دموع العيد
تاريخ النشر: 07/08/13 | 12:20دخلت الى فرع البنك العربي في كفرقرع سيدة يبدو عليها انها في منتصف العقد الرابع من عمرها وكانت تحمل على جنبها طفلها الذي لم يبلغ بعد سنته الأولى. لم يكن هذا اليوم يوماً عادياً فقد تبقى على حلول عيد الفطر يومٌ أو يومان وكان البنك يعج بزبائنه . توجهت هذه المرأة الى جهاز ترقيم الدور وسحبت ورقة طبع عليها الرقم ٥٧ ثم جلست على احد المقاعد تنتظر دورها كبقية المنتظرين الذين كانوا يوجهون ابصارهم نحو شاشة ارقام الأدوار الالكترونية ينتظرون تتابعها بفارغ الصبر حتى مجيء دور كلٍ منهم ليتوجه إلى أحد الشبابيك ينتظره من ورائها موظف البنك ليقوم بتنفيذ المعاملات البنكية ولكنه لم يكن أدنى شك أن غالبية الزبائن العظمى قصدت البنك لسحب مبلغٍ من النقود لتغطية مصاريف ونفقات العيد الذي يقرع على الأبواب .
جلست السيدة على أحد مقاعد الإنتظار وأحتضنت طفلها وكانت تنقل نظرها بين الشاشة الالكترونية والورقة التي بين يديها ترقب تتابع أرقام الأدوار. لم تكن تبدو على المرأة علامات عادية ومع مضي الوقت بدأت تتضح هذه العلامات ليظهر الإضطراب جلياً على محيَّاها فأخذت تصدر عنها تنهيدات تزايدت بوتيرة عالية كأنها تحاول أن تطفيء ناراً كانت تنتشر في داخلها ثم أخذت تتطفو على سطح جبينها الذي أخذ يتصبب عرقاً رغم لفحات مكيفات البنك البارده. كانت المرأة بين لحظة وأخرى تفلت احدى يديها من ابنها الذي يقبع في حضنها لتمسح بها غشاوة العرق عن جبينها ثم تعود بها ثانيةً اليه فتألو جاهدةً لأفتعال ابتسامة مداعبة ثقيلة تلقيها على طفلها فيغفر فاه ويطلق منه ضحكةً قصيرةً متقطعة تعيد ألى أمه صوابها فتنظر الى الشاشة الالكترونية التي كان يظهر عليها الرقم ٤٦ فما زال رقم دورها بعيداً حتى تخيل لها أنه لن يحل أبداً فكاد صبرها ينفذ إلا أنها أخذت تغالبه فيهبطان عليها الهدوء والسكينة لهنيهة قصيرة ثم يهجراها لتعود ألى حالها المعهود.
حاولت جاهدة أن تشغل نفسها بما ينفعها لتسكين ألم ألأنتظار فلم تهتد إلى ذلك فجالت ببصرها على وجوه الناس من حولها ثم ما لبثت أن شاحت نظرتها بأرتباك فقد تهيأ لها أن كل من حولها بدأ يرقبها ولا سيما أن طفلها ما انفك يتناغم بين حينٍ وآخر بضحكته القصيرة المتقطعة راداً رأسه الى خلفه مثبتاً وجهه إلى ألأعلى صوب وجه أمه المرتفع باحثاً فيه عن سيماء إعجاب.
لم تبد الأم حينها أي أشارة إعجاب وإنما لاحت له في وجهها إشارات التأنيب والشكوى من ضحكاته التي أصبحت تثير إنتباه الناس لها فقطب الطفل حاجبيه وتشنجت أسارير وجهه لكنه أبقى فمه مفتوحاً ليقذف موجة بكاء فتداركت الأم الموقف واستجمعت كل قواها فقمعت قهرها ورمت عليه بقيةً باقيةً من إبتسامة باهتة فاكتفى الطفل بها وأبدل موجة البكاء بموجة من ضحكاته القصيرة المتقطعة عندها مسحت الأم بكفها لكن بحركة بطيئة العرق المتصبب على جبينها ثم استغرقت في تفكير عميق .
إفاقت من تفكيرها حينما أجفلها صوت تبدل أرقام لوحة الأدوار التي عرضت الرقم ٥٤ ففتحت قبضتها لتتفقد ورقة دورها التي باتت بالية جراء عرق يديها لدرجةٍ أن الرقم بهُت لونه وأصبح تمييزه يحتاج لبعض الجهد.
