دراسة ديوان قارئة الفنجان للشاعرة سوزان صيداوي

تاريخ النشر: 17/02/16 | 17:00

مقدِّمة :الشاعرةُ والأديبةُ والإعلاميَّة ُالكبيرة ُ والمتألِّقة ” سوزان صيداوي – دِبِّيني ” ولدت في مدينةِ الناصرةِ لأبٍ من أصل ٍ لبنانيٍّ وأمٍّ فلسطينيَّةٍ ، أكملت تعليمَها للمرحلةِ الإعداديةِ في الناصرةِ وسافرت إلى ألولايات المتحده الامريكيه حيث أكملت دراستها الثانويَّة هناك ورجعت بعد ذلك إلى مسقط رأسها مدينة الناصرة . عملت في المجال الإعلامي في بعض الفضائياتِ وفي عدَّةِ محطاتٍ إذاعيَّةٍ ( منذ سنوات) وحققت شهرة ً واسعة َ النطاق ِ ونجاحًا كبيرًا إعلاميًّا وأدبيًّا . وهي أيضًا شاعرة ٌ وأديبة ٌ كبيرة ٌ مُرهَفة ُ الحِسّ ومبدعة ٌ نشرت الكثيرَ من قصائِدها ومقالاتِهَا وخواطرها الأدبيَّة في مختلفِ الصُّحفِ والمجلاتِ المحليَّة وخارج البلاد وعبر الأثير أيضًا من خلال ِ برامِجها التي ُتقدّمُهَا إذاعيًّا وغيرها ، ولكنها في الفترةِ الأخيرةِ توقفَ النشرُ لديها في الصحافةِ المقروءةِ ( صحف ومجلات ) لأنَّ الكثيرين من المُتطفلين وقراصنةِ ولصوص الأدبِ كانوا يسرقون العديدَ من قصائدها وينسبونها لأنفسِهم وينشرونها في مختلفِ وسائل ِ الإعلام ِالمحليَّةِ فاكتفت بنشر ِ إبداعاتِها وروائِعها الأدبيَّةِ من خلال برامجها الإذاعيَّةِ وعبر الأثير مباشرة ً … ومع كلِّ هذا لم تسلمْ حتى الآن كما قالت من محاولاتِ السطو وسرقةِ كتاباتِها .
أصدرت حتى الآن ثلاثة دواوين شعريَّة، هي : 1 )” عندما تضُمُّني اليك ”
2 ) ” أيقونة الحُبّ ”
3 ) ” قارئة الفنجان ”
4 ) ولها ديوان رابع بعنوان : ” دفاتر القمر ” – وهو يحملُ إسمَ برنامجَها الليلي الذي تقدِّمُهُ في الإذاعةِ وكانَ من المفروض أن يصدرَ قبلَ مدةٍ من قبل مؤسَّسةِ دائرة الثقافة العربيَّة … ولكن لأسبابٍ عديدةٍ طارئة تأخَّرَ صدورُهُ حتى الإن وقد يرى النورَ في فترةٍ قريبة .
والديوان الذي بين أيدينا الآن ” قارئة الفنجان ” هو الديوان الثالث أصدرتهُ بالمشاركةِ مع شاعرةٍ يهوديَّة تدعى ” شلوميت سبير نفو ” ، وكلّ قصيدةٍ لسوزان توجدُ في الصفحةِ التي بجانبها ترجمة ٌ لها باللغةِ العبريَّة ، وكلُّ قصيدة لزميلتِها الشاعرة العبريَّة توجدُ بجانبها ترجمة ٌ أيضًا باللغةِ العربيَّة .
وهذا الديوان يقعُ في ( 84 صفحة ) من الحجم ِ المتوسط ، مطبوعٌ طباعة أنيقة وفاخرة وتحلِّيهِ صورة ٌ جميلة ٌعلى الغلافِ ُتعبِّرُ عن عنوان الديوان ( قارئة الفنجان ) . وهنالك عدَّة ُ مُقدِّماتٍ لهذا الديوان القيِّم ، وقد قدَّمَ لهُ كلٌّ من : القاضية ” هداسا أخيطوف هرطمان ” ، ومقدّمة بقلم رئيس الدولة السيد ” شمعون بيرس ” ومقدمة ثالثة بقلم الدكتور ” محمود عباسي ” . وهذه المقدمات رائعة ٌ وجميلة ٌ تشيدُ بمكانةِ هاتين الشَّاعرتين ومستوى كتابتِهما في مجال ِالشِّعرِ ، َوُذكِرَ فيها العناصر والأسس المشتركة بينهما وفحوى هذه القصائد .
