إستعراض لديوان “مفاتيح ومنازل الكلمات”
تاريخ النشر: 23/02/16 | 2:05مقدِّمة ٌ:- الشَّاعرُ والأديبُ رشدي الماضي أصلهُ من قرية ” إجزم ” المُهَجَّرة، يسكنُ في مدينة حيفا… حاصلٌ على لقب الماجستير (m.a) في موضوعيِّ اللغةِ العربيَّةِ والتاريخ من جامعة حيفا. عملَ في سلكِ التعليم لفترةٍ طويلةٍ، عملَ في البدايةِ معلمًا ثمَّ مديرًا لمدرسةِ المتنبِّي بحيفا، خرجَ للتقاعد قبلَ عدَّةِ سنوات. يكتبُ الشِّعرَ والمقالات الأدبيَّة َ والثقافيَّة َعلى أنواعها منذ أكثر من ثلاثين سنة.
بدأ ينشرُ إنتاجَهُ الإبداعي مؤخَّرًا وبشكل ٍ مكثَّف ٍ في مختلفِ الصحفِ والمجلاتِ المحليَّة وخارج البلاد. حقق َ شهرة ً وانتشارًا كبيرًا على الصَّعيدِ المحلي ووصلت شهرتهُ إلى العالم ِ العربي. أصدرَ العديدَ من الدواوين الشعريَّة وسأتناولُ في هذه المقالةِ ديوانهُ الأخير بعنوان: (مفاتيح ومنازل الكلمات) – من إصدار مكتبة كل شيىء – حيفا – يقع في مئة صفحة من الحجم المتوسط.
مدخل:- الأستاذ ُ الشاعرُ ” رشدي الماضي ” من الشعراء الكبار البارزين محليًّا والمُمَيَّزين فنيًّا. تمتازُ كتاباتهُ جميعها بقوَّةِ اللغةِ وجزالتِها وجمال السَّبك والجودة والدقة في اختيار الكلمات والمفردات وبالتكثيف من الرموز والإيحاءات والصُّور الشِّعريَّة والتعابير البلاغيَّة المبتكرة والحديثة. ونجدُ الكثيرَ من قصائدِهِ قريبة ً إلى السّرياليَّة وموغلة ً في الغموض. وأمَّا من الناحيةِ الشكليَّة والبناء الخارجي فهنالك قسمٌ من قصائدهِ على نمط شعر التفعيلة الموزون. والقسم الكبير من شعرهِ متحرِّرٌ من قيود الوزن (الشعرالحُرّ الحيث) وقريب إلى شعر التفعيلة بعض الشيىء وتترعُهُ موسيقى داخليَّة ٌأخَّاذة ٌ… وأحيانا ً نجدُ في شعرهِ الحديث بعضَ العباراتِ والجمل الموزونة التي جاءت بشكل ٍ عفويٍّ.
وشاعرنا ضليعٌ وخبيرٌ جدًّا في كيفيَّةِ اختيارالكلمات والمفردات اللغويَّة والجمل الشعريَّة وانتقائها… وفي كيفيَّةِ توظيف الرموز والمعاني بالشكل ِ الصحيح والمُتقن. وكما انهُ متمكنٌ جدًّا من اللغة ِ العربيَّةِ ومن البحور (الأوزان الشعريَّة) ولكنهُ لا يتقيَّدُ ولا يلتزمُ دائمًا بالوزن ِ(عروض الخليل)… وذلك جريًا وتمشِّيًا مع ركبِ تيَّار ِالحَداثةِ والتجديدِ في مسيرةِ الشِّعر ِالحديثِ.
وبالنسبةِ للرموز ِ والمعاني التي يُوظفها في شعرهِ فهو يستقيها ويستوحيها من عدَّةِ مصادر، وهي:
1) من التواريخ والأساطيرالقديمة – كاليونانيَّة والبابليَّة والكنعانيَّة والفرعونيَّة.. إلخ.
2) من التراث والفلكلور الشَّعبي والتاريخ العربي.
3) من الديانات السَّماويَّة والكتب المقدَّسة.
وسأركزُ الأضواءَ في هذا البحثِ على عدَّةِ قصائد من هذا الديوان وسأبدأ بقصيدةٍِ بعنوان: (عاد ” زريابُ” يعزفُ على أوتار ِنخيلِكِ يا عراق) – صفحة (13) – حيثُ يوظفُ الشاعرُ في هذه القصيدةِ شخصيَّة الموسيقار العربي القديم (علي بن نافع المعروف والملقب بزرياب) وهو من أصل عراقي سافرَ إلى الأندلس وعاشَ بقيَّة َ عمرهِ هناك.
