قراءة الرسائل الربانية

تاريخ النشر: 16/01/16 | 8:27

صاحب القلب الحي إذا وفَّقه الله لطاعة سأل نفسه: بأي عمل صالح أثابني الله بهذه الطاعة؟ أبدعوة إلى خير أم بصلاة ليل أم بسعي في حاجة مسلم أم بعفو عن مسيء أم بإنظار معسر؟! فيراجع شريط ذكرياته ليُكرِّر صالح أعماله فينعم بنفس الثواب مرات كثيرة، وقد جعل الله ثمارًا عديدة تربو على الخمسين لمن حرس ثغور قلبه من عدوه، ولم يُدخِل منها سوى الحسنات الموالية للقلب والعاملة على مصلحته ومنفعته، لكن قضى الله أن لا يتذوق لذة هذه الثمرات إلا من زكى قلبه وسمت روحه؛ ولذا قال ابن القيم وهو يحاول أن يقنعك بجدوى هذه الحراسة وفاعلية ترك الذنوب:
«لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة، وصون العرض، وحفظ الجاه، وصيانة المال الذي جعله الله قِوامًا لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبة الخلق، وجواز القول بينهم، وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفُساق والفجار، وقلة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير عليه الرزق من حيث لا يحتسب، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تُلقى له في قلوب الناس، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظُلِم، وذبِّهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقُرب الملائكة منه، وبُعد شياطين الإنس والجن منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت، بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه، وصِغَر الدنيا في قلبه، وكِبَر الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة، ووجد حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له، وإقباله عليه، وفرحه بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجه من الوجوه».
لكن.. تُرى هل يلمح هذه المكافآت أحد غير أحياء القلوب؟! وهل يقوم بشكرها غير من يتمتَّعون بالرقة الإيمانية والحساسية النورانية والفطرة النقية التي لم تتدنس بعد؟
ومن أحياء القلوب هؤلاء وأرباب المشاعر الرقيقة هذه: يحيى بن معاذ الذي لمح ذلك بما حباه الله من بصيرة إيمانية ثاقبة فقال:
«إن العبد على قدر حبه لمولاه يُحبِّبه إلى خلقه، وعلى قدر توقيره لأمره يُوَقِّره خلقه، وعلى قدر التشاغل منه بأمره يشغل به خلقه، وعلى قدر سكون قلبه على وعده يطيب له عيشه، وعلى قدر إدامته لطاعته يُحلِّيها في صدره، وعلى قدره لهجه بذكره يديم ألطاف بِرِّه، وعلى قدر استيحاشه من خلقه يُؤنسه بعطائه، فلو لم يكن لابن آدم الثواب على عمله إلا ما عُجِّل له في دنياه لكان كثيرا»
وفي المقابل إذا حُرِم القلب الحي من طاعة بادر على الفور بالسؤال: بأي معصية حُرِمت وبأي خطيئة مُنِعت؟ أبكلمة غيبة؟ أبنظرة محرَّمة؟ أبعقوق والدة؟! أبسماع فحش؟! يسأل نفسه خاصة بعد أن ارتجف خوفًا واضطرب وجلا واقتنع بسلامة تحليل ابن القيم الذي انتهى إلى (أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم، فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلامه ورده عليه، وجعل عقوبة الغالِّ من الغنيمة لمَّا قصد تكثير ماله بالغلول: حرمانه سهمه وإحراق متاعه.
وجعل عقوبة من اصطاد فى الحرم أو الإحرام: تحريم أكل ما صاده وتغريمه نظيره.
وجعل عقوبة من استكبر عن عبوديته وطاعته: أن صيَّره عبدًا لأهل عبوديته وطاعته.
وجعل عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق: أن تُقطع أطرافه وتُقطع عليه الطرق كلها بالنفي من الأرض؛ فلا يسير فيها إلا خائفًا.
وجعل عقوبة من التذ بدنه كله وروحه بالوطء الحرام: إيلام بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل الألم إلى حيث وصلت اللذة.
وشرع النبي (ص)عقوبة من اطلع في بيت غيره: أن تقلع عينه بعود ونحوه؛ إفسادًا للعضو الذي خانه، وأولجه بيته بغير إذنه.
وعاقب من حرص على الولاية والإمارة والقضاء بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه، ولهذا عاقب أبا البشرآدم – عليه السلام- بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالأكل من الشجرة ليخلد فيها، فكانت عقوبته إخراجه منها ضد ما أمَّله.
وعاقب الناس إذا بخسوا الكيل والميزان بجور السلطان عليهم؛ يأخذ من أموالهم أضعاف ما يبخس به بعضهم بعضًا.
وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيهًا لأموالهم بحبس الغيث عنهم، فيمحق بذلك أموالهم، ويستوي غنيهم وفقيرهم في الحاجة.
وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسنة نبيه (ص)وطلبوا الهدى من غيره: بأن يضلهم ويسد عليهم أبواب الهدى.
وهذا باب واسع جدًّا عظيم النفع لمن تدبَّرهيجده متضمنًا لمعاقبة الرب سبحانه لمن خرج عن طاعته، بأن يعكس عليه مقصوده شرعًا وقدرًا دنيا وآخره..)
وممن تدبر هذا الباب:عمر بن الخطاب ولا أعقل، فقد روى الزهري أن عمر بن الخطاب أصابه حجر وهو يرمي الجمار فشجَّه فقال: «ذنب بذنب، والبادي أظلم»
وآخر على الدرب يقتفي أثر الفاروق خطوة خطوة وقدمه في إثر قدمه وهو أبو زرعة الرازي، فعن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال:
«اعتلَّأبو زرعة الرازي، فمضيت مع أبي لعيادته، فسأله أبي عن سبب هذه العِلَّة، فقال: بِتُّ وأنا في عافية، فوقع في نفسي أني إذا أصبحت أخرجتُ ما أخطأ فيه سفيان الثوري، فلما أصبحتُ خرجتُ إلى الصلاة، وفي دربنا كلبٌ ما نبحني قطُّ، ولا رأيته عدا على أحد، فعدا عليَّ وعقرني، وحُمِمت، فوقع في نفسي أن هذا لِما وضعتُ في نفسي، فأضربتُ عن ذلك الرأي»
وثالثهم سجَّان!! نعم سجَّان. قال بعض السجانين: «كنتُ سجَّانًا نيِّفًا وثلاثين سنة أسأل كل مأخوذ بالليل أنه هل صلى العشاء في جماعة؟! فكانوا يقولون: لا»
وصدق (صلى الله عليه وسلم )حين قال: «لايصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر»، بل وأكَّد: «المصائب والأحزان في الدنيا جزاء»
ومما يعين على قلة النوم:همُّ الخوف من النار، فقد كان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع عليه فيتقلب كما تقلى الحبة على المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول: طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين، وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلاة فيقول: اللهم إن ذكر جهنم لا يدعني أنام، ثم يقوم إلى مُصَلاه، ولما قالت ابنة الربيع بن خيثم: يا أبت مالك لا تنام والناس ينامون؟ فقال: إن النار لا تدع أباك ينام!! وكان صفوان بن محرز إذا جنَّه الليل يخور كما يخور الثور ويقول: منع خوف النار مني الرقاد، وكان سفيان الثوري لا ينام إلا أول الليل، ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي: النار النار.. شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول عقب وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، وهؤلاء عبَّر عن حالهم شعراعبد الله بن المبارك فقال:

