اليسار السياسي المأزوم

تاريخ النشر: 18/01/16 | 13:20

ننطلق من أن اليسار السياسي يتأرجح بين الإشتراكية والشيوعية، ومع تطور المفهوم اليساري بات يعبر عن تيارًا فكريا بين ركائزه الديمقراطية الإجتماعية والليبرالية الإشتراكية، تغيرت وتعقدت وتشعبت إستعمالات مصطلح اليسارية بحيث أصبح من الإستحالة إستعماله كمصطلح لا يتحرك ولا يتطور لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت سقف اليسارية، فنرى أن تحت مظلة اليسار في الداخل يندرج تيارات سياسية مختلفة مثل الحزب الشيوعي الاسرائيلي وأبناء البلد والتجمع الوطني الديمقراطي.

ويضيف الباحث اليساري كريم مروة في كتابه “نهضة جديدة لليسار” أن تعريف اليسار في هذه الأيام قد إختلف عن التعريف السابق، فنحن نجد اليوم ماركسيين يدعون إلى التحالف مع جماعات الإسلام السياسي، وشيوعيون قد إلتفوا حول الإمبريالية والرأسمالية الأمريكية في مواجهة خطر الإسلام السياسي، وبالتالي اختفت عناصر الإفتراق والإختلاف بين اليسار واليمين وأصبح من الصعب تعريف اليسار بسببهم.
سأحاول هنا التركيز على أحد الأسباب المركزية وهي “الخصام” مع الديمقراطية التي أدت بتقديري الى تراجع مكانة اليسار بين جماهير شعبنا، كظاهرة إجتماعية تمزج بين القيم المجتمعية والتنظيمات السياسية. كما سأحاول تحديد أهم مكامن القوة التي يجب تجييرها كي تتصالح الفئات الشعبية مع الفكر اليساري بعد سنوات من المغالاة في حفر الهوة بين اليسار وعموم الجماهير.
أولا وقبل الخوض في غمار أزمة اليسار وجب الاشارة والتحية بأن ادبيات اليسار السياسي في الداخل تحاول الإلتصاق بالهم الشعبي والكادحين والطبقة المتوسطة. وقد نجح اليسار السياسي أحيانا عبر قيادة استثنائية (الاسماء معروفة) بأن يزاوج في أدبياته وممارساته بين التبشير والتنوير والطلائعية والإرتباط بهموم الجماهير والتعبير عنها دون الإنحدار للشعبوية بمخاطبة غرائز الجمهور ومشاعرهم.

اثبتت البحوث المختلفة على أن أغلبية المجتمع الفلسطيني في الداخل، يتطلعون لأن تكون الأحزاب الفلسطينية ديمقراطية على مستوى الممارسة والشعار. فلا يمكن أن تقنع الأحزاب افراد المجتمع الفلسطيني بديمقراطيتها بينما يقبع في مراكزها القيادية شخصيات لا تتبدل منذ 30 عاما. كما لا يمكن أن تفهم الجماهير وتتجند تحت يسار يتحالف مع انظمة استبدادية في ظل الثورات الشعبية للتحرر من الطغيان والاستبداد العربي. يجب معالجة هذا الانفصام من جهة ديمقراطي ومن جهة اخرى متحالف ومؤيد لأنظمة العسكر والاستبداد كما يحصل مع فئات من الحزب الشيوعي والتجمع وابناء البلد التي تؤيد انظمة استبدادية مثل بشار الاسد والسيسي وحتى الصين الشعبية.
يجب أن تذوت قوى اليسار السياسية بأن الديمقراطية شرط اساس للحرية والعدالة والمساواة ركائز اليسار القيمية. كل البشر من بينهم أبناء شعبنا يبحثون عن تحقيق هذه القيم، فالتمسك بالديمقراطية كبوصلة لليسار في الداخل هو حجر الاساس للمعركة التراكمية على حقوق شعبنا كأقلية قومية تطمح أن تكون الدولة دولة جميع مواطنيها.
اليسار الديمقراطي الذي نتحدث عنه لا يرى بالتحولات الديمقراطية في الوطن العربي من على ظهر دبابة امريكية أو برعاية دولة استعمار اجنبية “ديمقراطية” بل يراها تدخل اجنبي سافر بسيادة الوطن. اليسار الديمقراطي القومي الوطني الذي نتحدث عنه يحث على تأسيس مجتمع مدني محلي عربي يناضل من أجل تداول السلطة دوريا وضمان حقوق المواطن والفئات الشعبية المختلفة واستقلال وديمقراطية الجهاز القضائي والتنفيذي والتمثيلي في الوطن العربي.

اليسار السياسي مثل الحجر الذي نرميه في البحر وهناك يصنع عدة دوائر متداخلة ومترابطة. لليسار السياسي والديمقراطية تاريخ متنافر على عدة مستويات منها التحالفات السياسية مع الإستبداد الذي تمثل بتأييد اليسار المطلق لحكام ودول رغم فشل الحركات اليسارية في بناء المجتمع الديمقراطي ودولة المؤسسات عند توليها الحكم وزمام الامور في شرق اوروبا والاتحاد السوفيتي والشرق الاوسط والعالم العربي. وهناك ايضا مستوى الممارسات الداخلية التنظيمية أي العلاقات التنظيمية والممارسات الحزبية وتداول التمثيل والقيادة في الحزب ذاته فقد عجزت قوى اليسار الفلسطيني عن تنظيم أو إكتشاف قيادات جديدة طبيعية، نابعة من بين الجماهير وتحويلها إلى كوادر حزبية قيادية. كما هنالك جانب بناء المؤسسات لدمقرطة المجتمع وتحويل اليسار من حاجة نخبوية فكرية الى مشروع يؤثر على حياة الناس اليومية وأحلامهم الصغيرة. واذا اخفقت هذه الممارسات ديمقراطيا كيف يمكننا أن نقنع عموم الناس بأننا ديمقراطيون ونعود لرغبة الجماهير والقواعد المنظمة.

إن هذا التناقض غير المبرر بين قوى اليسار والديمقراطية والضبابية في الموقف من أنظمة العسكر والإستبداد يزيد من أزمة اليسار وقد ينعكس ذالك على كوادر مرتبكة لا تستطيع الدفاع عن احزابها بسبب حالة عدم الوضوح فحتى ان احدا لا يدرك حقا من هو اليساري، هل هو الليبرالي ام الاشتراكي ام خط الممانعة ام الناصرين ام الديمقراطيون الاشتراكيون.
سأكتفي الى هنا عن الدمقرطة وسأحفظ جزء اخر لمقال مفصل عن المصالحة مع الدين الوسطي كمركب أساسي في هويتنا الحضارية وعن اهمية احترام مشاعر الجماهير الدينية وعدم التعالي على مناسباتها ومعتقداتها وثقافاتها الدينية و أهمية محاولة الإقتراب من مشاعر الناس وامزجتها الدينية. لا يطمح المقال بتقديم كل الاجابات ولكنها انارات عسى أن يجمعها من في القيادة ويصنع منها بقعة ضوء.

ممدوح إغبارية

mmdo7eghbarih

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة