مجلس للبرّ أم مقهى؟
تاريخ النشر: 11/02/16 | 6:22الحمد لله وبعد،،
قد يكون لك ولأشقائك اجتماع، أو عدة اجتماعات، خلال الأسبوع، مع والديك أو أحدهما..
أثناء استرسال الأحاديث والفكاهة كثيراً ما يتبادل الأشقاء أخبار الموضوعات الحيّة ممزوجة بالتعليقات والضحكات.. ولكن تدريجياً يصبح الوالدان على هامش المجلس وخارج مركز الحديث..
بل لربما شارك أحد الوالدين بتعليق ضاع في جلبة الصوت..
بالله عليك هل هذا “بر بالوالدين” نقدم به إلى الله؟
نضرب الموعد للاجتماع عند الوالدين -أو أحدهما- ثم يكونان مجرد “مكان” اجتماع!
هل أصبحت زيارة الوالدين -أو أحدهما- حالة جغرافية تكتفي بالوجود في الموقع فقط!
هل منزل الوالدين -أو أحدهما- موضع يقصد للبر بهما..؟ أم صار مقهى نجتمع فيه وهم على هامشه وأطرافه..؟!
الله جل جلاله في كتابه العظيم يكرر اقتران التوحيد والشرك، بقضية البر بالوالدين، في بضعة مواضع من كتابه..
أفيكون هذا التكرار عبثاً! حاشاه سبحانه..
يقول الله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
ويقول الله أيضاً (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
ويقول الله أيضاً (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
بل إن الله سبحانه يأخذ الميثاق على الأمم قبلنا بأن يبروا بوالديهم (وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)..
تأمل مثل هذه السلوكيات غليظة الطبع، فاترة الذوق، في مجلس بعض الأبناء مع والديهم.. ثم انظر كيف يرفع القرآن السلوك إلى مرتبة “القول الكريم” كما يقول الله:
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)..
ويشرّف القرآن حالة “التذلل” والانكسار للوالدين (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ)..
إذن كيف يصل الإنسان لمرتبة “القول الكريم” و”خفض جناح الذل” في المجلس مع الوالدين؟
بل ما معنى “القول الكريم” الوارد في الآية؟
القول الكريم الوارد في الآية كما قال ابن جريج في كلمة جامعة (هو أحسن ما تجد من القول).
وقد جاء أبو الهداج سليمان بن الهداج التجيبي، فسأل سيد التابعين سعيد بن المسيب سؤالاً فيه نوع تدبر للقرآن فقال:
(قلت لسعيد بن المسيب: كل ما ذَكَر الله عز وجل في القرآن من بر الوالدين، فقد عرفته، إلا قوله {وقل لهما قولا كريما}، ما هذا القول الكريم؟)
فلم يُجِب سعيد بن المسيب بتعريف أو حد، أو بمقابل لفظي، بل ضرب صورةً مؤثرة توصل المعنى للقلوب فوراً..
قال أبو الهداج (فقال ابن المسيب: قول العبد المُذنب للسيّد الفظّ).
يعني أن العبد إذا أذنب تذلل، ثم يزيد التذلل إذا كان السيد فظاً!
فابن المسيّب كأنه يقول أرأيت يا أبا الهداج هذه الصورة التي يبلغها العبد المخطئ من التذلل لسيده الغليظ؟ فابلغ نظير هذه الصورة من التذلل لوالديك!
ما أعمق علم السلف.. وما أحلى بيانهم..
حسناً.. فكيف يكون “خفض جناح الذل”، وكيف يكون “القول الكريم”، في مجلس الوالدين أو أحدهما؟
يتحقق هذا بأن يكون الوالدان هما “مركز المجلس” وهما “محور الحديث”.. تشرئب أعناق الأبناء لسماع حديثهم.. ويستحثونهم على مواصلة الكلام بإظهار علامات التفاعل والتعجب لحديثهم.. حتى لو كان حديثاً مُعاداً مكروراً سمعه الأبناء مراراً..
ويسألهم الأبناء عن رأيهم وتقييماتهم في الموضوعات التي تثار..
ويظهرون التنافس على التنبه لفنجان الوالد أيهم يسكب له قهوته..
ومن أبهى مشاهد البر أن ترى بعض الأبناء الذين تذوقوا لذائذ هذا المقام، إذا جلسوا مع والديهم يرمقون نظرات والديهم بلطف، فإن لمسوا من نظرة أحد الوالدين أنه احتاج تقريب شيء من طعام أو منديل أو نحوه.. تباروا في تقريبه إليه..
يا الله كم لتلك المشاهد من رونق إيماني وأخلاقي أخّاذ..
المعطيات “المعنوية” في بر الوالدين أكثر فخامة من مجرد الخدمات الحسية..
بالله عليك تذكّر مجلساً كنت عموده.. بعضهم يسألك، وبعضهم يتعجب لحديثك، وبعضهم يضحك لطرفتك، وكيف كنت منفسح النفس حينذاك وسرعة تصرم ساعاته عليك.. وقارنه بمجلس حضرته وكلما شاركت بكلمة لطمك برود الحاضرين وانصرافهم عن حديثك، وكيف كانت مرارة ذاك المجلس عليك وتطاول ثوانيه كالجبال فوقك..
أترضى لوالديك في الوقت الذي جئت لبرّهما أن تذيقهما هذه المرارة الصامتة؟!
بل كانت هناك صورة تثير الوجع كنت قد وضعتها مطلع هذه الخاطرة، ثم حذفتها، ولما بلغت هاهنا رأيت أن أذكرها، فلعلّ فيها فتحاً لباب من الخير.. وهي أنني وجدت في بعض المجالس أنه ربما تكلم أحد الوالدين وقطع أحد الأبناء حديثه بكل أريحية! إي والله هذا ما يحصل!
بل ربما انتهى فنجان الوالد ومن حوله من أبنائه غير مكترثين بإظهار الاهتمام!
يا لفدامة الطبع.. وسماجة الإحساس..
أهذا هو “القول الكريم”.. ؟ أهذا هو “خفض جناح الذل”.. ؟
أهذا هو ” قول العبد المُذنب للسيّد الفظّ” .. إيه .. رحمك الله يا ابن المسيّب!
وصلى الله وسلم على نبّينا محمد وآله وصحبه وسلم،،