سأتناولُ في هذه المقالة قصائدَ سوزان دبيني فقط في ، هذه المجموعةِ ، ولكن أحبُّ أن أشيرَ أنَّ هنالك تشابُهٌ نوعًا ما في أسلوبِ كلِّ من هاتين الشاعرتين فهما تكتبان بحِسّ ٍ شاعريٍّ مُرْهَفٍ شفَّافٍَ ويُحَلِّي قصائدَهما الطابعُ الرومانسي الحالم فالمواضيعُ المشتركة بينها هي : الحبُّ والجمالُ والحياة الوديعة البريئة والمضمَّخة بالسِّحر والأمل.
مَدخلٌ : ُتعتبَرُ سوزان دبيني من أوائل ِ الشاعراتِ المَحليَّات ، والبعضُ يعتبرُها أوَّلَ شاعرةٍ تكتبُ بالعربيَّةِ محليًّا الشعرَ الجريئ ، وأنا شخصيًّا أحبُّ شعرَهَا كثيرًا وأتذوَّقهُ وأستمتعُ بهِ وأعشقهُ واهيمُ بهِ … وأشعرُ عندما أقرأ أيَّة َ قصيدةٍ لها كأنني أنا كاتبها أو كأنَّ قصائدَها مُوَجَّهَة ٌ لي بشكل ٍ مباشر ٍ فهي ُتجَسِّدُ أحاسيسي ومشاعري ووجداني وَلوَاعِجي الذاتيَّة الجيَّاشة وأجوائي الرُّومانسيَّة الشاعريَّة الحالمة وعوالمي الجميلة الشفافة المُترعَة بالحب ِّ والدفءِ والأمل والنقاء ، وهي أكثرُ الشُّعراءِ والكتابِ أشعارُها وكتاباتها قريبة ٌ إلى فكري ووجداني وذوقي ونفسيَّتِي منذ العصر الجاهلي إلى الآن .
إذا نظرنا من الناحيةِ الشكليَّةِ فمعظمُ ما تكتبُهُ سوزان على نمطِ شعر ِالتفعيلةِ ، والبعضُ من قصائِدهَا التفعيليَّةِ موزونٌ والبعضُ يخضعُ لأكثر من وزن ، وهنالك ترتيبٌ جميلٌ في توزيع ِ المقاطع اللفظيَّةِ ، ويوجدُ في جميع قصائدِها موسيقى داخليَّة أخَّاذة … وجميعُ قصائد سوزان غيرُ طويلةٍ ( شعر البطاقة ) فهي تكتبُ القصيدة َ الصغيرة حجمًا ومسافة ً والمُكثَّفة َ والمليئة بالمعاني العميقةِ والفلسفيَّةِ والصُّور الشعريَّةِ الجميلةِ والشفَّافةِ والمُترعة بالإستعاراتِ والتعابير البلاغيَّةِ المُبتكرة … على نمطِ ونهج ِ الشعراء العرب الكبار المبدعين والمجدِّدين في العصر الحديثِ ( كنزار قبَّاني وأدونيس وممدوح عدوان ) …وغيرهم . ويوجدُ لسوزان بعضُ القصائد قريبة كثيرًا إلى اللون ِ والنمط الكلاسيكي التقليدي حيث تلتزمُ بالقافيةِ في نهايةِ الجملةِ الشِّعريَّة أو البيت كما يُسَمَّى ، ولكنَّها لا تلتزمُ كليًّا بالوزن أو بالأحرى بعددِ التفاعيل وبترتيبها الرُّوتيني .