ويوظفُ أيضًا بعضَ الشخصيَّات الأخرى من الأساطير القديمة الغابرةِ، مثل: جلجاميش والإله تموز وأنكيدو… إلخ. ويقولُ في القصيدةِ:
(” أتركني !! // ضِقتُ صبرًا وعيِّيتُ كلامًا !! //
// أتركني سرسرًا // يمتدُّ نهاراتِ لهيبٍ وحصارًا //
// يأوى إليهِ الليل // طاحونة ً // تسحقُ زحفَ النعاس //
// لتظلَّ صحوتي أرَقَ ترَقُّبٍ وانتظارًا //
ويقولُ أيضًا: (” زرياب !! // أنا تالليلةٍ لا أريدُكَ: “وحيًا ” ولا حتى ” بُراقا ” //
// أتركني وخلي هُوَّة ً “أينهما مني”// تأخذ ُ دجلة َ َتوْأمًا والفراتا//.
إنَّ موضوعَ وفحوى هذه القصيدة عن العراق ومأساةِ شعبهِ ومعاناتهِ واجتياح واحتلال الأجانب الغرباء لأرض العراق.
ويريدُ شاعرنا هنا أن يُثبتَ ويؤكِّدَ أنَّ الشَّعبَ العراقي سيظلُّ مخلصًا ووفيًّا لأرضهِ وبلبدهِ ولن يُهادنَ ولن يخونَ ترابَ الوطن وسيبقى صامدً وثابتا ً ومتصدِّيًا للصعابِ ومُتشبِّثا ً بترابِ الأجدادِ.. ولن يخضعَ ولن يركعَ للغريبِ الدَّخيل. ويقصدُ الشَّاعرُ بكلمةِ النخيل في قصيدتهِ الشَّعبَ الصامدَ الأصيل وكلَّ مواطن ٍ وإنسان عراقيٍّ غيور ووطنيٍّ مخلص ٍلأرضهِ وبلادهِ.. والنخلة ُ تعني أيضًا الأرض العربيَّة الحرَّة – كما قالَ سابقا ً الشَّاعرُ العراقي الكبير ” مضفر النواب “: (حمدانيُّونَ بُوَيْهيُّونَ سَلاجقة ٌ ومماليك أجيبُوا فالنخلة ُ أرضٌ عربيَّهْ “).
ويقولُ الشَّاعرُ رشدي الماضي في القصيدةِ أيضًا:
(” نخيلكِ نامَ // كي لا يأكل ” تفاحَ الخيانه “// ويمسك ” بالقميص ” //
// ويشربَ ” عذبَ الكلام ” // غدرًا غدرًا // وعذابًاً !! عذابًا //
زرياب ُ مذ غابَ النخيلُ // لم يبقَ سُعفٌ جناها العراق، نوافذ َ مُشرعة //
// تذرذِرُ النورَ على دار ٍ للرشيد // كانت بالأصفياءِ دومًا عامرهْ //.
ويقولُ الشَّاعرُ أيضًا:
(” وَسَقطت في الفراتِ مفاتيحُ // فتغلقت الأبواب //
// وطوَّقت ” خصيبَ الهلال ” // سلاسلٌ وأغلالْ //
// سيدورُ يا زريابُ الزَّمانُ // وتنقلبُ الحكايهْ //… إلخ.
وكما هو واضحٌ هنالك بعضُ الرموز مستوحاة ٌ ومستقاة ٌ من الكتاب المقدَّس – العهد القديم -، مثل: ” تفاح الخيانة “… أي تفاحة “حوَّاء ” التي أعطتها لزوجها آدم وخانا، بدورهما، مشيئة وإرادة الله الخالق الذي طلبَ منهما ألا يأكلا من شجرةِ التفاح المُحَرَّمَة. ويقصدُ الشاعرُ بالقميص – (قميص النبي يوسف)… ومعنى العبارات: إنَّ النخيلَ… (أي الشَّعبَ العراقي الأصيل) لا يخونَُ ابدًا (لا يأكلُ تفاحَ الخيانةِ) ولن يغدرَ مهما عانى ومهما كابدَ ولاقى من صعابٍ وضيقاتٍ وآلام ٍ وعذابٍ من قبل ِ المحتلين الأجانب الدخلاء ومن المؤامرات الشيطانيَّة التي تحَاكُ ضدَّهُ بالتنسيق ِ مع العملاء المتواطئين من نفس ِ الشَّعب.
