صمت مبعثر
تاريخ النشر: 14/02/16 | 0:25أوّلًا،
في الغربِ، غيرَ بعيدٍ عن حوضِ البحرِ المتوسّط، على خُطا زوارقِ الفينيقيّين، فوقَ خيوطِ بينيلوبيا(1) المفكوكةِ في ساعاتِ اللّيْل، وراءَ بسمةِ الموناليزا(2)، استمَعنا إلى قهقهةٍ وغصَّتَيْنِ، ومُناجاةٍ لِحَبيبٍ ودمعةٍ على قمَرٍ لا يحفظُ الذّكرى، ثمَّ رحلنا إلى الشّرق.
..
ثانيًا،
كانت باريسُ يومذاك تُقيمُ في ثِياب القياصرة والدَّجَلُ يهطلُ من شُرُفات القبّعاتِ المُرتفعة. وكانَ راسبوتينُ(3) يستحضرُ الماضي والخوفَ القديم، ويَسقي نساءَ القيصرِ شرابًا من ماءِ كتاب ابن سيرين(4) ويُتبِّلُ بالمِلحِ جِراحَ آخرِ الخلفاء لنشرِها على سطحٍ مُشمِسٍ.
…
ثالثًا،
سيقولُ قائلٌ: كلّما اتّسعت النّظرةُ تضيقُ العَيْنُ(5)، وكلَّما اتّسعت البلادُ يضيقُ القلبُ.
وسوفَ نُغمضُ كي نرى ما لا يُرى. سنُشمِّعُ آذانَنا كي نسمعَ همسَ النّجوم. سنرحلُ عن أرضِنا كي نشُمَّ عبيرَ القطرِ في ثرَاها. سنخرجُ خارجَ الوَقتِ لنكشفَ أسرارَ الرّواية. وسنلعبُ لُعبةَ اللّوغو ولعبةَ الزّوغو(6).
….
رابعًا،
ها هو قيظٌ يقيمُ في خُوَذِ جنود نابليون على أبوابِ القاهرة. صقيعٌ يقيمُ في قلوبِ السجّانين قربَ القُطب الشّماليِّ وسوقِ اللّحمِ في أبو غْريب. وضبابٌ يُقيمُ في سانت بطرسبورغ(7).
لكنْ، في مُتحفِ الإرميتاج(8) ما زالت تجلسُ الجميلاتُ في الأطُرِ الخشبيّة المذهّبة، يزركِشْنَ أساهُنَّ ببسْمةٍ مطّاطيَّةٍ يرسمُها مُهرِّجٌ أحمرُ الأنف، ويتدرَّبْن على إتقانِ الحُروفِ الأنفيّة ونقلِ مركزِ الكُرةِ الأرضيّةِ من القُدسِ إلى نيويورك. ثمَّ يُحرِّكنَ الرّيحَ بمراوحَ زهريّةٍ ويراقِبْنَ الجماهيرَ من قِمَمِ فساتين الحرير. أمّا الموناليزا فما زالت حزينةً، هناكَ أيضًا في مدينةِ سانت بطرسبورغ، تذرفُ بسمَتَها في البحرِ، داخلَ “بِرواز” نسختِها العاشرة.
….
خامسًا،
وفي المحيطِ، خلفَ الشَّبابيك المختالةِ في عليائِها، قربَ المدافعِ التي صدِئَت بعدما دكَّتْ قصرَ الإرميتاج والبابيونات المُختالة فوقَ الحناجرِ الماسيّة، شعوبٌ تجتازُ الشّارعَ من ضفّةٍ إلى ضفّةٍ. خيولٌ محسورةُ الرٌؤيا تجرُّ عرباتٍ مُعبَّأةً بالسّهوبِ وعرقِ الفلّاحين والحُلولِ الوسَط. والنّساءُ المتسلّقات على الأحذيةِ الشّاهقة، يقُمنَ ويقعُدنَ داخلَ الأُطُرِ المُذهّبة، ويمارسنَ حديثَ الطّبقاتِ العُليا بصَمت.
