جميل سلحوت: ذاكرة سلمان ناطور لا تنسى
تاريخ النشر: 22/02/16 | 13:00صدرت ثلاثية ” الذاكرة.. سفر على سفر.. انتظار..ستون عاما – رحلة الصحراء ” للأديب الكبير الراحل سلمان ناطورعن منشورات دار الشروق للنشر والتوزيع في نيسان 2009، وتقع في 456 صفحة من الحجم المتوسط والكتاب الأول ” ذاكرة ” صدر عن مركز ” بديل ” في بيت لحم عام 2006 والكتاب الثاني ” سفر على سفر ” صدر عن مؤسسة تامر في رام الله عام 2008، وهاهي الكتب الثلاثة تصدر مجتمعة عن دار الشروق.
وسلمان ناطور الذي اختطفه الموت بشكل فجائي في 15-شباط 2016، عرفناه من خلال كتاباته أديبا فلسطينيا عربيا ملتزما بقضايا شعبه وأمته، من مواليد 1949 في دالية الكرمل في حيفا، وثلاثيته هذه صدرت في الذّكرى الستين لميلاده، وانتهى من كتابتها في الذكرى الستين لنكبة شعبه ووطنه، وأديبنا مولود بعد النكبة بعام في قريته دالية الكرمل، ونما وترعرع في وطنه المنكوب، فهو ابن النكبة ورضع من لبانها، وشب على عذابات أبناء شعبه سواء من شردوا منهم الى أرض اللجوء، أو من عضّوا بالنواجذ على تراب وطنهم، وأصبحوا بقدرة قادر أقلية في هذا الوطن، يعانون من الاضطهاد القومي والاجتماعي والاقتصادي، فقدوا أرضهم وعوملوا في وطنهم كغرباء، وبعضهم شرد في هذا الوطن وأصبح لاجئا فيه، بعد أن فقد أرضه وبيته وقريته ومكان مولده وسكناه، وجميعهم يعانون معاناة تكاد تكون فريدة في العالم جميعه، ولا شبيه لها في التاريخ الحديث، وهذه المعاناة ارتسمت في ذاكرة أديبنا، لذا فإننا نجد صدارة نتاجه الأدبي الذي نحن بصدده تقول:
” ولدت بعد حرب 1948
دخلت المدرسة في حرب حزيران
تزوجت في حرب اكتوبر
ولد الأول في حرب لبنان، ومات أبي في حرب الخليج
حفيدتي سلمى ولدت في الحرب التي ما زالت مشتعلة.” ص5
وكأنني بالكاتب يقول بأنه جزء من نكبة شعبه المستمرة، وأن الحروب تطارده كما تطارد شعبه، وأن حروب الشرق الاوسط في العقود الستة الماضية تستهدف الشعب الفلسطيني، بل ان نكبة الشعب الفلسطيني هي سبب الصراعات والحروب في المنطقة، وكأنني به يتساءل أيضا: أما آن لهذه الحروب أن تنتهي؟ فهل هذه الستون عاما كانت بمثابة رحلة في صحراء التيه؟
وأديبنا في كتابه الاول ” الذاكرة ” من هذه الثلاثية يعتمد على الرواية الشفوية للشيخ المشقق الوجه، وفي تقديري أنها امتداد لكتابه ” وما نسينا ” الذي صدر قبل أكثر من ربع قرن، وذاكرة سلمان ناطور هي من ذاكرة شعبه، فرغم الحروب، ورغم النكبة والعذاب، فإن ذاكرة الشعب الفلسطيني لا يمكن أن تنسى وطنها وفردوسها المفقود، واذا ما راهن البعض على أن الزمن كفيل بأن يمحو ذاكرة الفلسطينيين فإنه واهم بذلك، فأديبنا لم يكن مولودا عندما حصلت نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948، لكنه مع ذلك ينبش الذاكرة الفلسطينية، ويتقصى ما جرى في النكبة من ويلات ومجازر ومصائب، ينبش ويتفحص أسماء شهداء سقطوا وهم يتشبثون ببيوتهم ومدنهم وقراهم وأرضهم، ويتقصى أسماء قرى دمرت تدميرا كاملا، وتم محوها عن الخريطة، أو استبدالها بأسماء جديدة غريبة أعجمية، بعد تشريد من نجا من القتل من مواطنيها.