سأركّزُ الأضواءَ في هذهِ الدراسةِ على بعض القصائدِ من الديوان وسأبدأ بالقصيدةِ الأولى ، بعنوان : ( عَلّمني – صفحة 18 ) :
( ” عَلمنِي كيفَ أقرأ كلِماتِكَ ولا أذوبُ
علمني كيفَ أغفرُ للعالم ِ بحُبِّكَ كلَّ الذنوبْ
مُدَّ لي يدًا من عِطر ِ الوَردِ تفوحُ
أصافحَ فيها كلَّ قلبٍ بالحُبِّ مذبوحٌ
علِّمْ قلبي كيفَ يقرأُ في عينيكَ الفنجانَ
َويُوَاسِي بحُبِّكَ كلَّ آلام ِ الحِرمان ِ
عَلِّمهُ يطيرُ إليكَ على أجنحةِ الحُبِّ
علِّمهُ يرسُمُ على أهدابِ عينيكَ خُطواتِ القلبِ ” ) .
القصيدة ُ من ناحيةِ البناء والشكل ِ الخارجي على وزن ِ المتدارك أو الخَبَب ( بتصرف ) وهنالك الخروجُ قليلا ً على قيودِ وروتين الوزن َوُتحلِّي القصيدة َ موسيقى داخليَّة ، وهي من السَّهل المُمتنع … أي تبدُو في كيفيَّةِ بنائِها وَسَبكِ معانيها وتلقائيَّتِها سهلة ً ولكن يستصعبُ ويستعصي على كلِّ شاعر أو أيِّ شخص أن يكتبَ على نمطِهَا وفي مستواها وجماليَّتها . فالقصيدة ُ جميلة ٌ جدًّا من الناحيةِ الشكليَّةِ والذوقيَّةِ وهذا لوحدهِ عنصرٌ هامٌّ لنجاحِ القصيدةِ وتألقها وتحليقها في سماءِ الإبداع والخلودِ ، فعباراتها وجملها حلوة ٌ جدًّا وناعمة ٌ وعذبة ٌ ومسكرة ٌ وكلماتها مُفعَمَة ٌ وَمُترَعَة ٌ بالمشاعر ِ الرَّقيقةِ والبريئةِ والجيَّاشةِ خارجة ومنبثقة من إنسانةٍ شاعرةٍ فنَّانةٍ مُلهمَةٍ مُرْهَفةِ الحِسِّ رومانسيَّة إلى درجةِ الجنون.
إنَّ سوزان فنانة ٌ بكلِّ معنى الكلمةِ ، فنَّانة ٌ في اختيار ِ المعاني الرَّقيقةِ والمُميَّزةِ والمُثيرةِ والمُؤثِّرةِ على المُتلقي والقارىءِ ، وخاصَّة ً في كيفيَّةِ اختيار المقاطع اللفظيَّةِ وفي ترصيع ِ وقفل ِ نهايةِ الأبيات ، فاختارت بل التزَمَتْ بعدَّةِ قواف جميلةٍ لها إيقاعُهَا وَوقعُهَا المُمَوْسَق وجماليَّتها . وهذهِ القصيدة ُ تصلحُ أن تكونَ ترنيمة ً وأغنية ً لكلِّ عاشقةٍ وعاشق ٍ وهي تعيدُ إلى أذهانِنا روائعَ نزار قباني ( شاعر الحُبّ والمرأة الأول في هذا العصر على امتداد العالم العربي ) .
في القصيدةِ تخاطبُ حبيبَها وتطلبُ منهُ أن يعلِّمَهَا كيفَ تقرأ كلماته الجميلة السَّاحرة ولا تذوب ، وتريدُ أن يعلمهَا ، من خلال ِ حبِّها لهُ ، أن تغفرَ للعالم ِ بأجمعِهِ كلَّ الذنوب … وتركِّزُ هنا على المحبَّةِ الشَّاملةِ لكلِّ البشريَّة – محبَّة الإنسان لأخيهِ الإنسان من دون ِ قيدٍ أو شرطٍ والمُستمدَّة من تعاليم ِ السيِّد المسيح عليه السلام المعلم الأول فادي البشر وربّ المجد وكليّ القدرة .