وهنالكَ بعضَ المقاطع في القصيدةِ نجدُ المعاني واضحة ً فيها، مثل: ” وَطوَّقتْ خصيبَ الهلالْ // سلاسلٌ وأغلالْ //…. أي انَّ الهلالَ الخصيب (العراق) محتلٌّ ومأسورٌ ومُقيَّد… وكانَ يُعنىَ بالهلال ِ الخصيبِ قديمًا: العراق وسوريا ولبنان وأجزاء من فلسطين والأردن (المناطق الخصبة). والشاعرُ هنا استعملَ اصطلاحَ الهلال الخصيبِ بشكل ٍ معكوس ٍ: (خصيب الهلال) ولم يقل الهلال الخصيب، وذلك جريًا مع القافية ِ ولملائمةِ الإيقاع ِ كما يبدو.
والقصيدة ُ بشكل ٍ عام مستواها راق ٍ وعال ويوجدُ فيها أسلوبُ الحوار من طرف ٍ واحدٍ، في جميع جمل القصيدة، (فالشَّاعرُ يخاطبُ زريابَ الموسيقار)، وتحليها المسحة الرومانسيَّة الشَّاعريَّة ُ.. إضافة ً إلى توظيف التاريخ والأساطير والشَّخصيات المذكورة اعلاه.
وفي القصيدة ِ أيضًا نفحة ُ الأمل ِ والتفاؤل والثقة الكاملة بأنَّ الزمان سيدورُ وسيزولُ الإحتلال ُ حيثُ يقولُ الشَّاعرُ:
(” سيدورُ الزمانُ يا زريابُ وتنقلبُ الحكاية ُ “).
ومعاني هذه القصيدةِ واضحة ٌ وغيرُ مُعَقدَّة… ولكن على كلِّ من يريدُ أن يفهمَ شعرَ رشدي الماضي، حتى في قصائدهِ السَّهلةِ، يجب أن يكونَ واسعَ العلم ِ والثقافة ِ ومُطلعًا على الآداب ِ والتراثِ والتاريخ ِ جميعهُ – قديما وحديثا (العربي والأجنبي) ليعي ويُدركَ ويفهمَ كلَّ رمز ٍ وكلَّ توظيف ماذا يعني ويقصدُ بهِ وكلَّ استعارةٍ ماذا يرمزُ ويهدفُ من خلالها.
وهنالكَ الكثير من قصائد الأستاذ رشدي الماضي نستشفُّ منها الإبداعَ والفنَّ ونتذوَّقُ فيها العذوبة والجمالَ رغمَ الرموزِالمُكثفة والغموض اللذين يكتنفانها حيثُ تتجلى فيها الشَّفافيَّة والرومانسيَّة ُوالجماليَّة ُ والعبقريَّة ُ… ولكن في في بعض قصائدهِ يتجاوزُ الحدودَ الحمراء ويكونُ موغلا ً كثيرًا في الرموز والطلاسم والتوظيفات المكثَّفة والغموض ممَّا يُفقِدُ القصيدةَ سلاسَتها وانسيابها أحيانا وجمالها اللفضي والذوقي ورومانسيَّتها وشفافيَّتها وحتى لغتها الشِّعريَّة وتصبحُ صرحًا من الأحاج والطلاسمِ والمصطلحات الغامضة المُبهمة…وحتى النقاد المُحدثون المُوغلون في الحداثة ِ ودعاة التجديد أعداء المدارس الكلاسيكيَّة وكل شعر موزون ورومانسي وغنائي قد يحكمونَ عليه من هذا المُنطلق ِ كما ذكرتُ.
ولننتقل إلى قصيدةٍ اخرى من الديوان بعنوان: ” حتى يعودَ المُتنبَّي زمنا ً بديلا ” – صفحة (38) – يوظفُ فيها الشَّاعرُ، مثل معظم قصائدهِ الأخرى، الكثيرَ من الأسماءِ والرُّموز ِ التاريخيَّة عدا شخصيَّة المتنبِّي، مثل: ” سالومي “، ” خيزران ” (أم الرَّشيد)، ” يوحنا المعمدان “، ” ملوك الطوائف “، الرشيد والمأمون… إلخ.
وكما هو معروفٌ فأبو الطيِّبِ المتنبِّي كانَ متعصِّبًا للقوميَّة ِ العربيَّةِ لأنهُ عربيٌّ من قبيلةِ ” كنده ” العريقة وكانَ يمقتُ ويرفضُ الملوكَ والحكامَ والولاة َ الأجانب من أصل ٍ غير عربيٍّ، حتى لو كانوا مسلمين.. وفي هذا الأمر يقولُ:
(” وإنما الناسُ بالملوك ِ وما تفلحُ عربٌ ملوكها عَجَمُ
لا أدبٌ عندهُمْ ولا حسبٌ ولا عهودٌ لهُمْ ولا ذممُ)… إلخ.
لقد عاشَ المتنبِّي في عصر ٍ كثرت فيهِ الدويلاتُ والممالكُ والإمارات والإنقسامات بين العرب والمسلمين مثلَ عصر ِ ملوكِ الطوائف… والمقصود بعصر ملوكِ الطوائفِ آخر حُكم العرب في الأندلس حيثُ كانَ الملوكُ والحكامُ العرب المسلمون في الأندلس في حروبٍ ونزاعاتٍ مستمرَّةٍ مع بعضهم ويستعينونَ بالملوكِ والحكام ِ الأجانب ضدَّ بعضهم البعض. وفي عصرنا هذا ما زالَ يحدثُ نفس الشيىء فالعربُ والمسلمون منقسمون ومجزَّؤون لدويلات عديدةٍ ولا توجدُ وحدة ٌ تجمعهُم، وكلُّ حاكم ٍ أو رئيس ٍ فيهم يعملُ لأجل ِ مصلحته ِ أوَّلا ً قبلَ مصلحة ِ شعبهِ وبلادهِ وأمَّتهِ. والشَّعرُ رشدي الماضي، كما هو واضحٌ في قصيدتِهِ، لا يعارضُ دعوةَ المتبي في ادِّعائِهِ النبوَّة أو ما يُشابهُهَا لأنَّ الوضعَ السياسي والإجتماعي والإقتصادي.. إلخ كانَ آنذاك وما زالَ إلى يومنا هذا يتطلبُ مجيىءَ إنسان ٍ عربيٍّ فذ ٍّ حُرٍّ ومقدام، حتى عن طريق إدِّعاء النبوَّة ليُغيِّرَ الوضعَ العربي المُزري والمخزي ويدحرَ ويُزيلَ الحكامَ والولاة َ الخصيان الخونة) ملوك الطوائف) ككافور الإخشيدي وأمثالهِ المُهَجَّنين ويُحققَ العدالة الإجتماعيَّة أوَّلا ً ثمَّ الكرامةَ َ والمجدَ والسُّؤدُدَ العربي.
ويقولُ الشاعرُ رشدي الماضي في قصيدتهِ:
(” ملوك الطوائف “!!// أطبقتْ علينا ” مذلة “// وَضُربتْ علينا “مسكنهْ”// // ولم تعد تجيئنا ” الأيام ” // مواعيدًا وأخبارًا !! //.
ويخاطبُ الشَّاعرُ ملوكَ الطوائف – حكام العرب اليوم – وباسم ِ كلِّ عربيٍّ حرٍّ:
(” ملوكَ الطوائف ِ” !! // أنا باق ٍ على قارعةِ مواعيدي //
أنهدمُ في زمنِ السُّقوطِ // ” رشيدًا” و” مأمونا ً ” // ودارً فدَارًا !! //
إن لم يكن لنا زمن الرِّدَّةِ لا ” وحيًا ” ولا “غارا ” !! //
سأظلُّ لسفر ِ الطيِّبِ ” حروفا ً ” أخرى وأمطارا //
حتى يعودَ إلينا، يومًا، ” نبيًّا ” // يرفعُ عن زمن ٍ لنا بديل ٍ//
ستارًا.. ستارًا.. ستارًا !! //).
يريدُ الشَّاعرُ أن يقولَ: إذا لم يأتِ في زمن ِ الرِّدَّةِ… ((أي العصر الذي نحياهُ الآن.. مثل زمن الردَّة – الإبتعاد عن الهدى والتمرُّد على الدين وعلى الحق والقيم المثلى والمبادىء)) لا وحيٌ ولا نبوَّة سيظلُّ (الشَّاعرُ) لآراءِ وأشعار ِ المتنبي متبعًا ومقتنعًا حتى يرجعَ ويظهرَ مرَّة ً أخرى نبيًّا وقائدًا عربيًّا حرًّا وشريفا ً.. أو ما يُشابههُ في هذا المنحى والمُنطلق ِ الفكري والتوجُّه القومي العربي الحر والشَّريف، ويُبدِّلَ الأوضاع َ ويرفعَ الستارَ ويحققَ العدالة َ.
