البحث عن البلاطي
تاريخ النشر: 13/08/13 | 2:49كل محاولاتنا للبحث عن البلطي ذهبت ادراج الرياح ..نحسه ..نلمسه..نراه يطل علينا من بين خيوط الشمس ا لمتسللة في الصباح..نحاول التقاطه من بينها,فلا نمسك سوى خيوطها الخادعة ..نراه تحت زيتونة رومية,يتوحد مع ظلها المرشوش ببفع الشمس, ولكننا عندما نصلها,لانجده,ولا نعرف ان كان اندمج مع الظل, ام اصبح جزء من فتافيت الشمس المتناثرة بين ظلال الشجرة ..!!
ألأسم :صابر البلاطي..
العنوان :…………….!!
ان وجدته.. لاتحاول التعرف عليه من خلال هويته, فهو لا يحمل هوية..!! والاسم صابر.. أطلقه الناس عليه,نظرا لصبره على الفقر وضربات الدهر..!!
و"البلاطي" – كما لايخفى عليك – جاءت من اسم مخيم بلاطه ..
ورغم انه ليس من سكان المخيم الدائمين ,ولكن أهل المخيم نسبوه اليهم,لأنهم لم يجدوا له اسم آخر,قانتشر هذا الاسم في كل البلاد-فهو اذن اسم بلا بلد ..!!والسبب الثاني ,ان الاسم "بلاطي.." لم يطلق على مقيم آخر في المخيم..فلن تجد مثلا :أسعد البلاطي او حسين البلاطي..
سئل مرة ان كان من مواليد يافا فأجاب :يافا..غزة ..نابلس..ولم يزد..!!
حدثني "محمد البلعاوي انه رآه – آخر مرة – يتجول في مخيم الدهيشة,يتلقى حجارة أطفال المخيم ,وابتسامة الرضى مرسومة على شفتيه ..!! وعندما سأله أحد هم:لماذا لا تبتعد عن مرمى حجارتهم..!؟ : أجاب كعادته باقتضاب :الى أين..!!؟ واستمرفي السير البطيئ .. حيث كانت حجارة الاطفال , تزيد ابتسامته اشتعالا ..!!
لاتحاول ان تبحث عنه هناك – في مخيم الدهيشة..لن تجده.. فهو يغير مواقعه بسرعة..!!
رأيته مرة واحدة ,قبل ان يختفي عن الانظار..رجلا..لاتستطيع ان تحددعمره..فكل رقم بين الخمسين والمئة "معقول" ..وان نظرت الى قامته المحنية الى اأسفل ,ووجهه "المحروث" ,فقد تعطيه المئة وأنت "مقصر " .. اما اذا التقت عيناه بعينيك, تجد نفسك مسحورا أنت ورقمك ..فتتقزم..!! ويتقزم ..!! ,اما لباسه فهو عبارة عن "دماية" بيضاء مقلمة بالازرق , اسود بياضها ,وخفت زرقتها,فاختلطا معا ,فلا تكاد تفرق بين الارضية والخطوط..!! تغطي رأسه كوفية فلسطينية حمراء.."يزينها " عقال ..كان عقال ..!!
ولم أره مرة أخرى .. واعلاني هذا أنشره ,خدمة لأهالي نابلس ,الذين فقدوا شهيدا في احدى المظاهرات ..نقله الشباب الى المستشفى ..حاول الاطباء اخراج الرصاصات من قلبه,وانقاذ حياته فأخفقوا ,ومات بين ايديهم..أرادوا تسليم الرصاصات لأهله للذكرى,فلم يجدوا لها أثر ..!! فقيل لهم ان "صابر البلاطي,كان في المستشفى , فظنوا به, وبحثوا عنه عبثا ..!!
لماذا كان في المستشفى..!!؟ وما حاجته الى الرصاصات..!!؟
وصلت لرجلين منهم اخبار,تفيد انه يتجول في "قصبة " نابلس..فراحا يتجولان فيها,باحثا ن عنه ,ولكنهم شعرا ان أمرا غريبا يحدث لهما : كانت حواجز العسكر المنتشرة هناك تفتح لهما ,دون تفتيش ,أو ضروب من الاهانات ,ولكن عندما نظرا خلفهما , لاحظا ان جنديا يتعقبهما ..فعرفا السبب ..!!
قفا مكانكما ولا تتحركا.. !! سمعا صوتا عرفا مصدره..
تقدم الجندي منهم,وراح يفتشهما,فحمدا الله انه ترك ثيابهم على اجسامهم..!!
_وين "بروخ" انت ..!! سأل محاولا افلات بعض الشرارات من عينيه الخائفتين..
"اخنا بروخ" بدور على صابر البلاطي ..!! قال أحدهما مقلدا لهجته..
كلكم صابر البلاطي ..كلكم اوباش..كلكم مخربون..!! قال وبندقيته مصوبة نحو رؤوسهم..
بسرعة "بروخ" البيت ..بسرعة ..!! قال وهو يغرز بندقيته في ظهر احدهما.. فأحس بارتجافها ..!!
لا تحاولوا ان تبحثوا عنه في قلقيليا, فقد غادرها منذ زمن,رأته هناك صبية ,انسلت ليلا ,متحدية منع التجول المفروض على المدينة ,وتوجهت الى المقبرة ,لتدفن خاتم الخطوبة ,في ضريح خطيبها ,الذي استشهد قبل أيام قبل ان يصلب ترابه , وعندما انتهت من دفنه ,ومشت بضع خطوات مبتعدة عنه..رأت رجلا ينبش القبرباحثا عن الخاتم وفهرعت نحوه ..وقبل ان تصب عليه غليان دمها المسفوح ,وضع يده على جبينها,فشعرت بفيض من الحنان والدفئ ,يسري في عروقها,فيحولها الى ملاك مشدوه..!!
ولم الخاتم…!!؟ سألته وهي تحتمي تحت خيوط اشعاعات عينيه ..
سأوصل الخاتم الى هناك — انه لم يعد هنا …انه هناك …!!لقد عرج..!!
الى أين ..!!؟ سألته حالمة ..
الى هناك ..!! قال وهو يشير الى السماء ..وابتسامة قمرية ترتسم على شفتيه..
حدثتني" زينب القنيرية " ,من مواليد "غور نعجة" , وتسكن حاليا في مخيم "نور شمس ",أنها رأت رجلا يشبهه "يوم الثلاث " . فبينما كانت نساء المخيم يسرن في مظاهرة, مطالبات بجثث الشهداء, الذين قتلوا في مظاهرة الرجال..اذا برجل يخترق الموكب, ويختطف رضيعا ,من بين يدي "ام عامر الفحماوية ",ولم تشعر بفقدان طفلها,الا بعد دفن الشهداء..!! ..بحثت عنه , فلم تجده بين يديها فأغمي عليها,وعندما فتحت عينيها ,وجدته في حضنها..فلم تسأل أين كان..أخرجت ثديها,كي تشغله به رغم أنها كانت تعرف انه لايحتوي على الحليب..فسمعت صوتا موجها اليها من بعيد يقول :
لقد أرضعته يا أختي ..!! وغادر المكان ولم تره بعد ذلك ..فعرفت انه البلاطي..
سافرت الى جنين أبحث عنه ,بعد ان التقيت بطفل منها ,في السابعة من عمره ,يبيع المصاحف على مفرق "ام الفحم "وعندما سألته ان كان يعرف شيئا من اخبار البلاطي قال : أ نه رأى ليلة أمس رجلا يحمل كيسا من البصل على ظهره, ويرمي بالبصل في شوارع" جنين",والناس ينظرون اليه باستغراب شديد , وتيقنوا ان الرجل لا بد انه ااصابه مس من الجنون,وعندما اندلعت مظاهرة الظهيرة ,رأيت الناس يلتقطون البصل من الشوارع ,مقاومين الغاز المسيل للدموع..!!
فقلت في نفسي :انه البلاطي …!!
فتوجهت الى جنين ..باحثا عنه فوجدت البصل..ولم أجده …!!
بعد هذه الحادثه,تأكدت جيوش الاحتلال ,انه خطر على أمنها وسلامتها..!!
فاعتقلت الآلاف من الفلسطينيين معتقدة ان أحدهم لا بد ان يكون البلاطي, ولكنها سرعان ما اكتشفت ,انه خارج قبضتها .حدثني أحد "المتعاونين" معهم ان الضابط امنون- ضابط المناطق- اصابه مس من الجنون,وبات يؤمن بالسحر,وطاقية الاخفاء ,حتى انه توجه الى سحرة نابلس من "السمرة" ,طالبا منهم :الضرب بالمندل والرمل ,ليساعدوه في حل لغز البلاطي ليتمكن من القبض عليه ,والتخلص منه ..فقالوا له : ان البلاطي أقوى من السحر..!! فوضع الكثيرين منهم في السجون ,لرفضهم التعاون معه .وتركته زوجته ,بعد ان اصبح ,يتخيل البلاطي ,يلاحقه ,في الليل والنهار,وفي النوم واليقظة..!!
واقترح عليه أحد مستشاريه – الذي يطمع في منصبه – أن يرمي جميع سكان الضفة في السجون ,فيضمن بذلك القبض على البلاطي..فنصحه آخر ان لايفعل ذلك, لأ نهم- تحت الأحتلال- ,لا يفرقون بين وجودهم داخل السجون وخارجها ..!!
ولكن السؤال المحير : لماذا أخذ الرصاصات ..!!؟ ومذا فعل بها ..!!؟
مررت بمخيم "الفارعة " ,باحثا عنه ,فلفت انتباهي طفل,يصنع تمثالا على صخرة تجثم في مدخل المخيم, وعندما سألته : ماذا يصنع ..!؟ قال لي :انه البلاطي..!! لقد كان رأسه من تراب غزة ..وأطرافه من عيدان دوالي الخليل.. أما باقي جسمه فكان من خشب اغصان رامة الجليل ..!!
وعدما سألته : كيف صنع تمثالا لرجل لم يشاهده في حياته فأجاب : ان البلاطي رجل مثل :سلامي الكفريني ,وسالم اليافاوي, ومحمد النابلسي ….
وان أردت ان تعرف عنه اكثر, فاستمع الى الحادثة التي حدثت مع امهات وزوجات واولاد معتقلي سجن مجدو .. فقد كانوا "منشورين " أمام السجن الذين كانوا قد بدأوا بعد الدقائق والثواني منذ الفجر, منتظرين وقت زيارة اعزائهم. تقدم "محمد العنبتاوي "من العسكري ,الذي كان كان جالسا وراء البوابة الحديدية .بعد ان تأكد من أن عقارب ساعته تجاوزت السابعة- موعد الزيارة- بخمس دقائق, زيادة في الحيطة ,ترافقه جميع عيون الزائرين منتظرة النتيجة..وعندما وصل, صرخ به الجندي :
الى أين ..!!؟
زيارة يا خواجه ..!! قالها وهو يشير بسبابته على ساعته ..
لقد تأجلت ا لى السابعة ..!! رد عليه الجندي..
لماذا …!!؟ انتشلها من بين ,مشاعر الغضب والقهر والقرف ,التي تفجرت في عروقه ..
أوامر …!! نطق الجندي ببرود مهين, يحمل كل معاني السخرية والاحتقار..
ارتفعت آهات النساء اللواتي احضرن معهن اولادهن لرؤية آبائهم واخوتهم, ولا يوجد معهن من الطعام والماء ,ما يكفي لما تبقى من اليوم الطويل ,خصوصا بعد الزيادة التي فرضها السجانون, واصبحت صرخات بكاء الاطفال تسمع من بعيد ,وانطلقت ولولات الشيوخ وكبار السن,تقطع القهر الذي بنته في صدورهم زيارات السجون ..!!
أخذ النهار الطويل الثقيل , يجر شمسه المحرقة ,ليضعها قي منتصف السماء ,حارقة شفاه وبطون الزائرين..ولم يبق من أجسامهم عضو قادر على الحركة,الا عيونهم..تتحرك في الفضاء باحثة عن اللا شيئ..
ورمى الصمت حباله فخنق الاصوات ,فلم يفلت من قبضته سوى:طفل يبكي ,او ام تستغيث ,اوشيخ يحمد الله,على كل شيئ, ولو كان مكروها ..!! واذا برجل يأتي من بعيد…توجهت عيونهم صوبه.فرأت شيخا حاني الظهر يتقدم نحوهم ببطئ..ولكن بثبات ..كان في يديه سلتان , وعلى ظهره قربة ماء..وعندما وصل وزع من سلتيه وقربته اكياس الحليب, وجرعات الماء على الزائرين ,فخفف عنهم عذابات الجوع والعطش ..
من انت ..!!؟ سألته عائشة البدوية ..
انه لا بد ان يكون عامر البلعاوي..!!!
فابتسم ..وغادر المكان مسرعا ..دون ان يترك لأحد فرصة التكلم معه..!!
لا تحاول ان تجده في ساحات القهر والدموع ,التي تحيط بسجن مجيدو..ربما سيكون متواجدا : في سجن الدامون او معتقل نفحة او سجن الرملة..وقدلا يكون هناك ..!!
ولكن لماذا أخذ الرصاصات ولم يعد ..!!؟
سمعت خبرا من" نابلسي" قصد بلدنا ليجمع ,الطعام والكساء,لأطفال مخيم "الفارعة " . ان فتاة من المخيم ,استسلمت لبكاء شديد,تسلط عليها لأيام طوال أيام ,ولم تجب عن كل الاسئلة التي وجهت اليها,عن سبب هذا النحيب المتواصل,وعرضت على الاطباء ,فعجزوا عن معرفة السبب,حتى جاء يوم ,كان أهل المخيم في طريقهم لدفن طفل أصابته رصاصة ,وهو يلعب مع أترابه ,بكرة من قماش ,فسال الدم من بطنه ,ولم يعرف له سببا .فقال لأصحابه :سأعود الى البيت لكي تمسح أمي الدم , ثم أرجع لاكمل اللعب معكم ..ولكنه سقط شهيدا في الطريق.. قبل ان يصل أمه..!! واذا برجل يخترق موكب الجنازة ,ويتوجه الى النعش ,ويكشف عن رأس الطفل ,ويعلق به قلا دة , عبارة عن خيط ,تتدلى منه رصاصة,ويغادر المكان مسرعا, ويتوجه الى بيت الفتاة الباكية ,ويعلق في جيدها, قلادة مثلها..!! ..قربت الرصاصة من عينيها ,فرأت اسم حبيبها, الشهيد النابلسي منقوشا عليها ,فاكتسا وجهها ,بفيض من السكينة والحياء .وعندما رفعت عينيها ,لتتبين الرجل..رأت رجلا… لا تستطيع ان تحدد سنه ,فكل رقم بين العاشرة والمئة "معقول" ..!!نظرت الى دمايته ,فرأت خطوطا غامقة الزرقة, كأنها قطعة من السماء الصافية,تزين أرضية ناصعة البياض وعقاله الاسود, يتربع على بكبرياء على حطة فلسطينية حمراء,كأنها قطعة من الشفق الأحمر..!!
وقامته التي كانت منحنية بدأت تستقيم ..وتستقيم ..وتزيد طولا .. .وصار كلما ابتعد عنها صارت.. تزيد طولا.. حتى أصبحت تمتد ..من النهر حتى البحر …!!
لا تحاول ان تبحث عنه ..لن تجده…فهو ليس موجودا في مكان معين..وانما موجود في كل مكان من البحر الى النهر ..!! ولن تجده في زمان معين..بل موجود في كل زمان حتى آخر الدهر ..!!