نادي حيفا الثقافي يكرم د. منير توما
تاريخ النشر: 02/03/16 | 17:11وسطَ حضور ٍكبيرٍ مِن أدباءَ وشعراءَ وأصدقاءَ مِن حيفا وكفرياسيف والجليل والمثلث، غصّتْ قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، احتفاء بتكريم الأديب د. منير توما، وذلك بتاريخ 18-2-2016، وبعدَ أن رحّبَ بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافيّ، تولّى عرافة الأمسية الشاعر عناد جابر، فافتتحَ اللقاءَ قدسُ الأب الإيكونوموس عطالله مخولي، وكانت مداخلاتٌ لكلِّ مِن الأدباء: فتحي فوراني، رشدي الماضي، صالح عبّود، يوسف ناصر، فهيم أبوركن ورمزي شحادة، وتخلّلَ الحفلَ فقرتان زجليّتان لكلٍّ مِن الزجّاليْن: شحادة خوري (أبو مروان)، وتوفيق الحلبي، وفي نهاية الحفل شكر د. توما الحضورَ والمشاركين والمُتحدّثينَ والمُنظّمين، وتمّ التقاط الصّورِ التذكاريّة!
كلمة عناد جابر: رجالَ الدّين الأفاضل، الحضورُ الكرامُ مع حفظ الألقاب والمناصب، أهلًا وسهلًا بكم في هذه الأمسية الهامّة التي نحتفي فيها بأحدِ أعمدةِ أدبنا المَحليّ، الشاعر الباحث والناقد الدكتور منير توما، أهلًا وسهلًا بكم في هذه القاعةِ المُباركةِ التي تشهَدثُ حَراكًا ثقافيًّا وأدبيًّا نشِطا، يُشرِفُ عليهِ نادي حيفا الثقافيّ، الذي يَدأبُ على تكريم كُتّابنا ومُبدِعينا، ودعمِهم وتشجيعهم وتعريفِ الجمهورِ بهم وبإصداراتِهم، فبُوركتْ جهودُهم، وسدّدَ اللهُ خطاهم. الإخوة والأخوات، قبلَ أيّام مَعدودةٍ، رحَلَ عنّا كاتبٌ ومُفكّرٌ كبيرٌ هو أحدُ ركائز أدبنا وثقافتِنا، نجمٌ ساطعٌ في سماءِ أدبنا هوى دون سابق إنذار، تاركًا بصماتٍ بارزةً لن يَمحوَها الزّمان. رحلَ عنّا الإنسانُ الكبيرُ الأديبُ والكاتبُ سلمان ناطور مُؤرّخ الذاكرة الفلسطينيّة. أدعوكم للوقوف دقيقة صمتٍ توحُّدًا مع روحِهِ الطاهرةِ وذكراهُ العاطرة.
أيّها الحفلُ الكريم، الشاعر والناقد الدكتور منير توما قامة سامقة مِن قاماتِ أدبنا المَحليّ، يُثري مكتبتنا بإصداراتِهِ الشعريّةِ القيّمةِ، ودراساتِهِ النقديّةِ وأبحاثِهِ الأدبيّةِ، صدرَ له حتى الآن ديوانا شعر بالإنجليزيّة، وستة دواوين بالعربيّة، وعددًا مِن الأبحاثِ والدّراساتِ الأدبيّةِ، وهو حائز على جائزةِ الإبداع وجوائز وميدالياتٍ مِن الجمعيّةِ الدوليّةِ للشعراءِ في الولاياتِ المتحدة. معلمٌ مُتقاعدٌ، موسوعة ثقافيّة وأدبيّة متنقلة، إنسانٌ طيّبٌ خلوقٌ حلوُ المَعشر، أحبّ الناسَ فأحبّوهُ وقدّروهُ، ولعلّ هذا الحضورَ الكبيرَ عددًا ونوعًا، خيرُ دليلٍ على ذلك.فد. منير توما يستحقّ- بلا أدنى شكّ- كلَّ التقدير لعطائِهِ القيّم الكبير، ويستحقّ كلّ التكريم. أتمنّى لهُ دوامَ الصحّةِ والعافيةِ، ليُواصلَ مسيرة العطاءِ والإبداع.
كلمة رشدي الماضي: قادمًا مِن فردوسِ شجرةِ المعاني سدرةً على يمينِ عرشِ الإبداع، لآتيني وآتيك مِن صقيع سنواتي الباردة، إلى أقصى حدودِ مساحاتٍ نصّك، لتهدأ ثورتي، بعدما يَنغرسُ كسكّينِ لوركا في قلبي، لأبقى مسكونًا به قصائدَ وأبحاثا قزحيّة الألوان، مُعمّدةً بالمُغايرةِ والتخطّي والاستباق، كيف لا، وأنا أراهُ يُلوّحُ لي مِن منطقةٍ سرّيّةٍ بعيدةٍ، نعم، يلوحُ لؤلؤةً، هي حجرُ الرهان الذي لا يُثيرُ النّواحي المُعتمة ويُضيئها، وهي الكلمة التي تنتظرُ في بئر الذاكرةِ المُشبعةِ بالرؤى، لتخطّ ما تيسّرَ مِن شفيفِ الرّوحِ فيضَ إحساسٍ مُرهَفٍ يَستحرُ الوطن، ويخط بانوراما إنسانيّة تذهبُ في كلماتِها إلى قدسيّةٍ تمنحُكَ خاتمَها السرّيّ، لتُصبحَ مُخلّصًا يَقرعُ الأجراسَ إيذانًا بالعشاءِ الأخير، وتصيرَ دمًا يُشيرُ إلى المَذبح، ليَصلَ كلامُك إلى مَن يقرأ الذي يأتي ولا يأتي.