وسأنتقلُ إلى قصيدةٍ بعنوان: ” صاحب الأخدود ” – صفحة (68) ويقولُ فيها:
(” يا صاحبَ الأخدود !! // معكَ، آخر ” شمَّه ” !! //
منازلي شهيدة ٌ // أبوابها ضحيَّة ٌ… // فخلها، عن مأتمي بعيدة ٌ //
” وليمة ٌ” صنعتها // ” ولقمة الرحمه ” //.
ويقولُ: (” زمانكَ ” هذا ؟ !! // أسقط من ” تقويم ” لهُ //
أنا باق فوقَ الهدم ِ صبَّارًا // وتحتَ الرّدم ِ كلمهْ
تحملُ من نبض ِ وجودي // مقدارًا وقدرهْ //
فهذي “حفرُ الموتِ ” صارت لعطش ِ الدار // صارتْ لهُ بئرَا !!! //).
تحليلُ القصيدة:
أنَّ صاحبَ الأخدودِ هو ملك اليمن (التبَّع – ذو نؤاس) وقصَّتهُ معروفة ٌ وهي اضطهادهُ للمسيحيِّن في اليمن (قبل الإسلام) ووصلَ بهِ طغيانهُ وظلمهُ وجبروتهُ إذ أمرَ جنودَهُ بجمع ِ الكثير ِ من الأحطاب وجذوع ِ الأشجار ووضعِها في أخدودٍ كبير ٍ وعميق وأشعلوا فيها النار وألقوا الكثيرين من المسيحيِّين – من رجال ونساء وأطفال وشيوخ ٍ في هذه النيران المتأجِّجةِ فأحرقوا دونما سبب.
وقد وَردَتْ هذه القصَّة في الفرآن الكريم (سورة البروج) وجاءَ فيها:(” قتِلَ أصحابُ الأخدود // النارِ ذاتِ الوقودْ // إذ هُم عليها قعود//).
ويقصدُ الشاعرُ بصاحبِ الأخدودِ كلَّ ظالم وطاغية ٍ يظلمُ الغيرَ وكلَّ دولةٍ قويَّة تحتلُّ وتظلمُ الشعوبَ الأخرى دونما سبب وتسومُهم مرَّ العذابِ والويل. ومعنى القصيدة هنا ينطبقُ على العديد من الدول والحكام اليوم الذين يظلمون الشُّعوب الأخرى الفقيرة والضعيفة…. وتنطبقُ معاني هذه القصيدة بشكل ٍ مباشر وواضح على الشَّعب ِ الفلسطيني في الضفة والقطاع والشتات الذي يعاني ويكابدُ الآلامَ والصعوبات ويلاقي ويذوقُ من المحتلِّ مُرَّ العذابِ والتنكيل والقمع بشكل ٍ يومي. والشاعرُ يتحدَّث ُ على لسان كلِّ إنسان ٍ وكلِّ طفل ٍ فلسطيني صامد أنهُ سيبقى ثابتا مُتشبِّثا ً بترابِ آبائهِ وأجدادهِ رغمَ القصفِ والهدم وسيبقى تحت الردم والأنقاض ولن يرحل.
وجاءَ الشاعرُ بتشبيهٍ جميل ٍ وهو نبتة الصبَّار، فالصبَّارُ كما هو معروفٌ نبات أو شجر صحراوي يتحمَّلُ الجفافَ والعطشَ ويعيشُ في أسوإ الظروف وهو رمزٌ للصبر والجلد والبقاء.
والإنسانُ الفلسطيني مثلهُ مثل نبتةِ الصبَّار في الصحراء ِ القاحلةِ فرغم جميع وسائل القمع ِ والتنكيل التي يستعملها المحتلُّ ضدَّهُ يبقى صامدًا في مواقفهِ فلن يتركَ ترابَ الوطن ولن يتنازلَ عن حقوقهِ حتى ينالَ حرِّيَّته واستقلاله… وحتى حفرالموت التي جُهِّزتْ لتواريِهِ وتدفنهُ ستتحوَّلُ إلى آبار ٍ تروي الدارَ والأهل.