وذاكرة سلمان ناطور مسكونة بالمكان، هذا المكان الذي تغيرت ملامحه ان لم تطمس نهائيا، كما تغير ساكنوه، لذا فهو يجوب هذا المكان واصفا موقعه والطرق الموصله اليه، وحاراته ووهاده وجباله ومن شردوا من أطفال وشباب وشيوخ ونساء قتلن أو اغتصبن، وكيف قتلوا؟ وكيف شردوا؟، وأيّ الطرق سلكوا، ومستذكرا بطولات فريدة وعفوية، ومؤامرات حيكت، يستذكر كل ذلك بمرارة يكاد حبر ورقها ينزف دما.
يستذكر قرى دُمّرت ومُحيت بالكامل مثل: خربة ابو حرب، عين حوض، عين غزال، أمّ الزينات، البروة، ميعار، معلول، جبع، صفورية، اكزم، المجيدل، اقرث، كفر برعم، المزار، الطنطورة، كفر لام، الشيخ براق، سيريس، خربة أمّ الدرج، خبيزة، حدثا، مسحة، عولم، سيرين، معذر، سمخ، هوشة، الكساير، عيلوط، عيلبون، رميش، علما الشعب، الكفرين، الجلمة، صيدا، زيتا، عتيل، سلمة، الخيرية، العباسية، الساقية، بيت دجن، يازور، صرفند، سيدنا علي، سدود، والطابية.
كما يستذكر مدنا وقرى لا تزال قائمة، ولا يزال مواطنوها أو بعض منهم فيها مثل: حيفا، الناصرة، أمّ الفحم، يافا، عارة، بئر السبع والرملة التي قتل المئات من أبنائها بدم بارد بعد أن احتموا بالمسجد، لكن المدن ” المختلطة ” لم تبق كما كانت ” حيفا لم تمسح من خريطة هذا الوطن، لكن معالمها تتغير وتتبدل، حيفا عتيقة وحيفا جديدة، واحدة نعرفها نحن، وواحدة لا يعرفها إلا اولئك الذين تمر في ذاكرتهم أيّام البوابة الشرقية، وسوق الشوام، وبندر التجار، والقشلي كما مرت من السنوات الطويلة ” ص71
واذا كان أديبنا يؤرخ للذاكرة الفلسطينية، وللرواية الشفوية الفلسطينية، فإن اللاجئين أيضا لهم ذاكرتهم الحية، فأبو محمد اللاجئ في مخيم جنين، وابن خربة أبو حرب، عاد بعد حرب العام 1967، ووقوع الضفة الغربية تحت الاحتلال، عاد الى بيت أحد أصدقائه من مواطني دالية الكرمل، عاد حاملا ” كوشان ” أرضه وهو يردّد: “قلت آتي الى الارض وأفلحها أنا حتى أموت فيها فمن يعلم: بتروح حكومات وبتيجي حكومات بتموت ناس، وبتحيا ناس، وهالأرض بتظلها أرض بترابها وحجارها وصوانها، وأنا سأدفن نفسي في هذه الأرض كي أظل ثابتا لا أتغير…. مثلي مثل هالتراب ” ص 15
وبينما كان الشيخ مشقق الوجه يصف حدود عين حوض جاء على لسان السارد ” كانت الشمس تشرف على السقوط في بحر ” عتليت ” خلف القلعة المحصنة من أيام ” قلب الأسد ” والغزو الصليبي البائد، وان كانوا بنوا هذه القلاع ليوهموا الناس انهم باقون الى الأبد، فإن ما تبقى منها لا يقنع الناس إلا بأن الغزاة بناة القلاع ذاهبون حتما الى حيث لا رجعة “. ص 39
ولا يلبث الكاتب أن يعود في الصفحة 156 الى ذاتيته وذكرياته الخاصة مع ابناء جيله فيتساءل تحت عنوان ” ولدنا في الخطيئة ” لماذا ولدت بعد حرب ما زالت مستمرة الى ما لا نهاية، وفيها منتصر ومهزوم، ويريدونني أن أكون دائما أنا المهزوم ؟؟ ويتساءل بمرارة: لماذا ولدت في وطن يتآكل يوما بعد يوم، ويأكل أهله ساعة بعد ساعة ” ص 156
