قراءة في كتاب “نبضات ضمير” للكاتبة عدلة شداد خشيبون
تاريخ النشر: 17/02/16 | 6:33بعد قراءاتٍ كثيرةٍ متعدّدةٍ لنصوصٍ الكاتبةٍ عدلةَ في إصدارِها الأوّلٍ، والّتي نشرَتْ جميعَها في الملحقِ الأدبيِّ لجريدةِ الاتحاد، لا يُمكنُني في هذه المداخلةِ العاجلةِ أنْ أفيَ الكتابَ حقَّهُ الكاملَ نقًدًا وملاحظاتٍ وتوجيهًا…
اسمحوا لي أنْ أستغلَّ هذه الندوة لأعرّجَ على ظاهرة خطيرة مقلقة؛ فبعد مشاركات في ندوات أدبيّة وثقافيّة وفنيّة لمست أنّ الفكر النقديّ أو التوجيهيّ؛ المسموع أو المكتوب، يضيع أحيانًا في متاهة المجاملات والعلاقات الشّخصيّة، فلا نسمع أو نقرأ إلّا اللّغة الإنشائيّة، بعيدًا عن الموضوعيّة والعمق في الدّخول إلى أعماق النّصّ المبنويّة الشّكليّة والفنيّة والمحتوى…
دعونا نتخلّص من ذلك، دعونا نشجّع الكتابة بموضوعيّة ونقد بنّاء، يفيد الكاتب ويقوده إلى إغلاق فجوات الضعف في كتابته، وابراز المقوّمات الفنيّة الجماليّة والمعنويّة الّتي يقوم عليها النّصّ، كي نوقف – إذا استطعنا ذلك- كثيرًا من الفوضى الكتابيّة والنّقديّة الّتي تجتاح هذا الزّمان الرّديء….
والكاتبة “عدلة” في إصدارها هذا الأوّل، عرضت علينا نصوصًا تتميّز بجماليّة خاصّة، أظهرت من خلالها قدرة كتابيّة مدهشة، بعبارات موجزة مكثّفة بالاستعارات الحيّة النابضة بالحركة والحياة، حيث استطاعت أن تجمع عوالم مختلفةً واسعةً في النّصّ الواحد، بدءًا من حياتها العائليّة الخاصّة ومن محيطها الصّغير، إلى محيطها العام البعيد الداخليّ والخارجيّ سياسيًّا واجتماعيًّا.
والكاتبة في هذا الإبداع لها مفاتيحها الخاصة، وقد استعانت بها بأساليبَ وطرائقَ متعدّدةٍ جماليّةٍ، وبما أنّ الجماليّة حالةُ مشاركة أو تعاون بين العمل الأدبيّ الفنّيّ والمتلقّي، وتعتمد أساسًا على التّفاعل نتيجة ما نشعر به من متعة واكتشاف أو ارتياح أو قلق بتأثيرات هذا التّفاعل، هكذا يستطيع المتلقّي، القارئ اليقظ أن يستبطن ويفهم أبعاد أيّ نصٍّ من خلال ربط الدّلالات اللّغوية والهندسة الجدليّة للجمل وما تحويه من صور جماليّة. يقول محمد مندور:” التّحدّث عن المبنى والمعنى كالتّحدّث عن شفرتي المقصّ، والتّحدّث عن جودة أحدهما كالتّساؤل عن أيّ الشّفرتين أقطع!”
وهكذا نجد في نصوص عدلة التحامًا واضحًا في الشّكل والمضمون، في جدليّة لغويّة معنويّة ومبنويّة في ترتيب الجمل، وهندسة ايقاعيّة تقترب إلى لغة الشّعر في صور استعاريّة عميقة.
تكتب عدلة في النصّ الأوّل ” فاتنة حبيبتي الصّغيرة”:
” اليوم الّذي فارقتْ نفسك الحياة فارقتْنا الابتسامة والبهجة والسّعادة”
فمن فاتنة كان استهلال عدلة، فكانت صرختها الإبداعيّة الأولى، فانفجرت إبداعًا وصرخت في ألم:
” انفجري يا مفردات واكتبي يا نفسي، اكتبي ما يحلو لك عن ذلك اليوم المشؤوم الّذي مرّ في شتاء هذا العام في نهاية كانون”
… وفجعت الكاتبة برحيل مفاجئ لأمّها أثّر فيها كثيرًا، حيث بدا واضحًا في أغلب نصوصها، فمن النصّ الأوّل، وتحديدًا في الصّفحات الثّلاثين الأولى، نجد سيطرة لمعجم تعبيريّ واحد (موتيف الغياب) مشحونًا بالألم والحزن، لكنّ الكاتبة تنتفض في نهاية كل نصّ فتحوّل ذلك إلى رؤية تفاؤليّة، تستعيد فيها قوّة الحياة والانتصار على الضعف.
ومن أمثلة التعابير الدّالّة على “الغياب”: التّلاشي، تلاشت، اختفى، تاهت، طريق بلا مخرج، توارى، توارت، محطّتي خالية، غيابك، ترحل لترحل، تغيب لتأتي، تغطّى، يغلّف، الغروب، الرحيل، الاحتجاب، الفراق، المغادرة، التّناثر، التّواري، الجمود، الذّوبان، الحجاب…الخ.
ويظهر جليًّا أنّ نهاية كلّ نص من هذه النصوص تنتهي بدعوة تفاؤلية ….
