ، ظنا منهم انهم يستطيعون بذلك اعاقة تقدم الاسرى حتى في المسار الاجتماعي او السياسي او الاعلامي ! ولنتخيل الان في ظل هذه الحرب الغير معلنة من قبلهم ان يموت اسيرا مثل علي بخاتمة مشرفة تشير بلا جدال الى سقوط برامج الاستهداف وفشل سعي العملاء العاجز! علي وأي فتى ، كشف بعذاباته معاناة المجتمع وقلة ادراك البعض ، وكان يسخر دوما بابتسامته المعهودة من حجم الجهل المتمثل بضيق الافق الانساني الذي يتمتع به بعض هؤلاء المرضى الاجتماعيين الطفيليين ، هؤلاء الذين حولوا الخيانة الى وجهة نظر خاضعة للمصلحة الشخصية ، هؤلاء الذين يتقبلون كل عاهات شبان اليوم من موضة السلاح والفوضى وادعاء القوة بضعف وسباق السيارات ، لكنهم لم يتقبلوا يوما مجموعات من الشباب الوطني والذي دفع عنهم فواتير وطنية مؤجلة او متجاهلة ، علي وأي فتى صانع البسمة والضحكة ، وصانع الموقف وعميق النظرة الثاقبة الكاشفة ، كان ينظر اليكم بعطف فبالنسبة اليه كنتم شعب لا يقوى بمعظمه على التضحية ، وانتم شعب لا تدركون انكم محتلون وأنكم بمبادرة واحدة ستخسرون ذرائع تثبيطكم وانبطاحكم ، علي وأي فتى احب الناس وأحبوه ، لم تعرف عنه الاساءة او التجريح ، تمتع بوقار داخلي ، تحمل اكثر مما يطاق بسلاسة وخفة ظل ، علي الذي واجه كل تعقيدات المشوار بعفوية مفرطة ليحافظ على حضوره الانساني والوطني، علي الذي صنع من حياته سقفا سماويا وجعل من بيته الذي ضم زوجة وفية وأربعة أبناء كالورد وإخوة وأخوات متماسكين وأم صابرة ، علي وأي فتى كانت جنته في صدره يصنعها اينما حل ، وكان راس ماله فكر ترجمه بتضحياته ، فكل من اقترب منه لاحظ مدى ثقافته وعلميته واستبطاته للأمور ، علي وأي فتى ستبقى اشراقة ، فكما اشرقت من داخل زنازين الظلم فستشرق من القبر ايضا ، فأنت شروق لا يعرف مغيب ، وأنت لست بذكرى فأنت قضية سنظل منها نستفيد ، رحمك الله وأعاننا على فراقك، فهذا ما نبكيه فيك ، ولا نبكي موتك صدقني لان موتك حياة ! ولان روحك توحدت مع روح فلسطين .