ومع أنّ كاتبنا عاش وأبناء جيله من أبناء شعبه حياة معذبة إلا أنّه يرفض القفز على براءة الطفولة فيقول: ” ولكن لماذا لا نذكر طفولة بريئة بدائية كنا نصنع فيها فرحنا على بيادر القمح، ونمارس حريتنا في الحقول الممتدة الى ما لا نهاية…كان النبع وكان البئر وكان تراب رملي يلسع اقدامنا الحافية وكنا سعداء ” ص 159 ويتساءل الكاتب سؤالا استذكاريا: هل نحن جيل بلا ذاكرة ؟” ص159 ويجيب بأنه يعرف يوم وشهر وسنة ميلاده مع أنّه لا يذكرهما، أمّا ميلاده الثاني ” فهو يوم سقطت عن سلم خشبي كان ارتفاعه ثلاثة امتار، ولم أمت ولم تكسر جمجمتي ولا أضلاعي ” ص160 أمّا ميلاده الثالث فكان نجاته من الغرق في بحر حيفا وهو في الرابعة عشرة من عمره، ومع هذا فإنه لا يحتفل بيوم ميلاده وله أسبابه، والتي تتمثل في نكبة شعبه في حرب ” مستمرة الى ما لا نهاية وفيها منتصر ومهزوم، ويريدونني أن أكون دائما أنا المهزوم…..في وطن يتآكل يوما بعد يوم، ويأكل أهله ساعة بعد ساعة ” ص 162
وقد توقفت كثيرا عند حكاية عبد الحسن الذي كان مطلوبا للانجليز، فجمعوا رجالات القرية في ساحة ليتعرفوا عليه، فاتفقوا أن لا يُعرّفوا عليه تحت كل الضغوط، الى أن جاءت والدته العجوز تحمل له الطعام والماء، ولما سألها الضابط الانجليزي عن اسم ابنها قالت إنّه عبد الحسن القبضاي، فتعرفوا عليه وقتلوه،” قسم كبير من الناس صرخ في وجهها وقال: أنت السبب في قتل ابنك، أنت قتلتيه، وهي صارت تشهق وتصيح: هذا ابني حبيبي، جبت له أسقيه.. عطشت يمّا… جُعت يمّا ؟ وأمضت ما تبقى من حياتها حاملة صرة فيها ثياب عبد الحسن وقربة ماء وهي تلف من بلد الى بلد لا تنطق الا بجملة واحدة: يمّا يا حبيبي، مين قتل عبد الحسن” ؟ ص 164 فهل جاء الكاتب بهذه الحكاية ليؤكد تساؤلاته في ص 156 لماذا ولدت في وطن يتآكل يوما بعد يوم، ويأكل أهله ساعة بعد ساعة “؟ أم للتدليل على المظالم التي أوقعها المستعمرون البريطانيون على الشعب الفلسطيني؟
وتعود الذاكرة في الصفحة 169 بأديبنا عندما التقى في العام 1980 بزيتونة فلسطين الشاعر الراحل عبد الكريم الكرمي ” أبو سلمى ” هذا الشاعر الذي ترك حيفا مرغما في النكبة، وبقى حتى آخر لحظة من حياته محتفظا بمفتاحي بيته ومكتبه، ويتذكر أبا محمد من بيت غزال الذي تشرد في نكبة العام 1948 الى مخيم جنين، وعاد بعد هزيمة 1967 ليتفقد خزانة وضعها عند صديقه الذي يبدو انه جدّ الكاتب، وفتح الخزانة التي بقيت مغلقة ” سحب عقدا من الفضة وورقة كبيرة، هذا العقد لأمّ محمد وهذا كوشان الارض سآخذهما وأترك لكما الخزانة ” ص 176.” ومفتاح ” أبي سلمى ” حرر أديبنا من عقدة مفاتيح زنازين الاعتقال ” ليس بيني وبين المفاتيح علاقة عشق، وقد جاء مفتاح أبي سلمى ليحررني من حقد على المفاتيح كان اشتد في نفسي في ليلة من ليالي ايلول عام 1977 ” ص 180 وفي تلك الليلة تعرض اديبنا الى الاعتقال.
” سفر على سفر ”
يمهد الكاتب لهذا الكتاب فيقول عنه بأنه ” ليس سيرة وليس مسيرة وليس رواية وليس أدب الرحلة والترحال ” ص 187 اذا ما هو ؟؟ ” هو المكان الفلسطيني بلا حدود، والزمان الفلسطيني لا بداية ولا نهاية….. هو نفي مطلق وهو فكرة مجردة وهو لا شيء ” ص 187
في هذا الكتاب يسيح الكاتب في روما وباريس ولندن، كما يسيح في اجزاء من وطنه، هذه السياحة ليست سياحة استجمام، وراحة، بمقدار ما كانت سياحة مع الذاكرة التاريخية، في مدن جميلة اخرى خارج الوطن، أهلها يعيشون حياة أخرى، وثقافات أخرى، وتاريخا آخر، فتساعد الكاتب على نبش ذاكرته، يستذكر الشاعر العذابات التي يلاقيها الفلسطيني في تفتيشه عند مدخل مطار بن غوريون، وفي داخل المطار، اثناء الخروج واثناء الدخول… يلتقي في باريس فدوى حبيب الشاعرة والفنانة التشكيلية، التي تعرض رسوماتها في باريس وهي مولودة في بيسان، عندما هجرت منها في النكبة كانت في السادسة عشرة من عمرها، تحنّ الى مسقط رأسها، تطرح ذكرياتها عن المكان، وتسأل الكاتب عما جدّ في هذا المكان.