….
سابعًا،
لكنَّ صاحبَنا، يوسِّعُ العبارةَ والرّؤيا(9)، ويكتفي بالإصغاءِ إلى النّسخةٍ العاشرة من الجيوكندا. سيقولُ الصّمتُ صوتٌ صارخٌ في برّيّةِ المدينة والضّجيج. وها هوَذا ما يزالُ، كلّما فتحَ عينَيْهِ، يتناثرُ حُلمُهُ الطّازجُ على أطراف السَّرير المملوءِ بالعَثِّ، ويتسرّبُ في جسَدِ الغِطاء. يجمعُهُ في قارورةٍ. يُمشِّطُ لحيتَه بأصابعِهِ. يبكي بلا دمعٍ. يقومُ إلى طاولةٍ داكنةٍ. يُلقي التّحيّةَ على الأخوة كارامازوف(10)، في طريقِهم إلى دارِ الأيتام. يهبطُ إلى القَبو ويُبرِّئُ قابيلَ من دمِ أخيه.
….
ثامنًا،
ثمَّ يفتحُ كتابًا فارغًا.
يعيدُ الشّياطين إلى الرّفوف،
يمسكُ بريشتِهِ،
يغمسُها في الحِبْرِ المُعتِم،
يضيءُ شمعةً راقصةً،
ويموتُ قبلَ الأوان.
____________
إضاءات:
****
1. بينيلوبيا أو بينيلوبي هي زوجة يوليسيز (إلياذة هوميروس)، التي كانت تحيكُ في النّهار كفنًا وتفكّ في اللّيل ما حاكته في النّهار، وتتذرّع بسرط أتمام الكفن قبل القبول بالزّواج من طالبي وُدِّها.
3. الموناليزا، لوحة الفنّان الشهير ليوناردو دي فنشي، وتُسمّى أيضًا جيوكندا. ولقصّة اللوحة والمرأة وبسمتُها وزوجها والرسَّام حكايات وحكايات.
4. راسبوتين، رجلٌ دجّال، كانت له سطوةٌ في بلاط القيصر الرّوسي، ويِحكى أنّه كان يمارسُ السِّحر والشّعوذة في مساعيه إلى السّلطة.
5. ابن سيرين، مؤلف كتاب تفسير الأحلام، المؤسَّس على منحِ كلِّ تفصيلٍ في الأحلام رمزًا ودلالةً يسريان على جميع الأحلام، بدون تمييز بين فردٍ وآخر.
6. صدىً لمقولة النِّفّري (الصّوفي الشّهير، صاحب كتاب “المواقف والمخاطبات”): “كلّما اتّسعت الرُّؤيا، ضاقت العِبارة.”
7. لعبةُ اللّوغو هي لعبة لصق الأجزاء، غايةَ تركيب اللّوحة الكاملة. وقد أجزنا لأنفسنا استحداث مصطلح الزّوغو، بما معناه لصق الأجزاء والمتفرّقات أو الشّطابا الزّمنيّة في لوحةٍ واحدة.
8. مدينة سانت بطرسبورغ، روسيا، على بحر البلطيق. وكانت سّمّيت بيتربورغ نسبة إلى القيصر الرّوسي بيتر الذي أطلق عليه لقب “بيتر الكبير”. وقد سُمِّيت في القرن الماضي لينينغراد، ثم استعادت اسمها الأصليّ.
9. الإرميتاج هو متحفٌ شهيرٌ في مدينة بيترسبورغ، وكان قبلئذٍ قصرًا للنّبلاء. وهو يتبوّأ المكان الأوّل في العالم من حيث عدد اللّوحات الفنّية.
10. انظر الإضاءة رقم 5.
11. “الأخوة كارامازوف”، عنوان الرّواية الشّهيرة للكاتب الروسي فيودور دوستويوفسكي. والأخوة كارامازوف هم أبطال الرّواية.
بقلم: فريد قاسم غانم