وتطلبُ من حبيبها وفارس أحلامِها أن يمدَّ لها يدَهُ التي تفوحُ بعطر ِ الورود لكي ُتصَافحَ كلَّ قلبٍ مذبوح ٍ بالحُبِّ . وتريدُ منهُ أن يُعَلِّمَ قلبَهَا كيفَ يقرأ في عينيه ( عيني حبيبها ) الفنجان ، وليواسي قلبها جميعَ آلام وعذاب الحرمان … وتريدُ من حبيبها أيضًا أن يُعَلِّمَ َقلبَها كيفَ يطير إليهِ على أجنحةِ الحب وليرسمَ على أهدابِ عينيهِ خطوات القلب وما يُحِسُّ بهِ من أمور ٍ وأشياءٍ ولواعج وأشواق . والقصيدة ُ بشكل ٍ عام مستواها عال وقد تبدو معانيها ، نوعًا ما ، عاديَّة ومألوفة ً، ولكن سوزان أستطاعت أن تضيفَ إلى هذه المعاني والصور والقوالب البلاغيةِ وتلقي عليها من روحها وإبداعِهَا وعبقريَّتِهَا الفذ َّةِ جماليَّة ً ونفحَة ً سحريَّة ً رومانسيَّة ً قدسيَّة ً وبعض التعديلات والتجديدات والتقنيات والعبارات المُسَربَلة بالسِّحر والشفافيَّةِ فخرجت القصيدة ُ بحلَّةٍ قشيبةٍ فتَّانةٍ تبهرُ الألبابَ وتسكرُ القلوبَ واللواعجَ والوجدان وتهزُ وتسبي قلوبَ كلِّ العشَّاق والمتيَّمين .
وسأنتقلُ إلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان : ” قصيدة بلا حروف ” – صفحة 22 – والنص الكامل للقصيدةِ كما يلي :
( ” إقرأنِي حبيبي كما تشَاءْ
من أعلى إلى أسفل // من أسفل إلى أعلى /
إقرأني من أيِّ زاويةٍ ُتريدُ //
إقرأني بأيَّةِ لغةٍ تريدُ //
فأنا قصيدة ٌ بل حروف // بلا أوزان بلا قوافٍ //
أنا قصيدة ٌ لا تقرأها إلا َّ // عيناك // ” )
هذه القصيدة ُ ينطبقُ عليها بالضبط أسم ولقب شعر البطاقة ، فهي قصيرة ٌ جدًّا في حجمِهَا ومسافتها ، ولكنها مكثفة في معانيها وفحواها ، وكلُّ قارىءٍ قد يفهمها من وجهة نظرهِ وحسب ثقافتهِ ومنطلقهِ الفكري . ومفادُ وفحوى ومعنى القصيدة ( ما تريدُ أن تقولهُ سوزان لحبيبها ) : إنها كالقصيدةِ التي لا يوجدُ فيهاَ تكلُّفٌ وغموضٌ وغريبٌ واستعاراتٌ بلاغيَّة مُبهمَة ٌ وجناسٌ وطباقٌ وتورية ٌ وبديعٌ وقوافي وأوزان وإرهاقٌ فهي إنسانة ٌ واضحة ٌ وشفافة ٌ غير مصطنعة ومزيَّفة لا ترتدي الأقنعة وغير مطليَّة بالماكياجات . ولهذا لا أحد ٌ يستطيعُ أن يقرأهَا ويفهَمََ كنْهَهَا وحقيقتهَا جيِّدًا سوى عيون حبيبها الذي ُتخاطِبُهُ في القصيدةِ لأنهُ حُبّها الوحيد ( حسب معنى القصيدة ) ويحملُ كلُّ منهما نفسَ الشُّعور ِ للآخر .