وفي لندن يلتقي بفلسطيني مولود في نابلس، وترعرع في عمان في كنف عائلة ثرية، وتعلم في لندن ادارة الاعمال والتجارة، ويدير هناك أعمال عائلته ” ص 230 وهناك يريه هذا الفلسطيني صورة لقريته دالية الكرمل، كان قد التقطها سائح انجليزي للقرية قبل سنوات طويلة.
ويتجول الكاتب في ربوع وطنه، ويستذكر حضارات سادت ثم بادت، لكنها آثارها باقية.
انتظار:
يفتتح أديبنا كتابه بقوله الى ” أمّ سميح ” على صفحة كاملة، فمن هي أمّ سميح هذه؟ وهل هذا الكتاب هدية لها من الكاتب أم ماذا؟ وهذا الكتاب عبارة عن مقالات فيها حكايات باستثناء احمد بن رابعة فهو حكاية طويلة جاءت على شكل روائي.
المقالة في هذا الكتاب والمعنونة ” انتظار في ساحة باريس ” اذار 1980 وتتحدث عن العمال العرب في ثماني ساعات يومية تبدأ من الخامسة صباحا وحتى الواحدة ظهرا، وهم يبحثون دون جدوى عن عمل، فالعامل العربي يستيقظ في الخامسة ليسعى باحثا عن رغيف الخبز المرّ في سوق العمل الاسود، أحيانا يجد عملا بأجرة أقلّ من أجرة نظرائه اليهود، وغالبية أيامه لا يجد، تطارده الشرطة، ولا يعطيه مكتب العمل عملا، المقاولون يختارون العمال ” كما تختار زوجتك البندورة في سوق الخضار ” ص 290 ومن بين العمال العرب أطفال جار عليهم الزمن، وتركوا مقاعد الدراسة ليعيلوا أسرهم، ويعملون بأجرة تقل عن ربع أجرة البالغين: “يحرث على الولد طول النهار… أحيانا يطردهم دون ان يدفع لهم الاجرة… هؤلاء الأطفال يعملون في العتالة، في الباطون، في ورش العمار… انظر الى هذا الطفل ” رفع القشة ” ويحمل شوال الاسمنت على ظهره ” ص 292
ومع ذلك فإن ضريبة الدخل تطارد العمال العرب، وتفرض عليهم غرامات تصل الى عشرات اضعاف مداخيلهم، واحيانا تعتقلهم وتستجوبهم.
الحكاية الثانية: ” بيت من نايلون – كانون الاول 1982 ”
وموضوع الحكاية حول العمال العرب في مزارع المستوطنات، وهم يعملون في ظروف مأساوية وبأجرة قليلة احيانا ينامون في براكيات حظائر الحيوانات، وبعضهم ينام في هياكل باصات قديمة، كل عشرة في باص بدون نوافذ، فيضطرون الى تغليف هذه الباصات بالنايلون لتقيهم من الامطار التي تتسرب اليهم، وبعضهم أطفال في سن الدراسة، غاليتهم يعودون الى بيوتهم مرة كل اسبوعين.
الحكاية الثالثة: ” حكاية شيخ فلسطيني – تموز 2000 ”
وهذا الشيخ من قرية بيت جبرين، لاجئ في غزة، في تشرين 1948 كان عمره تسعة عشر عاما، وعندما دخل الجنود بيتهم حاول حماية والدته وأخيه الرضيع، واختطف الجنود والده الذي لم يعد حتى الآن – وعندما حاول اللحاق بوالده ” أوقفه الجندي بضربة على رأسه، سقط فاقدا الوعي ” ص 310 وفقد بعدها القدرة على النطق، ورفض ان يتزوج مع انه كان خاطبا، وبقي ينظر في وجوه المارة لعله يرى والده ” ولا يزال ينتظر والده، وينتظر العودة الى بيت جبرين ”
الحكاية الرابعة: “يوم حزيراني على حاجز ملتهب صيف 2002″
وفيها يصف الكاتب مروره عبر حاجز قلنديا بين القدس ورام الله، وكيف يعيق الجنود حركة السير، بل يوقفونها، ويطلقون الرصاص، ومع ذلك فالبلادة هي سيدة الموقف، فهناك سائق يقرأ الصحيفة، وهناك ركاب سيارة يصغون الى اغنية ويطربون عليها، وهذه البلادة اقنعت الكاتب بأن يكون بليدا حتى يتحمل الموقف،:” اقنعت نفسي أنّ البلادة هي سلاح الضعفاء، ولأن رجولتي شرقية لا تجيز لي الاعتراف بالضعف، فقد اقنعت نفسي أنّ البلادة هي سلاح الأقوياء ” ص 319 والجنود أيضا مصابون ببلادة الموقف…. الجنديان على التلة يواصلان العبث وتمضية الوقت هما ايضا مصابان ببلادة حاجز قلنديا فلا يبدو عليهما التوتر ولا الانفعال ولا التأثر ”
وفي هذه الحكاية احتجاج واضح على وجود الحواجز، وعلى قبول هذه الحواجز.