أحست السيدة بأنفعال عندما أدركت أنه بقيت ثلاثة أرقام فقط لحلول دورها فتعاظمت حركاتها واشتد توترها وأخذت رجفةً غريبة ومريبةٍ تسري في جسمها فتمالكتها الريبة الممزوجة بالحزن و الأسى .
لقد تعلق نظرها بشاشة الإرقام التي أخذت كل اهتمامها وذلك حين تبدل رقمين فسمعت رنات دقات قلبها المتسارعة وأحست أن أصداءها ملأت أجواء البنك وجلبته لكنها سرعان ما تجاهلت ذلك على أثر صوت تبدل شاشة الأدوار حينما أظهرت رقمها فقامت وتركت مقعدها محتضنةً إبنها وتقدمت نحو شباك موظف البنك بخطى قصيرة متوجسة ونطقت له برقم حسابها فبادرها الموظف دون أن ينظر إليها:
-وأي عملية تريدين أن أنفذها في حسابك.
حبست السيدة أنفاسها وأظهرت هيئةً رصينة وقالت بصوتٍ خافت:
-أريد أن أسحب مبلغاً قدره ٤٠٠شاقل.
أمعن الموظف نظره في شاشة الحاسوب إلا أنه أطال إلإمعان
فأخفضت السيدة رأسها نحو طاولة الشباك وصارت تحدج الموظف بين حين وآخر من تحت رأسها بنظرةً متسللة متوجسة لعلها تقرأ في وجهه الجواب.
كان الموظف صامتاً لا يكسر صمته إلا أصوات أزرار الحاسوب المنضبتة لإرادة أصابعه وكان لا يحرك نظره من شاشة الحاسوب ويزداد تركيزاً وإمعاناً وكانت السيدةُ رهينة الإنتظار الذي إستطال مثل دربٍ طويلٍ مظلمٍ ومقفر فتشتت أفكارها وأصبحت شاردة الذهن.
عادت السيدة من شروذ ذهنها عندما خطابها الموظف:
-لا تستطيعين سيدتي سحب أي مبلغ من حسابك.
-لماذا؟ فحسابي غير مدان بل فيه أودع فيه ٤٥٠ شاقل مخصصات الأولاد من التأمين الوطني .
-صحيح يا سيدتي ولكنك تعلمين جيداً أن حسابك مرهونٌ لحساب زوجك الذي تجاوز إطار الدين ولم يسدد مستحقات البنك فأحيل حسابه إلى محام البنك .
حال سماع قول الموظف جفت شفتاها وتفصدت حبات العرق على جبينها وترقرق الدمع في عينيها وخالته بصوتٍ مرتجف:
-لقد أدخلت في حساباتي أن تكون مخصصات الأولاد مصاريف العيد فكيف سأتدبر أمري الآن فأرجوك المساعدة.
-آسف سيدتي إني أقدر ظروفك ولكني أفعل ما يملي عليّ واجبي.
إعتمل القهر والغيظ في صدر السيدة وأنقطعت أنفاسها واستولى عليها الضعف والوهن فكاد طفلها يسقط عنها فتجابرت على نفسها وضمته إلى جسدها بقوه ووجهت له أبتسامة من عينيها المدمعتين فجاملها بضحكته المعهوده فاستفاقت مما هي فيه فوجدت أنها محط أنظار الجميع فارتعبت وفزعت وتمنت أن تبتلعها الدنيا فهرعت مسرعةً نحو مخرج البنك تغادره وهي مطأطأة رأسها لتتجنب رؤية نظرات الناس إليها.
سارت السيدة متثاقلة الخطى نحو بيتها ودموع العيد تنهمر من عينيها ترطب وجهها من أثار حر شهر آب اللهاب وما انفك طفلها يرسل باستمرار ضحكاته القصيرة المتقطعة.
محمد يحيى – أبو يحيى
آب ٢٠١٣ – كفرقرع
أحيّيك أخي محمّد على هذه الحكاية المؤثّرة، ففيها أكثر من درس وأكثر من عبرة. صدقًا، تابعت أحداث القصّة التي شدّتني، حتي النهاية المؤلمة!
موقف محزن كم ابكتني هذة المراة
قصة شائقة…من بين ثناياها الكثير من العظات والعبر!
مشكور