فالقصيدة ُ بشكل ٍ عام جيِّدة ٌ مستوى وأسلوبًا وجداثة ً . وإلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان : ( ” طلّة وجهك ” – صفحة 26 ) – تقولُ فيها :
( ” عيناكَ الدُّرُّ المَكنوُنْ // وَشَعائِرُ ساحر ٍ إذ يسحَرْ //
والليلُ الهائجُ المَجنونُ // من ريق ِ شفتيكَ يسكرْ //
وَنورٌ من تلكَ العيون ِ // يحرقُ الشَّمسَ إذ تظهرْ //
والبدرُ بجمالكَ مفتونٌ // يتأخَّرُ بزوغهُ عمدًا //
والقمرُ النجومَ يخُونُ // ويتغزَّلُ بجمالِكَ الأسمَرِْ //
والليلُ بشعركَ َمعجُونٌ // والشَّفقُ بجبينِكَ يتصوَّرْ //
والنسيمُ لعِطركَ مَديونٌ // يسرقُ من خدَّيكَ العَنبرْ // ” )
القصيدة ُ غزليَّة ٌ بحتة رقيقة ٌ وشفافة ٌ – على وزن ِ المتدارك في معظم مقاطعِها مع خروج قليل ٍ عن الوزن والإيقاع . تتغزَّلُ الشَّاعرة ُ بجمال ِ حبيبها الشَّرقي الأسمر والمُمَيَّز . وفيها بعضُ المعاني والإستعارات المستحدثة أو بالأحرى الصُّوَر واللوحات التي صوَّرتها وأضافت إليها سوزانُ شيئا ً من إبداعِهَا ونفحِها وروحها ، مثلا ً : ُتشبِّهُ عينيّ حبيبها بشعائِر ِ ساحر ٍ إذ يسحر ، وأمَّا المعنى الذي في البيت الأوَّل من القصيدة : ( عيناكَ الدُّرُّ المَكنون ) فهو مألوفٌ وغير جديد .
وتقولُ في القصيدةِ أيضًا : ( والليلُ الهائِجُ المجنون // من ريق ِ شفتيكَ يسكر ) …وهذا المعنى جديدٌ ومبتكرٌ حيثُ الليلُ الهائج من ريق حبيبها يسكرُ .. وهي أوَّلُ من وصفَ الليلَ بالهائج والجامح ويسكرُ من رضابِ الحبيب . وتقولُ أيضًا إنَّ النورَ في عينيّ الحبيب يحرقُ الشَّمسَ إذا ظهرت وحتى البدر بجمال ِ حبيبها مفتونٌ وعاشقٌ فيتأخَّرُ بزوغهُ عَمدًا وقصدًا ، وحتى الشَّفق ( آخر الليل وعند بزوغ الفجر ) يتصوَّرُ بجبين ِ الحبيب ، والنسيمُ العليلُ مَديُونٌ لعطر ِحَبيبها حيثُ يسرقُ من خدَّيهِ العنبر .
وباختصار سوزان هنا أخذت بعضَ المعاني والقوالب البلاغيَّة المالوفة التي أستعملت كثيرًا من قِبَل ِ الشعراء ولكنها طوَّرتها وأضافت إليها كلَّ ما هو جديد من فكرها وعبقريَّتِها ، فمثلا ً : هي أوَّل من استعملت هذا التشبيهَ ” الليل الهائج المجنون من ريق شفتيك يسكر ” … أو ( والشَّفق بجبينكَ يتصوَّر ) … إلخ . وإلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان : ( ” لا تموت – صفحة 42 ) – تقولُ فيها :
( ” لو جاءَني الموتُ مُسرعًا // وطلبَ روحي مِنِّي //
لأعطيتهُ ما طلبَ // إلا َّ قلبي //
فسأنزعُهُ بيدي // وَأزرعُهُ في جسَدٍ آخرَ //
كي تبقى حيًّا // لا تموتُ // ” ) .
القصيدة ُ قصيرة ٌ جدًّا ولكن في داخلها عالمٌ بأكملهِ . وتريدُ أن تقولَ : إنَّ أهمَّ شيىءٍ بالنسبةِ لها في الكون هو الحبّ وانها مُستعدَّة ٌ أن ُتضَحِّي بكلِّ شيىءٍ سوى بحبِّها وأنَّ حبيبَهَا هو الحياة . ولهذا تريدُ أن يبقى قلبُها حَيًّا خالدًا فحتى لو ماتت جسدًا فقلبُهَا تريدهُ أن يُزْرَعَ بعد موتِهَا الجسدي في جَسدٍ آخر لكي يظلَّ حَيًّا ونابضًا لأنَّ حبيبَها الذي كلّ شيىءٍ بالنسبةِ لها يعيشُ ويسكنُ في داخلهِ ولكي يبقى هذا الحبيبُ (إكسيرُ الحياة ) حيًّا لا يموتُ .