أيُّها المُنيرُ مُنير: حروفُكَ خدوشُ أمطارٍ على وجهِ نافذةِ الإبداع، وعندما تلمّستُ عتباتِ نصوصِك، رأيتُك كبورخيس تُردّدُ معهُ: “عندما كنتُ أفكّر في الجنّة، كنتُ أتخيّلُها شكلًا مِن أشكال المكتبة”! كيف لا، وأنت مثله تقتني الكتبَ بنوع مِن الهوسِ، لإيمانِكَ أنّ الكتابَ مثل الكون حاضرٌ معك باستمرارٍ صوتًا، يبحثُ عن كُنهِ الإنسان وماهيّتِهِ، وتسمَعُهُ حتى الآذان التي لم تنفتح، أليسَ هو ادبُك الذي يُحَلّقُ في الخيال المُجنّح الضارب في أعماق الاكتشافِ والاستكناهِ والاستغوارِ والاستنباط، وفي بواطن الأساطيرِ والغنائيّاتِ والعشق الإلهيّ الصوفيّ، الذي تُسجّلُهُ بأسلوبٍ سلِس جذاب، وبمَعانٍ تتّسمُ بالصدق، لانّكَ تتوقُ بكلّ جوارحِك أن لا يُصيبَهُ البِلى، ولا يَعلوهُ الدرنُ، ولا يَغشاهُ النسيانُ، ليبقى عالمَ خلقٍ وعطاءٍ، وعالمًا أدبيًّا فسيحًا قُيّضَ له أن يَعيشَ دائمًا، يُرافقك كمالارميه خوفٌ مِن الفراغ والصفحةِ البيضاء، لذلك تفكّرُ مَليًّا في الخطوةِ الاولى التي يتموْضعُ في سكنها قطارُ عملِك الأدبيّ، وهذا يَجعلُ أسئلتَهُ تعيشُ وتتناسلُ، لا تكرارًا ولا نمطيّة لتخلقَ إضافة نوعيّة جَماليّة، ممّا يَجعلُ مُنتجَكَ يَقفُ على ارضٍ لم تطأها قدماك مِن قبل، فتؤكّدُ بذلك، بأنّك واعٍ بمسارِ مُمارستِكَ الإبداعيّةِ على مستوى الذات، كما على مستوى الموضوع، وتؤكّدُ أنك ترفضُ أن تبقى تحت جُبّةِ الأب الأدبيّ، كلّ ذلك، لتبقى إبداعاتُكَ خلقًا إضافيًّا جَماليًّا، يَجعلك تُفكّرُ دائمًا، مُناقِضًا في اكتشاف أرض النصوصِ البكر!
المبدع منير توما: أنتَ تقومُ بهذا لكونِكَ قارئَ واقعِ مُجتمعِك العربيّ، الذي يَندُرُ فيهِ الهواءُ الحُرّ، ممّا يُؤدّي إلى تقليصِ الفاعليّةِ الفكريّة، فتكونُ النتيجة أن يُصبحَ الإبداعُ عندَنا أزمة لدى المُبدع، لِما فيهِ مِن جدران مُكهرَبةٍ، ولقناعتِك كما الطاهر بن جلون، أنّ الكلماتِ يجبُ أن تولدَ في مَناخ حُرٍّ خالٍ مِن الإحساس بالخوفِ والتردُّد، لذلك وقفتَ أمامَ المِرآةِ، مُصمّمًا أن يأتي نصُّكَ مكشوفَ الأسرار والمَلامح، وهذا ما يَقودُكَ إلى ممارسةِ الكتابةِ بأسلوب المُراوغةِ المُتعمّدة، لكثرةِ الخطوطِ الحمراء ومَراصِدِ الرقابةِ المُنتصِبةِ في جميع فضاءاتِ الفكرِ في عالمِنا العربيّ، لذلك أتى إبداعُكَ واعيًا بشرْطِهِ الزمنيّ وبأسئلةِ الحاضر، ليكونَ كفيلًا باستشرافِ الآفاقِ المُمكنةِ، وقادرًا على خلقِ تَصوُّرٍ مُتجدّدٍ ومُتنوّرِ الفِعلِ الإبداعيّ، الذي لا يُؤمِنُ بمَنطق الهزيمةِ أمامَ كلّ التحدّياتِ، كي يبقى مُشبعًا برغبةِ الانطلاق، ومُناقشةِ وحوارِ كاملِ القضايا والمواضيع التي بقيتْ مُحاطةً بالأسلاكِ الشائكةِ والألغامِ الدّفينةِ، أو بتلكَ الثاويةِ وراءَ جدرانٍ مِن الإسمنتِ المُسلّح، والمدعوم بكلّ المُثبّطاتِ المُتاحةِ في هذا الزمن العربيّ الرديءِ، ولأنّني أعرفك، أسمحُ لنفسي أن أسجّلَ: أنت أنت دون شكٍّ خرجتَ مِن قمقمِك، لأنّك قرّرتَ أن تظلَّ تحكي وتُناقشُ وتُحاورُ وتُبدعُ كلَّ شيءٍ بلا خوفٍ أو نكوصٍ، لتجعلَ مَن يَجيءُ إبداعَك، يَجدُهُ مُفرداتٍ وكتابةً ذاتَ رؤيةٍ مُمتدّةٍ في فيْضٍ غزيرٍ مِنَ المُعطياتِ والمَشهديّاتِ اللغويّة، والكلماتِ المُضمّخةِ بالاستعاراتِ والانزياحاتِ والدّلالاتِ والرّمزيّاِت التي تحترفُ الرقصَ فوق الماءِ المُقدّس، وتُشغِلُ ولو لبرهةٍ الحزنَ عنّا، لتُبشّرَنا بفرحٍ عظيم. أخي الذي لم تلدْهُ أمّي، ستبقى إبداعاتُك شاماتٍ بيضاءَ، تُربّي المعانيَ التي تُنبتُ للكلماتِ أجنحةً، تجعلها تُحلّقُ في فضاءِ عشقٍ إلهيٍّ لا يَنتهي، لتظلَّ الأبجديّةُ الأيقونة الماطرةَ التي تمحو سبعانا العِجافَ، وتأتي سبعًا سِمانًا إلى بئرٍ لنا لما تزَلْ خُلّبًا.