احمد بن رابعة:
وقد اخذت مساحة طويلة ما بين الصفحات 325 و440 وفيها خلط عجيب من الحكي والقص والروي، فصاحبنا يجول بنا ما بين القرية وحيفا، يعمل في البناء ويقع ضحية لنصاب في شركة التأمين، يثرثر مع الصبايا والعجائز في محطات الباصات… وينتظر الطلبة الذين لا يقفون لمن هم اكبر منهم سنا في الباص، بل ولا يعيرونهم اهتماما.
يبحث عن عمل، ويتقدم بطلب عمل على الهاتف بناء على اعلان في الصحيفة، فيقبلونه على اعتبار أنّه يهودي اسمه ” حايمو فيتش ” وخدم في الجيش وعندما عرفوا أنّه عربي رفضوه، مع ان العمل هو سفرجي في فندق على شاطئ طبريا ”
ودار على مكاتب العمل بحثا عن عمل، وأصبح يكره ساعي البريد بعد أن كان يحبه وهو طفل، فهر الآن لا يأتيه إلا برسائل رسمية من الضرائب المختلفة كضريبة الدخل وضريبة المسقفات ” الارنونا ” واستقبل زميلا يهوديا له ايام الجامعة، عمل في الاخراج السينمائي بعد إن كان جنديا في فرقة ” جولاني التي احتلت جنين”، عام 1967 واتصل باحمد بن رابعة يريد مساعدته في تصوير فيلم عن العرب، وأصر على تصوير امرأة قروية تخبز على الصاج فنهرتة، في حين رفض تصوير الفرن، وحاول تصوير عربي مع حمار ففشل،… وتعرض احمد ابن رابعة لمخالفة سير، وعندما ذهب الى المحكمة كي ينصفه القاضي حكم عليه بضعف الغرامة، واشتغل فراشا في المجلس المحلي، وكان الرئيس وزملاؤه يسرقون، وحاول أن يتهم احمد ابن رابعة بالسرقة…. وهكذا عاش حياة فقر في فقر، وما ان يخرج من مشكلة حتى يدخل في اخرى.
اللغة والاسلوب:
خلط الكاتب ثلاثيته بلغة عجيبة بين الفصحى والعامية، وعندما لجأ للعامية فإنه أكد بذلك الرواية الشفوية – كما يرويها ضحاياها – للنكبة وللمأساة وللجحيم الذي يعيشه الفلسطيني اللاجئ، أو المشرد في وطنه، والمقيم في مسقط رأسه، وقد كان موفقا في ذلك، ولو لجأ الى الفصحى في تقديري لأفسد المعنى المراد.
أمّا بالنسبة للاسلوب، فواضح أنّنا امام ملحمة فيها خلط من القصة والحكاية، والمقالة والخاطرة والرواية، والسرد التاريخي والجغرافي، والبعد الفلسفي والسياسي وأدب الرحلات وأدب الحنين، ورثاء المدن والقرى، والبكاء على الاطلاال.
وهذا الدمج فيه نبرة لاذعة، وأمل واضح، ومرارة قاسية وكلها مغلفة بسخرية سلمان ناطور الذي عرفناها في مختلف كتاباته، وهذه السخرية الفطرية في أسلوبه هي الأقرب الى ذهنية المتلقي سواء كان قارئا أو مستمعا، ووصلت سخريته التي تكاد تطغى على الكتاب برمته الى درجة ” شر البلية ما يضحك ” أو على رأي الشاعر علي الخليلي” الضحك من رجوم الدمامة “. يبقى ان نقول أن هذا العمل الابداعي يشكل اضافة نوعية للمكتبة الفلسطينية والعربية.