إنَّهُ لتشبيهٌ جميلٌ ومقنعٌ ( وهذا التشبيه والمعنى لم يكن موجودًا عند الشعراء قبل عشرات السنين لانَّهُ لم يكن يومَها العلم ُ والطَّبُّ قد توَصَّلا إلى عمليَّاتِ زرع ٍ للقلب ) .
وإلى قصيدةٍ أخرى بعنوان : ( ” الفرق الكبير ” – صفحة 58 ) – تقولُ فيها :
( ” فرقٌ كبيرٌ // بينَ السَّير ِ على رمال ِ البحر ِ الناعمة //
أو الضَّياع في غاباتِ صدركَ ا لمُتوحِّشّة //
فرقٌ كبيرٌ // بين الشُّربِ من مياهِ الأمطار ِ النقيَّةِ
أوِ الإرتواء من يُنبوع حُبِّكَ القاتل //
فرقٌ كبيرٌ // بينَ الجلوس في أحضان ِ الطبيعةِ الهادِئةِ //
أو ِ النوم ِ في أحضان ِ رغباتِكَ العاصِفةِ //
فرقٌ كبيرٌ // أحِبُّكَ فيهِ اكثرَ //
كلما اكتشفتُ بينكَ وبينَ العالم ِ
ذلكَ الفرقَ الكبير // ” ) .
تحليلُ القصيدة : ُتوَظِّفُ الشَّاعرة ُ هنا بعضَ عناصر الطبيعةِ وظواهرها ِلتؤكِّدَ وتثبتَ لحبيبها مدَى حُبِّها وهيامها بهِ . ففرقٌ كبيرٌ – كما تقولُ – بين سيرها على رمال ِ البحر ِ الناعمة واللينة دون عوائق وصخور ( السير بأمان ) وبين التيه والضياع في غاباتِ صدر ِحبيبها المُتوحِّشةِ… وبين شرب المياه النقيَّة أو الإرتواء من ينبوع فيهِ ( فمهِ ) القاتل ، وهنالك فرقٌ بين الجلوس في أحضان ِ الطبيعة الهادئة والساكنة أو النوم في أحضان ِ الحبيب ونزواتِهِ العاصفةِ… وهيَ ُتحِبُّ حبيبَها أكثر وأكثر عندما تجدُ وتكتشفُ الفرقَ الكبيرَ والمُمَيَّز بينهُ وبينَ العالم . وبإختصارهذه القصيدةُ مُتسَربلة ٌ بالإستعاراتِ الظاهرةِ والمُبَطَّنةِ بالمعاني والتعابير ِالجنسيَّةِ وتكشفُ مَدَى أهميَّةِ رغباتِ الجَسدِ وحاجاتهِ البيولوجيَّة والتي لا تستطيعُ كلُّ فتاةٍ أو كاتبةٍ وشاعرةٍ أن تكتبََ وُتصَرِّحَ عنها بوضوح ٍ في مجتمعنا الشَّرقي المحافظ والمُغلق .
وإلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان : ( ” بدائيَّة ” – صفحة 54 ) – تقولُ فيها : ( ” مَعك //
لا أحِبُّ الحضارة َ والإتِّكيتَ //
لا أحِبُّ السِّكِّينَ والشَّوكة َ // ومناديلَ الوَرق ِ //
مَعَكَ //
أحِبُّ أن آكلَ من يديكَ //
وَألعقَ من أصابعِكَ قطراتِ الشَّهدِ //
أشربُ من شفتيكَ حتى الإرتواءِ //
وَأغفو عارية ً على مساحاتِ صدركَ //
مَعَكَ //
أنسَى الحضارة َ والإتِّيكيتَ //
وَأعيشَ جنوني بحُبِّكَ // ” ) .