والقصيدة ُ بشكل ٍ عام فيها نبرةُ التحدِّي والإقدام وفيها نفحة ُ الأمل ِ والتفاؤل ومفادُها وفحواها أنَّ الطاغية َ… كلّ طاغية ٍ وظالم ٍ ومهما تجبَّرَ وتغطرسَ فنهايتهُ الزوال وسوء ُ المَآل. فالظلم هيهات أن يستمرَّ وكلُّ صاحبُ حقٍّ لا بدَّ أن يأخذ َ حقهُ، فكما لاقى صاحبُ الأخدودِ (التبَّع ذو نؤاس) جزاءَهُ وعقابهُ ونهايتهُ الرَّهيبة حيثُ هربَ واقتحمَ بفرسهِ البحرَ وماتَ غرقا ً بعد أن اجتاحَ الأحباشُ بلادَهُ (اليمن) واحتلوها عندما جاءوا لمساعدةِ نصارى اليمن ونجران وانقاذهِم من ظلمهِ. فهكذا سيكونُ مصيرُ كلُّ ظالم ٍ ومُتجَبِّر ٍ، وكلُّ شعبٍ مظلوم ومضطهد سينالُ حريتهُ مهما طال الزمنُ..
ولننتقل إلى قصيدة أخرى بعنوان: (” لمدينتي أكثر من عرس.. ليلة ” الدخلة “) – صفحة 85 – يُعالجُ الشاعرُ في هذه القصيدةِ عدَّة َ مواضيع، مثل: المواضيع السياسية والإنسانية والوطنيَّة وبأسلوبٍ رمزي بحت وبتوظيفات ٍ أحيانا تكونُ موغلة ً في الغموض وبصور ٍ شعريَّةٍ جديدةٍ واستعارات مترعةٍ بالحداثةِ والتجديد. وهنالك بعضُ المقاطع في القصيدة ِ نجدُ المعاني فيها واضحة ً جدا ومفعمة ً بالحماس ِ والحيويَّة ِ والصَّخب ِ ويُعيدُ الشاعرُ إلى أذهاننا، في هذه القصيدةِ، روائع َ شعراء ِ المقاومة المحليِّين في الخمسينيَّات والستينيَّات، مثل: محمود درويش وراشد حسين وتوفيق زياد وغيرهم، فيقولُ مثلا ً:
(” فصباحُ الخير ِ يا “غزَّهْ ” // ومساء الحنَّا والزفَّهْ
عريسكِ اليوم عادْ // يتمِّمُ سهرة َ ” الصمدَهْ ” ” َقدِّمِي” إليهِ ” ليلاهُ ” // دقتْ ساعة ُ “الدخلهْ ” // دقت ساعة ُ ” الدخلهْ ” //
ويتحدَّثُ الشاعرُ في القصيدةِ، بشكل ٍ رمزيٍّ، عن الهمِّ العربيِّ والفلسطيني بالذات والإنجاز والإنكسار والهزيمة والمعاناة، فيقولُ:
(” نضبَتْ خوابي الزيتْ // وعلا زيتوننا رجومًا وحطامْ // (” كبرتْ رمَّة ٌ // رمَّة ٌ تحتَ رُكامِهِ // رائحة ُ الهزيمهْ //
ويتحدَّثُ عن الوطن الذي يرمزُ لهُ بالمدينةِ والحبيبة فيقولُ:
(” مدينتي حبيبتي !! // يا دروبًا بقيتْ خضراءْ
” ورياحُ الشَّمال ِ ” وفيَّة ٌ وفيَّهْ // أنتِ ” درَّة ٌ يتيمة ٌ ” في صحاري رائعاتِ البقاء // وأغنية ٌ لوجودي أزليَّهْ //
…. أي أنَّ مدينته ووطنهُ رغم كل محاولات التخريب والطمس والتشويه الحضاري وتغيير المعالم الجغرافيَّة فيه، من قبل الغير، ستبقى دروبُهُ خضراء ويبقى مُشِعًّا وجميلا ً وسيبقى حُبُّهُ لوطنهِ أبديًّا لأنَّ وطنهُ (مدينتهُ) هي حبيبتهُ وَحُبُّهُ منذ الأزل وأغنية ُ وجودهِ وبقائهِ وهويَّتهِ السرمديَّة.
ومن المقاطع والجمل ِ الجميلةِ في القصيدة حيثُ يقولُ: (” مديني !! وأنتِ مرفأ حُبِّي // رصيفكِ هذا ؟! أنا ” نعفتهُ ” //
مناديلَ ودنانَ صبر ٍ واتظارا // حرَّهُ ” فاقَ ” ” العيونَ ” جمرا //
” وفاقها ” حنينا ً ونارا… //.
إنَّ هذه المقاطعَ متعدِّدة ُ الاتفاعيل، فيها موسيقى داخليَّة ٌ أخَّاذة ٌ (من ناحية ِ الذوق والجرس) وكلماتها جميلة ٌ وعذبة ومشبوبة ٌ باللعواطف الجيَّاشةِ وبالوجدان المُرهَف، وفيها بععض التعابير البلاغيَّة والإستعارات الجديدة المبتكرة التي لم تُستعملُ من قبل، مثل: (رصيفك هذا أنا نععفتهُ مناديلَ ودنانَ صبر ٍ وانتظارا)…
فالمناديلُ هي رمز ٌ للمحبَّة والوداد الدائم وللحبِّ الطاهر… فكان دائمًا ومنذ القدم أن المُحِبَّ العاشق َ يهدي حبيبتهُ منديلا ً ليبقى معها كذكرى. وشاعرنا يتحدَّثُ هنا بلسان ِنفسِهِ ويقصدُ العاشق َ والإنسانَ الفلسطيني حيثُ نعفَ المناديلَ الكثيرة على رصيفِ مدينتهِ (بلادهِ) ثمَّ دنانَ الصبر والإنتظار. والدّنان هي الخوابي – والمعروف أنَّ الخوابي تخزنُ فيها المؤنُ الغذائيَّة الهامَّة، مثل: الزيت والعسل والخمر فترة ً طويلة ً.
فالدنانُ هنا رمزٌ للصبر ِ والجلد على طول ِ الأيام ِ والدهور ِ، وهو تشبيهٌ جديدٌ يستعملهُ شاعرنا لأوَّل ِ مرَّةٍ… وهذا الرصيفُ بحرِّهِ ونارهِ قد فاقَ العيونَ جمرًا وحنينا ً ونارًا… ويقصدُ بالعيون ِ ربَّما عيون الماء التي اشتاقت لِمُهَجَّريها (سكانها الأصليِّن الذين نزحوا وَشُرِّدُوا عنها)… أو العيون الآدميَّة – عيون الأهل الذين شُرِّدوا وأبعِدُوا عن قراهم ومنازلهم فعيونُهم دائمًا تدمعُ وتبكي لذكرى الأرض والوطن فهي مشبوبة ٌ بالنار والجمر ِ مثل رصيفِ المدينة – (الأرض والوطن).
وسأنهي البحثَ بقصيدةٍ أخرى من هذا الديوان وهي القصيدة الأولى – صفحة 3، بعنوان: (غدُنا بئرٌ عطشانة) والقصيدة ُ تفعيليَّة ٌ على وزن المتدارك أو الخبب، وهي قصيدة ٌ وجدانيَّة ٌ رومانسيَّة ٌ وفلسفيَّة ٌ ذات طابع وطني، وفيها بعضُ الشَّطحاتِ الصوفيَّة. ويقولُ فيها:
(” مرَّ الليلُ // يمرُّ الليلُ ولا يمضي !! //
شبَّ قلقٌ // وعادَ يُهَمْهِمُ في دربي //
لا تحلمْ !! // أبوابُ الغابةِ مسدُودَهْ !! //
خطاكَ هباءْ // وخطاكَ “رُؤيَا ” مَوْءُودَهْ !! //
لا تحلمْ !! // يعودُ الحلمُ ولا يأتي //
سأعودُ الآنَ إلى صمتي !! // “).
يستعملُ الشَّاعرُ في هذه القصيدةِ، مثل معظم قصائدهِ في هذا الديوان، الكثيرَ من علاماتِ التعَجُّب ويضعُهَا في المكان والموقع المناسب لتضيفَ معنى وتأكيدًا آخرَ للمعنى الذي يريدُهُ فمثلا ً عندما يقولُ: ” لا تحلم ” فهذا الطلب هو مستهجنُ وغير منطقي ويُثيرُ العجبَ فوضعَ بعدَ جُملةِ (لا تحلمْ) علامتيّ تعجُّبٍ (!!) لِيُظهرَ ويُؤكِّدَ الغرابة والإستهجانَ من طلبهِ هذا… إلخ.
ويقصدُ الشَّاعرُ بكلمةِ الغابةِ في القصيدةِ – الحياة الشَّفافة السَّاذجة الهادئة والبعيدة عن الحقد والبغض والصَّخب والضوضاء وهموم ومشاكل الحياة الحياة والناس.. وتعني الغابة ُ أيضًا الحرِّيَّة َ والإنطلاق َ الروحي والفكري وتحقيق الذات والإحساس بالكيان الحر الكامل المتكامل… فأبواب الغابةِ (الحُرِّيَّة) مسدودة وليسَ بالسَّهل ِ فتح الأبواب والوصول إليها – (فالخطى هباء) – لا تجدي – حسب تعبير الشَّاعر.
وفي نهايةِ القصيدةِ نجدُ نبرة َ الأمل ِ والتفاؤل والتحدِّي والتصدِّي، فيقولُ:
(” ولدي الآنَ تسكنكَ // الآنَ تسكنكَ عتمَهْ !! //
فوقكَ سقفٌ تختبىءُ // فيهِ تختيىءُ غيمَهْ !! //
الآنَ الآنَ اننزلها // أمطارُ ” اليوم” غضبانهْ //
الآنَ إليها أرسلها // بئرُ ” البكرةِ ” عطشانَهْ //
التحليل:
رغمَ العتمةِ التي تسكنُ الإبنَ وتملي عالمهُ والظلامُ المحدقُ فمجالُ الأمل وبابُ الفرج مفتوحٌ… ففوقهُ توجدُ غيمة ٌ – والغيمُ رمزٌ للخصبِ والعطاءِ والعيش الرَّغيد وللتفاؤل، فباستطاعةِ الولد – (كما يخاطبهُ والدهُ في القصيدةِ) أن ينزلها ويجعلها تهطل وتمطرُ أمطارًا لتملأ البئرََ فالبئرُ عطشانة وتفتقرُ للمياهِ – والبئرُ هي رمزٌ لأشياءٍ عديدة: للأرض، للوطن، للأهل والأطفال وللوضع الإقتصادي… إلخ. أي عليهِ ألا َّ ييأس وأن يستمرَّ في مسعاه ويستغلَّ كلَّ الطاقات والإمكانيَّات لتغييرِ الوضع ِ الذي يحياهُ: إقتصاديًّا ونفسيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا.
خاتمة: – وأخيرًا وليسَ آخرًا إنَّ الأديبَ والشَّاعرَ القدير الأستاذ رشدي الماضي هو ظاهرة ٌ شعريَّة ٌ متفرّدة ٌ متميِّزة ٌ محليًّا لمستواهُ الشِّعري الراقي ولرؤيتهِ الإنسانيَّة والأمميَّة والفلسفيَّة والميتافيزيكيَّة فهو يكتبُ ليسَ لشخص ٍ أو لجهةٍ ما فقط أو لشعبٍ معيَّن، بل يكتبُ لجميع الشعوبِ والأمم ِ في هذا العالم ِ فنلمسَ في شعرهِ الهمَّ الإنساني والأممي الشَّاملَ وليسَ فقط الهمَّ الفلسطيني أو العربي المحض. ولغتهُ الشعريَّة ُ راقية ٌ متميِّزة ٌ بكثرةِ التعابير والمصطلحات البلاغيَّة الجديدة التي يستعملها وبكثرةِ التوظيفات والرموز المُستمدَّة من عدَّةِ مصادر – كما ذكرتُ في بدايةِ المقال… وهو قد وظفها بالشكل ِالصحيح والمتطور واللبق.
فشعرُهُ هو ” السَّهل الممتنع ” الذي لا يستطيعُ كلُّ شاعر ٍ أن يأتي بمثلهِ… وفي العديدِ من قصائدهِ نجدُ فيها الصَّعبَ المُمتنع وليسَ كلُّ شخص ٍ يستطيعُ أن يفهمَ ويُحلّلَ ما يكتبهُ شاعرنا إذا لم يكن على مستوى ثقافي عال ٍ.
فنهنىءُ الأستاذ َ والشَّاعرَ الكبيرَ المبدعَ والإنسانَ الإنسان ” رشدي الماضي ” على هذا الإصدار الرائع ونتمنى أن يتحفنا قريبًا بالكثيرِ من الإصدارات الجديدة – الشعريَّة والنثريَّة.
………………………………………………………………………
المصادر:
1) ديوان المتنبي
2) القرآن الكريم (تفسير الجلالين)
3) ديوان وتريَّات ليليه) – مُضفر النواب
حاتم جوعيه – المغار – الجليل