حديث أدبي (4)
تاريخ النشر: 25/02/16 | 9:19نسبة الشعر إلى أكثر من شاعر
……………………..
في أثناء قراءتي لبيت الشعر الجميل الذي يدل على هيبة الممدوح:*
يُغضي حياءً ويُغضَى من مهابته *** فما يُكلم إلا حين يبتسم
كنت أعرف أنه للفرزدق في مدح علي زين العابدين في قصيدته المشهورة التي تحدّت هشامَ بن عبد الملك بعد أن سأل من حوله: “من هذا”، ولها حكاية مشهورة، ومطلعها:
-هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَه *** والبيتُ يعرفه والحِل والحرمُ
…
لأنني أحب أن أقوم برحلة في المصادرلأتبين وأتثبت وأتعلم، فقد تبين لي بعد مراجعة أن هناك شكًا في نسبة الشعرإلى الفرزدق، ففي كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني يقول عن البيتين:
في كفِّه خيزرانٌ ريحها عبِق *** من كفِّ أروعَ في عِرنينه شَممُ
يُغضي حياءً ويُغضى من مهابته *** فما يُكلم إلا حين يبتسم
“والناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أبياته التي يمدح بها علي بن الحسين… وهو غلط ممن رواه فيها، وليس هذان البيتان مما يُمدح به مثل علي بن الحسين عليهما السلام، وله من الفضل المتعالم ما ليس لأحد”. (الأغاني ج 15، ص 315)
..
يتابع الأغاني معترضًا على الروايات المختلفة، فيقول: من الناس من يروي هذه الأبيات لداود بن سلْم في قُثمَ بن العباس(2)، ومنهم من يرويها لخالد بن يزيد فيه (في قثَـم . ف)، وذلك في القصيدة التي مطلعها:
كم صارخ بك من راجٍ وراجية *** يرجوك يا قثمَ الخيرات يا قثمُ
في كفه خيزران …
يغضي حياء…
كما يعترض الأصفهاني على قول الصولي إن داود بن سلم قال بعض هذه الأبيات في علي بن الحسين..
..
يخلص الأصفهاني إلى القول في موقف يدل على تمكنه من النقد:
“والصحيح أنها للحَـزين في عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وأبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني، متشابهة تنبئ عن نفسها.”
…
من جهة أخرى ورد في كتاب “الشعر والشعراء” لابن قتيبة (ج1، ص 64) في معرض حديث المؤلف عن أقسام الشعر فقال:
“ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه، كقول القائل في بعض بني أمية:
في كفه …
يُغضي حياء…
لم يُقل في الهيبة شيء أحسن منه.”
..
يشرح محقق الكتاب أحمد محمد شاكر “أن البيتين للحزين الكناني في أبيات يمدح بها عبد الله بن عبد الملك، ……..وقد نسبهما المصعب الزبيري (ص 164) – وهو من أقدم المصادر- للحزين الكناني”.
..
ثم إن أبا تمام في حماسته ينسب ستة من أبيات القصيدة الطويلة إلى الحزين الكناني هي:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفانَ راحته *** ركنُ الحَطيم إذا ما جاء يستلم
أي القبائل ليست في رقابهم * لأوَّلية هذا أو له نِعَمُ
بكفه خيزران …
يُغضي حياء….
(ديوان الحماسة ج 2، ص 269 مختصر شرح التبريزي)
..
ذهب التبريزي إلى أن الحزين لقب غلب عليه، واسمه عمرو بن عبيد من شعراء الدولة الأموية، وهذا الشعر يقوله في عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وكان من فتيان بني أمية وظرفائهم، حسن الوجه، حسن المذهب.
يمضي التبريزي في شرحه “والناس يروون هذه الأبيات للفرزدق يمدح بها علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو غلط ممن رواها فيه”.
…
قد يقول قائل: وماذا يهمنا من قال، يهمنا القول، وهذا الرأي تبنّاه مؤخرًا رولان بارت (1915- 1980) في نظريته “موت المؤلف”. لكني أقول:
عبر هذه الرحلة تمتعت، وأنا الآن لا أنسب البيتين للفرزدق يقينًا، بل أقول “أو للحزين الكناني” وهناك آخرون من يُنسب إليهم الشعر.(3)
…..
1- هو من شواهد الشعر في إعراب نائب الفاعل، حيث يكون شبه الجملة مفعولاً له، بينما المصدر المحذوف هو نائب الفاعل.
2- يورد ابن رشيق في كتابه (العمدة)- ج2، ص 131 في معرض حديثه عن أفضل ما قيل في مدح الملوك:
” وكذلك قول الكناني في عبد الله بن عبد الملك وقد وفد عليه بمصر، ويروى للفرزدق في مدح علي بن الحسين بن علي..، وقيل بل قالها اللعين المنقري، وقيل بل الأبيات لداود بن سلْم في قثم بن العباس بن عبد الله بن عباس”.
3- وجدت البيتين أيضًا في ديوان المتوكل الليثي. (قافية الميم)
ب. فاروق مواسي