ومن يتابع سائر النّصوص بعد الصّفحات المذكورة يجد أنّ هذا المعجم التّعبيريّ قد زال كليًّا وحلّ محلّه المعجم التّفاؤليّ الّذي ينتشي بالتّجدّد والتّحدّي في فرح وأمل. ومن أمثلة ذلك:
” ستنمو، أجل ستنمو، ستكون بذورٌ ويكون بستان”
” وراء كلّ خريف ربيع يبتسم”.
والملاحظ أنّ الكاتبة تنوّع في أسلوبها، ويظهر أنّ “الإلتفات” ظاهرة بارزة في جميع النّصوص، حيث تنتقل من عالمها الخاص لتتّصل بالعالم الجماعيّ الأوسع، وتتحوّل من خطاب إلى آخر، وتتّخذ الطّبيعة الحيّة والجامدة جسرًا في إيصال أفكارها ومشاعرها، وهكذا يظهر” الأنا المتغيّر” في أغلب النّصوص:
” أنا لست أنا كلّ يوم”.
” أنا لم أرفع شعار الاستسلام بعدُ؛ لأنّ النّجم في داخلي”.
” أيّها الأمل الغافي على كتف حريّة الضّمير، حان وقتك لتنهض”.
” انتعلت جرأة الجنديّ بثقة أرز لبنان”.
” انتفضت سمكة من قاع البحر وأخذت تحلم بعالم بلا حدود”.
” كيف سيعرفون زوال جمرة ملتهبة إن لم يكتشفوا من فوقها الرماد”.
” كيف سيعرفون أنّ في التّراب بذرةً حيّةً”.
أمّا الاستعارة فقد جاءت عفويّة تحمل دِلالاتٍ وأبعادًا تتعدّى حدود الخيال،تمتزج بالواقع في فنيّة خاصّة موحية. والصّور الفنيّة في أغلب الجمل ترتكز على الاستعارات، والاستعارة حسب تعريف جاستون بلاشر هي صورة ” إنّ الصّورة نبتة تحتاج إلى أرض إلى سماء وإلى جسم وإلى شكل”. وهذا فعلًا ما نجده في استعارات الكاتبة، استعاراتها لها أرضٌ خصبةٌ وسماءٌ كريمةٌ في كواكبها وغيومها، في ليلها ونهارها، وبحرٌ وفصول متعاقبة، وصحراءُ يمتدّ فيها الزمن ويقصُر:
” البحر يعطش كما الصّحراء، الصّحراء تتنفّس ماء البحر المالح، ويبقى كلاهما يبحثان عن الماء للارتواء”.
“الغربة غربة حجر”.
” حاصرهما صمت الغياب اللّعين”.
” هل يذوب الشّوق أم يتجمّد”.
ولنسمع/ ولنقرأ معًا بإمعان:
” عذرًا أيّتها الغزالة الصّفراء… لا ترسلي شعاعك، فأنا لست بردانة… هي عاصفة الظلم قويت على كلّ ثياب العدل والإنسانيّة، فبت أبحث عن رداء يلائم عواصف القهر؛ ليقيَنا من جور الباحثين عن دموع اليتامى ليعجنوا بها طحين تفاهتهم، ليغمسوا خبز حقدهم بزيت لؤمهم… أنت يا طفلة الحريّة لا تخافي، ويا براءة الأطفال، لا تشعري بوحدة؛ فأنا مثلك أحبّ البحر، أعشق صوت الغمام، أتنفّس من هدير النّهر، أغفو على لحن الغربان، فخريف يعاقب خريفًا، وحلم يصارع كابوسًا، وبينهما مرجان يستصرخ أسماك القرش وحيتان القاع، وبنفسج يملأ البستان بأريجه رغم ثورة البركان… علا صوت النّاي بلحن الآهات، في كلّ بحر ملفٌّ للذّكريات”.
إنّنا نجد في هذه الاستعارات الإيقاعيّة المركّبة الحيّة عوالم مختلفة متجانسة حينًا، ومتضادّة حينًا آخر في هندسة جدليّة عفويّة، تتحرّك فيها الألفاظ والتّعابير في انسياب وجدانيّ عاطفيّ جيّاش في نغم شاعريّ، لتكوّن شبكة مفتوحة من العلاقات والثّنائيّات الّتي أرادت من خلالها إبراز كثير من مفارقات وتناقضات هذا العالم، بدءًا من المحيط الضيّق ووصولًا إلى المحيط الأبعد والبعيد بأبعاد دِلاليّة رامزة موحية.
وقد وُفّقَت الكاتبة في توظيف الموسيقا الداخليّة- التّنغيم- في هندسة إيقاعيّة معبّرة، وهذا ما زاد من جمالية التّراكيب الاستعاريّة، كما كان لتوظيف التجنيس بكلمتين متجاورتتْن أثر موسيقيّ بارز في إثارة القارئ وبثّ الدّهشة فيه:
” أحزانها ألحانها”.
” الجنين والحنين”.
” القلق والأرق”.
” الأشواق والأشواك”.
” تسمع صدى الصّوت من ذاك السّوط” …
أملي أن أكون في هذه المداخلة قد ألقيت الضوء على بعض مقوّمات نصوص الكتاب، آملا في القريب العاجل أن أفيَه حقّه في دراسة تفصيليّة واسعة، تشمل توضيحات لسدّ بعض الثّغرات البسيطة في بعض نصوص الكتاب …. ننتظر إبداعًا جديدًا منك يا عدلة…
بقلم الأستاذ رياض مخوّل