كلمة الأديب فتحي فوراني: أيّها الأصدقاءُ، أعلنُ منذ البدايةِ أنّني لستُ مُحايدًا. إنّني مُنحازٌ بقلبي وعقلي ووجداني إلى عريسِ هذه الأمسيةِ التكريميّةِ، الصّديقِ ورفيق الطريق المُبدع د. منير توما، وفي الأمسيةِ التكريميّةِ تنزاحُ المَساطرُ النقديّة الأكاديميّة التي تملكُ قلبًا مِن رصاص، فتنزوي جانبًا، لتبحثَ لها عن فضاءٍ نقديٍّ آخرَ، فالفضاءُ التكريميُّ المُتاحُ هذهِ الليلة، لا يُتيحُ لنا أنْ نقتربَ مِن دائرةِ النقدِ الأكاديميِّ الموْضوعيّ. قالتِ العربُ: لكلِّ مَقالٍ مَقامٌ، ومقالُ الليلة مَقامُهُ التكريمُ، وليسَ النقدَ والتقييمَ والتقويمَ. ولهذا وذاك لنا لقاءٌ نقديٌّ آخرُ. عرفتُ د. منير توما لأوّلِ ذاتِ مرّة عبْرَ الهاتف، عندما ألقيتُ على عاتقي مَسؤوليّةَ التحرير الأدبيِّ لصحيفة “الاتحاد”، قبلَ أكثرَ مِن عشر سنوات، ودارَ بيننا حديثٌ وُدّيٌّ مُمتعٌ عن تنوين الفتح، وهمزتَي القطع والوصل، وعن زيْد الذي ضرب عمرو، وتطرّقَ الحديثُ عن الخلافاتِ العائليّةِ مع العمّ سيبويْه، وأبي الأسود الدؤليّ، والخليل بن أحمد الفراهيديّ، وباقي أفرادِ القبيلةِ النحويّة، وتتسارعُ وتيرةُ الدردشاتِ الثقافيّةِ، لتبلغ غايتُها، وتنشأ الرغبة الصادقة في اللقاءِ الشخصيّ، فنتواعدُ ونلتقي، ويَطيبُ لقاءٌ تتبعُهُ لقاءاتٌ! كانَ لي ما أردتُ وكانَ لهُ ما أراد، وتَقاطعَ الخطّانِ المُتوازيان، فكانتْ لنا لقاءاتٌ كثيرةٌ في المناسباتِ الثقافيّةِ والاجتماعيّةِ التي اشتركنا فيها معًا، وكانتْ لنا فيها مُساهماتٌ أثرَتْ هذه المناسباتِ، وأكسبَتها مذاقًا له نكهة مميّزة، وبخط مُوازٍ لهذهِ اللقاءاتِ الثقافيّة، كانتْ لقاءات تزخرُ عيشًا ومُلحًا، وعندما كانتْ تُنصَبُ مائدةُ العيش والمُلَح، كانَ الزمنُ الطويلُ يُختزَلُ، وما يلبثُ أن يتبخّرَ بسرعةٍ خياليّةٍ، فلم نشعرْ كيفَ تهربُ الساعاتُ السّتُّ وتختفي في رمشةِ عين. كنّا نقتحمُ الينابيعَ الثقافيّة، فنعبُّ منها ولا نرتوي، ولم يَزدْنا الوُردُ إلّا عطشًا. كانت لقاءاتُنا تطولُ لتبلغَ ساعاتٍ بدلَ الساعةِ الواحدة، ويكون الحديثُ ذا شجونٍ، يَنشرُ ظلالهُ لتغطي المساحاتِ الأدبيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وبينَ الطرفة والطرفة، والشاردة والواردة، والنادرة الشعبيّةِ والأشعبيّةِ والأخواتِ الفاضلات، يُطلُّ علينا أبو نوّاس بخمريّاتِهِ النوّاسيّةِ، فيحضر وفي حقيبته ما تيسّرَ مِن بناتِ العناقيدِ البابليّةِ، ويكونُ نورًا على نور، ولا يلبثُ الخيّامُ أن يَلحقَ بهِ فيأتينا مُهرولًا، ويَنصُبُ خيمتَهُ، وينضمُّ إلى عشاق الأبجديّة د. منير توما وإبراهيم حجازي والعبد الفقير، ويَروحُ يُلقي علينا ما تيسّرَ مِن إبداعاتِهِ الشعريّةِ، فيُنشدُنا قولَ الشاعر والعالم الفارسي عمر الخيام: لا تَشغلِ البَالَ بماضي الزمان/ ولا بآتي العيشِ قبلَ الأوان، واغنمْ مِن الحاضرِ لذّاتهِ/ فليسَ في طبعِ اللَّيالي الأمان. وقولَ أبي نوّاس: القلبُ قَد أضناهُ عِشق الجمال/ والصدرُ قَد ضاقَ بما لا يُقال/ يا ربْ هل يُرضيكَ هذا الظما/ والماءُ يَنسابُ أمامي زُلال. وتكونُ اللقاءاتُ الخيّاميّة والنوّاسيّة مرّة في عروس الكرمل، ومرّة في كفر ياسيف، ومرّة في طمرة، وينتشرُ العطرُ الثقافيّ في ربوع هذا الوطن
لم أكنْ أعرفُ شيئًا عن د. منير توما، إلى أن جاءتْني حمامةٌ زاجلة، فألقتْ بين يديّ رسالة مُغلقة مُزنّرة بشريطٍ ورديّ، قالت لي “اِقرأ”، وطارت بعيدًا. فتحتُ الرسالة فتضوّعَ شذاها، وقرأتُ فيها ما يلي: مسقط الرأس كفر ياسيف، تخرّجَ من الفرع العلميّ في مدرسة يني الثانويّة، يحملُ شهادة الدكتوراه في اللغة الإنجليزيّة وآدابها، ينظمُ الشعرَ باللغتيْن العربيّةِ والإنجليزيّة، وأتابعُ القراءة، فتفرشُ أمامي مائدة شهيّة من الإبداعات؛ شعرًا ونقدًا ومقالة، أربعة دواوين: أوراق خريفيَّة، ويبقى الهوى، تجليَّات ربيعيَّة، ورد وشجن، وديوانان باللغة الإنجليزية: أزاهير الألم، وسطور عاطفيَّة. وفي باب المقالة النقديّة كتابان: محاضرات في الفكر والأدب، ومحاضراتٌ في الآداب العالميَّة. ليسَ غريبًا إزاءَ هذا البيدر العامر من العطاء الإبداعيّ، وما يُرافقهُ مِن أحاديثَ شخصيّةٍ، أن يَصفَهُ البعضُ أنّه موسوعة تمشي على قدمين!
أيّها الإخوة، ما مِن كتابٍ شعرًا كان أو نثرًا يَشقُّ طريقهُ إلى د. منير توما، حتى يَفتحَ له أبوابَ القلب على مصاريعِها، فيُرحّبُ بهِ أجملَ ترحيبٍ، ويَحتضنَهُ ويُعانقهُ ويغمرَهُ حُبًّا وحفاوة، ويُكرّمَهُ أحسنَ تكريم. لقد فرشَ الطائرُ جناحيْهِ على مساحاتٍ شاسعةٍ مِن الإبداعاتِ التي تُشكّلُ المشهدَ الشعريّ في هذا الوطن، ولا بدّ مِن الإشارةِ إلى أنّ قلمَهُ الإبداعيَّ كثيرًا ما كان يَغُضّ الطرْفَ عن الثقوب في النصِّ الأدبيِّ الموضوع على طاولةِ التشريح، فغلبتْ على مقالاتِهِ الحفاوةُ الأدبيّة وتوجُّهُهُ الإنسانيُّ الأخلاقيّ. نحن أمامَ كاتبٍ وشاعرٍ وناقدٍ واسع الاطلاع، غزير الإبداع، ونبعٍ ثرٍّ تتدفّقُ مياهُهُ الزمزميّة بلا انقطاع! نحن أمامَ إنسانٍ إنسان، لا تستطيعُ إلّا أنْ تُحبَّهُ وتشدَّ على يديْه، وتطبعَ على جبينِهِ قبلة، ولا تبخلُ عليهِ بالكلمةِ الطيبةِ، فهل كثيرٌ علينا بعدَ هذا أنْ نُعلنَ حبَّنا لهذا القلم الحاتميّ، وأن نُكرّمَ مَن احترفَ تكريمَ الآخرين؟ لقد آن لنا أن نردَّ التحيّة بمثلها وأحسن منها. سُئلَ أحدُهم: مَن أسعدُ الناس؟ فأجاب قائلًا: أسعدُ الناس مَن أسعدَ الناس. لقد أسعدتَ يا حبيبَنا كوكبة كبيرة مِن الكُتّاب والشّعراء، وتركتَ بصماتِكَ النقدية على إبداعاتِهم، والوفاءُ يَقضي أن نكون أوفياءَ، وأن نُسعدَكَ بهذه الحفاوة التكريميّةِ، فهنيئًا لك لنا بك، دمتَ لنا بصحّة، ودام عطاؤك الإبداعيّ.
مداخلة الأديب يوسف ناصر: أيّتها الأخواتُ وأيّها الإخوة الأعزاء، كم يطيبُ لي وكم يُفرحُني أنْ أقفَ بينَكم في مناسبةٍ عزيزةٍ غاليةٍ، لنُكرّمَ رجُلًا مِن أهل القلم، أرى في تكريمِهِ أديبَيْن توأمَيْن في رجُلٍ واحدٍ، وقد كتبَ بقلميْنِ مِعطاءيْن لا بقلم واحدٍ، وكلا الأديبَيْن يُباري الواحدُ الآخرَ بلاغةً وفصاحة، وكلا القلمَيْن يَكتبُ بعطرٍ وبمدادٍ مِن رحيقٍ، إنّه د. منير توما، أمّا الأديبُ الأوّلُ فيهِ فهو ما طلع علينا مِن لآلئَ بِكرِهِ شعرًا ونثرًا، تشهدُ على سِعةِ معرفتِهِ وعلى غزارةِ عِلمهِ، وامتلاكِهِ ناصية العربيّة، وأنّه مُتطلّعٌ وكانَ وما يَزالُ وسيبقى ذا موهبةٍ وقّادةٍ أخّاذةٍ، أضرعُ إلى العَليِّ أن يُوفّقَها بيننا، لكي تُعطي مِن عطرها ومن رحيقها وسلسلِها العذب. أمّا الأديبُ الثاني إنّه ذاك الذي جَعلَ الأيّامَ والأعوامَ المتتالياتِ أقلامًا بيدِهِ، تكتبُ مِن حيث لا يَدري سيرةً عاطرةً طيّبة، تتميّزُ برَجُلٍ مُتواضع تقيٍّ ورِعٍ نقيِّ القلب، وأيٌّ منّا أيّها الإخوة والأخواتُ، ليستْ أيّامُهُ ولياليهِ وأعوامُهُ تكتبُ كتابًا عنه، إنْ شرًّا فشَرٌّ، وإن خيرًا فخيرٌ، في هذا العالم كان كتابُ د. منير توما كتابًا بليغًا، منه كانَ يغترفُ الأديبُ الأوّلُ أجملَ المَعاني وأعظمَ القِيَم، في أجمل أدبٍ وفي أبلغ شِعرٍ ونثرٍ. أيّها الأخ العزيز د.منير توما، ما جئتُ لكي أمتدحَكم، بل جئتُ لكي أقولَ ما فيكم، وفاءً لكم وعرفانًا بفضلِكم، لِما قدّمتم وما أعطيتم لمجتمعِكم، وإذا كانت البلادُ بقراها ومُدنِها لا تَكبرُ بقلاعهِا الشوامخ، ولا بقصورِها البواذخ، ولا تغنى بخزائنِها مِن ذهب ومال، بل برجالِها الأحرار الأبرار، الأتقياء الأبرار الطيّبين الصالحين، فإنّ لكفرياسيف الحقّ أن تفتخرَ وأنْ تتمجّدَ بأنّك ابنٌ مِن أبنائِها، ورجلٌ من رجالِها، وهي القرية الغرّاءُ التي عوّدتنا أن تلدَ مِن رحمِها الرجالَ الطيّبين الصالحين، شكرًا لكم وأقدّرُ حضورَكم، وإنّ حضورَكم هو شعرٌ آخرُ يُعبّرُ عن ضميرِ هذا الشعب الذي يُقدّرُ رجالَهُ، وإنَ أُمّةً لا تُكرّمُ رجالَها لن تجودَ الأيامُ على أرحامِ نسائِها بعظيمٍ يوما.
كلمة الأستاذ رمزي شحادة: الحضورُ الكريمُ مع حفظ الألقاب، أسعدَ الله مساءَكُمْ، حيثُ أنّي أشعرُ بآرتياحٍ وبهجةٍ في مثلِ هذه الأمسياتِ التكريميّة، وأميلُ برغبةٍ حارّةٍ لل‘كثارِ منها، كما أميلُ وآمَلُ لو نسعى لتَقليلِ أمسياتِ التأبين لغياب أصحابها. هذا ما أشرتُ إليهِ في قصيدةٍ كنتُ قد كتبْتُها في ربيع عام 2013، وكان مطلعُها: دعوا التأبينَ للأحياءِ ما كَثُروا/ وليس لِميِّتٍ وارى الثرى لا يشعُرُ/ فالصخرُ بعدَ النحْتِ قد يَتأنَّسُ/ فهل تفيضُ بهِ الأشجانُ أو يتأثَّرُ؟
نحنُ في هذه الأمسيةِ السّعيدةِ مُجتمعونَ لنكرِّمَ الأستاذ د. منير توما، وفي هذه المناسبةِ أقول: عرفت الأستاذ د. منير توما مُعلمًا في مدرسةِ يني الثانويّة، حين كنتُ رئيسًا للجنةِ أولياءِ أمور طلابِها، وكانت معرفتي له سطحيّة، وقد اقتصرتْ على تبادل التحيّات إذا تصادفنا، إلى أن جاءَ يومٌ فيهِ قرعتُ بابَ بيتِهِ، قاصدًا رأيَهُ في مجموعةِ قصائد كنت قد كتبتُها مِن قبل، وكانتْ هذه البدايةُ، وبعدها تكررت زياراتي له. وحقيقة لقد أسَرَتني معرفتُهُ، كما تأسُرُ الزنبقةُ النحلةَ بينَ وُريْقاتِها، فهي جامحةٌ قديرةٌ واسعة، كيف لا، وقد أكَسَتْ جدرانُ غُرَفِهِ كتُبًا وموسوعاتٍ بألْسِنَةٍ عدّةٍ، وقد شَكَّلَتْ تِلالاً في زواياها، وإنْ كنتُ قد تعثَرْتُ وأنا ألِجُ بيتَهُ ذاكَ، لأنَّ رجلي قد تعثَّرَتْ بكتابٍ أو ربما بموسوعةٍ. قالَ الشاعرُ حافط إبراهيم في إحدى قصائِدِهِ: أنا البحرُ في أحشائِهِ الدُّرُ كامنٌ/ فَهَلْ سألوا الغوّاصَ عن صدفاتي؟
وأنا أقولُ: إنَّ الأستاذ د. منير توما هو البحرُ، ولكنّني لم أسألْ أيَّ غوّاصٍ عن صدفاتِهِ، لأنّني قد غُصْتُ بنفسي إلى أعماقِهِ، وتحَسّسْتُ ما صادفْتُ من صَدَفِهِ، فوجدتُهُ شاعرًا مُبدعًا، أشعارُهُ تسمو بمَبناها وعُمْقَها، مسكوبةٌ بألفاظٍ بديعةٍ في قوالبَ يَصعُبُ تقليدُها، إذ تضمُّ تعابيرَ حُبْلى بمعانيها الهادفةِ وصياغتِها البارعةِ، تُداعِبُ أوتارَ آلغزَلِ تارةً، حيثُ تنسابُ إلى القلبِ موسيقا شَوْقٍ وأملٍ وحنينٍ، ثمّ ترقى إلى طَوْرِ الفلسفةِ والعلمِ والأيمان تارةً أخرى، لِتَسْتَفِزَّ الفكرَ والتأمُّلَ. وجدتُهُ مُؤمنًا تقيًّا، يَلْهَجُ بآياتِ التقوى والإيمانِ ليلَ نهارَ. تبنّى المَحبّةَ رغمَ مَسالِكِها الصعبةِ المُتحدّرةِ، ومَنْ يؤمنُ بالمحبّةِ، لا بدّ أنْ ينهضَ كلَّ فجْرٍ بقلبٍ مُجَنّحٍ خفوقٍ، يَشكرُ آللهَ ويلتَمِسُ يومَ محبّةٍ آخر. إنّه نخلةٌ شامخةٌ تعطي بلا حدودٍ ومِن غيرِ مُقابلٍ، سخيٌّ لا يَضُنّ بأيّةِ خدمةٍ يُقصَدُ بها، وحين يُعطي فإنّه يعطي بفرحٍ، ويكونُ هذا الفرحُ مكافأةً له، يُعطي الناسَ مِنْ نفسِهِ ما يُحبُّ أنْ يعطوهُ مِثله. وجدتُهُ متواضِعًا يَدعو إلى المَودّةِ والمساواةِ بعيدًا عنِ الحسَدِ والبُغضِ والكراهيّةِ، فرفعَتْهُ النّاسُ وأحبّوهُ، وهو كما قالَ الشاعرُ أبو تمام: دنَوْتَ تواضعًا وعَلَوْتَ قدْرًا/ فَفيكَ تواضُعٌ وعلُوُّ شانِ. لا يَتوانى في أيّةِ مُناسبةٍ أنْ يَسكُبَ مِنْ مَعرفتِهِ، فيُنيرُ ما هو مُظلمٌ، ويَبعثُ دِفْئًا فيوقِظُ الذاكرةَ ويبعثُها مِن جَديد، وبهذا أقولُ: في كُلِّ أمسِيَةٍ أراكَ مُحاضِرًا/ تُلْقي شُروحًا لِلخَفايا تُشيرُ/عاقَرْتَ شِعْرًا فَاسْتَحالَ رَوائِعًا/ في الحَبْكِ عَلَمٌ في البِناءِ قديرُ/ أنتَ إسْبيلٌ لِمَنْ شَحَّتْ مَعارِفُهُ/ مَنْ شاءَ يَمْلأُ طاسَهُ وَيَسيرُ. وبهذا أكونُ قد جَعَلْتُ بعضًا مِن دُرَرِ أعماقِهِ تطفو على السطحِ، ليتحسَّسَها الجميعُ. وبعد، أتمنّى للد. منير توما الصحّةَ والعافيةَ، ليَبقى سحابةً في العُلا تُمطرُ عِلمًا ومعرِفةً، أدبًا وأخلاقًا لفائدةِ هذا المجتمع. وفّقكَ الله.
كلمة الأديب فهيم أبو ركن: فرحتُ جدّا عندما طُلِبَ منّي أن أشاركَ في هذه الأمسيةِ، تكريمًا وتقديرًا لد. منير توما، وذلك لأنّ لهُ تاريخًا حافلًا في متابعةِ الأدبِ المَحليّ، وتحليلِ الأعمالِ الأدبيّةِ لشعرائِنا وأدبائِنا المَحليّين، وله فضلٌ كبيرٌ على جميعِنا، ويستحقُّ كلّ الاحترامَ والتقدير، وسأتحدّثُ عن دوْرهِ كناقدٍ، فجميعُنا نعرفُهُ كإنسان، ونعرفُ ما يتمتّعُ بهِ مِن خُلقٍ دمِثٍ، وكرَمٍ وإخلاصٍ للصّديق، إضافة لإنسانيّتِهِ العظيمةِ وعراقتِهِ الأصيلة، فهو ليسَ استعراضًا عاديًّا كما عوّدَنا عليهِ بعضُ النقّاد، إنما نقدٌ مميّزٌ فيهِ عُمقٌ وإبداع، وإنّني أؤكّدُ بأنّهُ لكي نبدعَ في النقدِ، يجبُ أنْ نفهمَ الإبداعَ، فهو شاعرٌ مُرهفُ الحِسِّ، وعالِمٌ موسوعيٌّ أبحَرَ في بحورِ المعرفةِ على مُختلفِ أنواعِها، وباحثٌ أكاديميٌّ حاصلٌ على شهادة الدكتوراة بجدارةٍ، فغرَفَ مِن أصولِ الدّراسةِ الأكاديميّةِ، وهو مُطّلعٌ على آدابٍ عالميّةٍ بلغتيْها العربيّةِ والإنجليزيّةِ، وهو مُتمرسٌ في النظريّاتِ الأدبيّةِ والنقديّةِ الكلاسيكيّةِ والحديثةِ على مُختلفِ مَدارسِها. لذلك، عندما أقولُ لكي نبدعَ في النقد يجبُ أنْ نفهمَ الإبداع، فإنّني أحملُ كلمة الفهم، معاني المعرفةِ العلميّةِ، الإدراكَ المنهجيّ، التجربة الطويلة، الدراية الشخصيّة، التذوّق الذاتيّ السليم والرؤيا الشاملة.
أستشهدُ بتجربةٍ شخصيّةٍ لي مع د. منير؛ فعندما صدرتْ روايتي “العبوة النازفة” عن دار فضاءات في عمّان- الأردن، طلبت من د. منير توما أن يتحدّث في الندوةِ الأدبيّةِ التي نظمها منتدى الحوار الثقافي عن الرواية في مركز البادية في عسفيا، فجاءَ بتحليلٍ رمزيّ عميق نالَ استحسانَ الحاضرين. وبعدَ فترةٍ طلبَ نادي روتاري دالية الكرمل برئاسةِ المحامي د. أمل كمال، وبالتعاون مع كليّة الكرمل برئاسة د. أكرم حسّون أن يحتفوا مشكورين بي وبالرواية، فطلبتُ من د. منير توما أن يكون أحدَ المتكلمين عن الرواية، وحسبتُ أنّه سيأتي ببعض الفقراتِ من مداخلتِهِ الأولى، ولكنّهُ فاجأني بتحليلٍ آخرَ تمامًا، مُلقِيًا الضوءَ مِن زوايا أخرى، وعلى قضايا لم يتطرّقْ إليها في مداخلتِهِ الأولى، مُحلّلًا كعادته ومستنِدًا إلى نظريّاتٍ نقديّةٍ مختلفة، وهذا لا يستطيعُ أن يقوم به سوى ناقدٌ مبدعٌ متمرّسٌ في النقدِ كد. منير توما.
إنّ الإبداعَ عمليّةٌ فنيّة، والفنّ ظاهرةٌ إنسانيّة ارتكزتْ منذ القِدَم على عِلم الجَمال، وعالجَها الفلاسفة القدماءُ فكريًّا على ضوءِ التعليل المُجرّدِ، لتتحوّلَ إلى نظريّاتٍ مختلفةٍ ومَذاهبَ متنوّعة، تبعًا لتطوُّرِ الظروفِ الاجتماعيّةِ والبيئيّةِ للإنسان، فإذا كان الشاعرُ بوعي منه أو بلا وعي، يُوظّفُ كلَّ ما يُخاطبُ الحواسَّ، الفكرَ والعاطفة؛ مِن شكلٍ، لون، إيقاع، حجم، علاقةٍ تركيبيّةٍ وكلّ ما يؤثر على الإدراك والفهم؛ مِن العناصرِ الذاتيّةِ الداخليّة، أو المحيطة الخارجيّة، والتراثيّة، والتاريخيّة، والاجتماعيّة، والوطنيّة، والسياسيّةِ والثقافيّة، فالواجبُ على الناقد أن يُحللَ عواملَ التوظيفِ هذه، ويُبرزَ عناصرَ التخصيب بوعي كاملٍ ورؤيا شاملةٍ، وهذا ما يقومُ بهِ ويُؤدّيهِ د. منير توما على أحسن وجه. وأخيرًا لدينا الكثير ممّا نقولُهُ عن د. منير توما كشاعر أيضًا وإنسان، ولكنّي ألتزمُ بالوقتِ المُحدّدِ، وأتمنى لصديقنا العزيز الصحّة والعافية، ليُتحفَنا بمزيدٍ مِن الإبداع الذي يُثري مكتباتِنا، والذي نحن بأمَسِّ الحاجةِ إليهِ في هذه الفترة.
مداخلة د. منير توما: الآباء الأفاضل، رجال الدين الأجلّاء، أيّها الحفل الكريم مع حفظ الألقاب! أسعد الله مساءكم، وكلّ امرئٍ يولي الجميلَ محبَّبٌ/ وكلُّ مكانٍ يُنبتُ العزَّ طيّبُ. ليس بودّي أن أحدّثكم في البدايةِ حديثا تقليديًّا، بالضرورة وبحُكم المنطق، إنّما حديثي إليكم سيبدأ بتوجيهِ شكري الجزيل وامتناني الأثيل إلى المحامي فؤاد نقارة، الذي بادرَ لتنظيم هذه الأمسيةِ الدافئةِ الحميمةِ لتكريمي والاحتفاء بشخصي المتواضع، وذلك بالتعاون المُثمر دائمًا مع عقيلتِهِ الفاضلة السيدة سوزي، اللذيْن يَنطلقان من هذا المكان الطيّب الذي يُنبت العزَّ، فتُثَلج الصدور، وتنتعشُ القلوبُ بإيلاء الجميلِ لنا بفِعل لطفِهما وكرمِهما، وإنّي لأُلخّصُ لكم منذ الآن نشاطهُما وأريحيتيّهُما بكلمةٍ واحدةٍ وهي: اِعمل.
ومع هذا العمل المشكور المحمود تتجلّى هذه الروحُ الخلّاقة المعطاءة في تشجيع الثقافة، والسهر على ازدهارها من خلال رعاية مبدعي الأدب والشعر والفن في نادي حيفا الثقافيّ، بإشراف ورعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، حيث يشهدُ للأستاذ فؤاد نقارة خلفيّتُهُ وواقعُهُ الماثلُ أمامنا، اللذان يُجسّدان شخصيّة إنسان نشأ وترعرعَ في كنفِ عائلةٍ تتعاطى وتعشقُ العلمَ والأدبَ والمعرفة، ليس على الصعيد الشخصيّ العائليّ المحدودِ فحسبْ، بل تجاوزت ذلك بتقديم خدماتها في الماضي والحاضر، لبناء شعبنا في وطنِهم وفي أرضهم، فالتاريخُ ما زالَ محفورًا في الذاكرةِ، تتناقلهُ الأجيالُ المتعاقبة مترحِّمة على محامي الأرض والشعب حنّا نقارة طيّب الله ثراهُ.
إنَّ نادي حيفا الثقافي بفعاليّاتهِ ونشاطاتِهِ الدؤوبةِ إنّما يُبرهنُ مِن يوم لآخر، أنَّ العملَ مفهومٌ ديناميكيٌّ حركيٌّ يَرفضُ الجمودَ جذريًّا، وبصورةٍ قاطعةٍ ونهائيّةٍ، وهذا المفهومُ للعمل مفهومٌ فكريٌّ وروحيّ، فلا عملَ مِن هذا النوع حيث لا فكرٌ ولا روحٌ، لا بل، لا عملَ مُطلقًا، وإذا قلنا إنَّ الإنسانَ خُلق على صورةِ الله، واعتبرْنا ذلك أعظمَ اعترافٍ للإنسان بعظمتهِ وقيمتهِ، وبحقّهِ الإلهيّ في خَلْق الدنيا، امتدادًا لعملِ الخالق، فإنَّ الإنسانَ مَدعوٌّ بإنسانيّتِهِ إلى رفض كلِّ ما يَخرجُ بالإنسان عن هذا المُخطّطِ الإلهيِّ القائمِ على الحُبِّ أوّلًا، وعلى الحُبِّ ثانيًا، وعلى الحُبِّ دائمًا. وهذا في اعتقادي يَتماهى ويَتماثلُ معَ رسالةِ نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِليِّ الأرثوذكسيِّ الوطنيِّ، وبالتالي يَحضرُني قولُ الشيخ الأكبر مُحيي الدين بن عربي، كبير شعراءِ الصوفيّةِ الذي أنشدَ قائلًا: أدينُ بدين الحُبِّ أنّى توجَّهَتْ/ ركائبُهُ، فالحُبُّ ديني وإيماني، عندي كثيرٌ أقولُه ُ لكم، ولكنّي سأقفُ عندَ هذا الحدِّ، وسأقتصرُ على القليلِ مِن الكلماتِ لأكَرِّرَ التحيّة والشكرَ لنادي حيفا الثقافيّ، مُمثّلاً برئيسِهِ الأستاذ فؤاد وعقيلتِهِ سوزي على هذه اللّفتةِ الكريمةِ لتنظيم هذا الحفلِ التكريميِّ البهيج، مُعبِّرًا عن خالص عرفاني وامتناني، مقرونًا بأطيب تمنّياتي لكلّ الحضور الكِرام الذين شرّفوني، وأدخلوا السعادة إلى قلبي بتلبيتِهم الدعوة للمشاركةِ في هذه الأمسيةِ، دون أنْ أنسى أولئِكَ الأحبّاءَ أيضًا الذي تجشّموا عناءَ ومَشاقّ السفر، كما أخصُّ بعظيمِ الشكرِ والتقدير البالغ جميعَ الذين شاركوا بكلماتِهم وفنّهِم وإسهاماتِهم الرقيقة تجاهي، مُثَمناً عالياً دور عريف الحفل الشاعر الدكتور عناد جابر الذي أدارَ الأمسية مشكورًا بلباقتهِ المعهودة ومرونتِهِ المحمودة، متمنّيًا لكم جميعًا المزيد من التوفيق والازدهار. وشكراً لكم على هذا التكريم بحضوركم وتشريفكم الغالي على قلبي.
آمال عوّاد رضوان