إذا مـا الليـــل أظـلـم كابدوه …… فيُسفـر عنهـم وهـم ركـــوع
أطار الخوف نومهم فقاموا…… وأهل الأمن في الدنيا هجوع
ومما يعين على قلة النوم:معرفة قيمة الوقت، فوالله يا أخي.. لو أن ساعة من النوم حذفتها من ساعات نومك اليومية لأضفت إلى نفسك عمرًا آخر لو كنت تعلم، لتجد الفارق مبهجًا يوم القيامة.
ومما يعين على قلة النوم:قلة الأكل، فمن أكل كثيرًا نام كثيرًا فخسر كثيرًا.
ومما يعين على قلة النوم:التعامل مع الساعة البيولوجية بحكمة، فإن وظائف الجسم في الإنسان تستطيع أن تتكيف مع أي عدد من ساعات نومه، ولن يشبع أحد من كثرة النوم، لكن العاقل هو من أعطى جسمه راحته دون إفراط أو تفريط.
ومما يعين على قلة النوم:النوم على الشق الأيمن، «وقد قيل: إن الحكمة في النوم على الجانب الأيمن أن لا يستغرق النائم في نومه لأن القلب فيه ميل إلى جهة اليسار، فإذا نام على جنبه الأيمن طلب القلب مستقره من الجانب الأيسر، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله في نومه بخلاف قراره في النوم على اليسار، فإنه مستقره، فيحصل بذلك الدعة التامة، فيستغرق الإنسان في نومه ويستثقل، فتفوته مصالح دينه ودنياه»
ومما يعين على قلة النوم:حمل الهَمِّ وأعلاه هَمُّ الدعوة إلى الله، ورحمة الله على دعاة الإسلام في زماننا يحيون ما اندثر من سيرة السلف ويحيون قلوبنا عندما نسمع عن عزمهم، فقد حدَّثني والد زوجتي المهندس خيرت الشاطر أنه صاحب فضيلة الداعية الشيخعبد المتعال الجبري في رحلة دعوية دائبة، لتتواصل حركته من بعد صلاة الفجر انتقالا من محاضرة إلى درس إلى سعي في قضاء حوائج حتى انتصف عليهما الليل، ووصلا البيت في تمام الساعة الثانية فجرًا، ليجدا عند رجوعهما من ينتظرهما ليستشير الشيخ في أمر!! فاعتذر الأخ المضيف قائلا: إن الشيخ متعب من سعيه طيلة اليوم ولن يستطيع مقابلة أحد، وهنا قال الشيخ: ومن قال لك أني متعب؟ يا أخي.. أنا يكفيني كل يوم من النوم ساعتان، مجتمعتان أو متفرَّقتان!! فجلس مع الرجل وأشار عليه في مسألته!!

طريق الإسلام

20

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة