ميسون أسدي تجلس النكبة على "كرسي في مقهى"!
تاريخ النشر: 18/08/13 | 7:24تظلُ للأدب القصصي والروائي القادم من جليل فلسطين خصوصيته المفعمة بالرغبة في ملامسة تلك العوالم التي يعيشها منذ ستة عقود ونصف أولئك الفلسطينيون الذين وجدوا أنفسهم منفيين في وطنهم. هو سرد ينتبه لملامح وتفاصيل صغيرة تلتقطها حدقة الأدب مباشرة من هناك، أي من تلك المساحة الشائكة، حيث المكان والزمان يعيشان محنة المحو القسري .
بين كتاب القصة القصيرة الفلسطينيين تتميز تجربة ميسون أسدي بمزجها الجميل بين موضوعات العيش اليومي "هناك" وروح الكاتبة الأنثى التي تموج بخصوبة الرؤى وثرائها، وتنجح في استعادتها أدبيا في سياقات فنية تنتمي لروح المكان برهافة. ميسون أسدي تعثر على "حكايات" قصصها في تلك المساحة شبه الغامضة بين ما هو واقعي معاش وبين الذات الفردية بفرادتها وخصوصياتها، وهي تنتبه بالذات لأثر الواقع السياسي والاجتماعي على البشر العاديين وصور تفاعلهم مع ذلك الواقع بكل ما فيه من قسوة.
في كتابها القصصي الجديد "حكاوي المقاهي" وبعنوان فرعي هو "كرسي في مقهى" تختار ميسون أسدي أن ترى العالم الاجتماعي من خلال المقهى الذي يرتاده زبائن من مختلف المشارب والأهواء، والذي يمكن من انفتاحه على الشارع متابعة بشر كثر في رحلاتهم اليومية للعمل والتسوق.
تقوم "اللعبة" الفنية في قصص "كرسي في مقهى" على سرد ينطلق من راوية يأخذ مكانه في المقهى ليرى من هناك ما يحدث أمامه: الذي يحدث ليس بالضرورة وقائع كبرى، بل سياقات "عادية" من حياة البشر العاديين في تفاصيل عيشهم، والكتابة القصصية في هذه الحالة انتباه للجزئي الذي يبدو عادة عابرا وحتى هامشيا قد لا يعني أحدا سوى أصحابه. هنا بالذات تقع جدارة السرد إذ هو ينهض على عوامل تقع خارج "البطولة" بمعناها المعروف والتقليدي، لتبحث عنها في مكان آخر هو حكايات من تنساهم عادة السرديات القصصية والروائية وتراهم بعيدين عن امتلاك بؤرة ضوء تغري الأدب على التحديق فيها. أكتب هنا عن طبيعة الموضوعات التي تختارها ميسون لقصصها، وعن حدقة الرؤية التي تقوم كما أسلفنا على "مراقبة" ما يجري في الواقع، وفي الحالتين نحن أمام تجربة قصصية ذات علاقة وشيجة بالمكان الفلسطيني لا باعتباره جغرافيا وحسب، ولكن أساسا بوصفه أتونا لحرائق قد لا ترى بالنظر العابر، إذ هي علاقات اجتماعية- إنسانية تشكلت وأخذت ملامحها من واقع التكوين السياسي المهيمن "هناك"، أي في تلك البقعة التي شهدت قبل ستة عقود ونصف العقد كارثة العام 1948 وما نتج عنها. قصص هذه المجموعة لا تتناول هذه التراجيديا الكبرى في صورة مباشرة، ولكنها تذهب بدلا من ذلك إلى محاولة قراءة تأثيراتها العميقة في الحياة الإنسانية لضحايا تلك التراجيديا غير المسبوقة، وأيضا رؤية ما يمكننا هنا أن نسميه دون تردُد وعي الضحايا ونظرهم لما يدور من حولهم.
آثرت في تناول هذه التجربة القصصية البليغة في تكويناتها الموضوعية والجمالية أن أبتعد عن "تشريح" قصص بعينها، أو"بسط" حكاياتها أمام القارئ فذلك ممكن وقد يكون نافعا في حالة مجموعة قصصية أخرى، فالأهم مع هذه القصص الجديدة هو رؤيتها كتعبيرات جارحة وإن بالغة الجمال عن حياة كاملة تحتاج في صورة مستمرة أن تكون في بؤرة ضوء ساطع وأن تأخذ حقها في قراءة الفن القصصي على نحو مختلف لا يقع في نوستالوجيا الفرد والجماعة، ولا يعيد رسم ما يحدث من خلال خطوطه الفلكلورية التي عاشت فيها قصص فلسطينية كثيرة.
ميسون أسدي تنتبه للمشاعر والأحاسيس الفردية للرجال والنساء في جحيم يضع الجميع أمام مآس غير مسبوقة ويتركهم يعبرون عن أنفسهم بكيفيات قد تبدو في كثير من الأحيان شاذة لم يعتدها قارئ الأدب القصصي، ولكنها رغم ذلك "حقيقية" بل هي أكثر حقيقية من الأفكار والتحليلات السياسية وتوصيفاتها. هي إضافة أدبية وجمالية هامة لذلك الجهد الإبداعي الجميل الذي أنتجت ميسون أسدي من خلاله قصص مجموعتها السابقة، "لملم حريم" قبل قرابة عامين، والتي قدمنا لها عرضا يومها .