في هذهِ اللوحةِ الصغيرةِ حجمًا والعريضة جمالا ورونقا وبهاءً وإبداعًا ُتعطينا الشَّاعرة ُ صورة ً جميلة ً ( موديرنت ) للحُبِّ الحقيقي العارم المتأجِّج والمتوهِّج والمضطرم إلى مرحلةِ الهيام والجنون … هذا الحُبُّ الذي لا يتقيَّدُ بقوانين وإشكاليَّات وطقوس مُعيَّنة مُستحدَثة ” موديرنت ” أو قديمة ولا يعترفُ بالإتيكيت ، فعندما تجتمعُ بحبيبها ( صاحبة القصيدة ) تحبُّ الأمورَ أن تجري بشكل ٍ عفويٍّ وبتلقائيَّةٍ وتأخذ َ حَقَّها وشكلهَا ولونهَا وطعمَها الطبيعي دونَ أيِّ قيدٍ أو روتين مُستهلك . فعند الإجتماع بالحبيبِ وساعة الوصال الملتهبة وعندما يكونُ الرّوحان والجسدان في قمَّةِ التوهُّجِ والثوران فعندها ترفضُ الحضارة َ والإتكيت ولا ُتحِبُّ الأكلَ بالسِّكين والشوكة ومناديل والورق فتحبُّ أن يُطعِمَهَا حبيبُها بيديهِ ولكي تلعقَ وترشفَ من أصابعِهِ قطرات الشَّهدِ المُصَفَّى ولتشربَ من شفتيهِ حتى ترتوي … ولكي تغفو عارية ً على مساحاتِ صدر ِ حبيبها الواسع والرَّحب . فمع الحبيب ساعة َ الوصل والإلتحام الروحي والجسدي تنسى الحضارة والإتيكيت والعالمَ بأجمعهِ وتعيشُ جنونها وثورانها العاطفي والجسدي بحبيبها وباتحادها معه روحًا وفكرًا وجسدًا ونفسًا … فعندها تتلاشى وتختفي كلُّ الحواجز والسدودِ وتزول القيود .
هذه القصيدة ٌ جميلة ٌ جدًّا وموديرنت تذكِّرنا بروائع نزار قباني وغيره من الشُّعراء الغزل العرب الكبارالمُجَدِّدين والمُبدعين في العصر الحديث.
وأخيرًا :إنَّ هذا الديوان ( قارئة الفنجان ) من أجمل وأفضل الدواوين الشِّعريَّة التي صدرَت مُؤخَّرًا ( محليًّا ) وعلى امتداد الوطن العربي . وسوزان بحقٍّ وحقيقةٍ هي شاعرة ٌ كبيرة ٌ مبدعة ٌ متميِّزة ٌ رَهِيفة ُ الحِسِّ وفي طليعةِ الشَّاعراتِ والشُّعراءِ العربِ المحليِّين وعلى امتدادِ العالم العربي دون مبالغةٍ . وقد ُترجِمَت قصائدُها إلى عدَّةِ لغاتٍ عالميَّة وشاركت ، بدورها ، في الكثير من المهرجاناتِ والندواتِ والمؤتمراتِ الأدبيَّةِ والثقافيَّةِ داخل البلاد وخارجها … وهي عضوة ٌ في نقابةِ الأدباءِ العامَّةِ في إسرائيل وقد حققت شهرة ً واسعة َ النطاق محليًّا وخارجَ البلاد ( عالميَّا ) . ولكن وللأسفِ رغم مكانتِهَا الأدبيَّةِ والشِّعريَّةِ ومستواها الرَّاقي والمُمَيَّز لم يكتبْ عنها وعن إبداعاتِها وروائِعها حتى الآن أيُّ كاتبٍ وناقد ( نويقد) محلِّي ، وهي بحدِّ ذاتها ليست بحاجةٍ لأيِّ نويقدٍ َومُستكتبٍ أن يكتبَ عنها وعن إصداراتها فيكفيها فخرًا واعتزازًا ما وصلت إليهِ من نجاح ٍ وشهرة ٍ وتألُّق ٍ وإنجازاتٍ ومجدٍ أبديٍّ . وفي النهايةِ – أهنِّىءُ الشَّاعرة َ والأديبة َ والإعلاميَّة َ الكبيرة الرَّائدة َ والمُمَيَّزة َ ” سوزان صيداوي – دبيني ” على هذا الإصدار القيِّم ” قارئة الفنجان ” وأتمنَّى لها المزيدَ من العطاءِ الأدبي والثقافي والفكري والإعلامي المتواصل والمزيدَ من الإصدارات الجديدة . – مبروك وإلى الأمام

بقلم : حاتم جوعيه/ المغار-فلسطين

7atemjo3ih

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة