أرواحنا ودائع
تاريخ النشر: 02/03/16 | 17:23أَيْقَظَتْهُ زَوْجُهُ مِنَ النَّوْمِ في الْعاشِرَةِ وَالنِّصْفِ لَيْلًا، وَأَبْلَغَتْهُ نَبَأَ وَفاةِ والِدَتِهِ، وَكانَ قَدْ
تَعَوَّدَ النَّوْمَ مِنَ الْـمَساءِ حَتَّى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ شُغْلَهُ يَتَطَلَّبُ الْهُدوءَ وَالتَّرْكيزَ؛ نَهَضَ
وَنَزَلَ مِنَ الْبَيْتِ إِلى السَّاحَةِ، حَيْثُ جُموعُ الْـمُعَزِّينَ مِنَ الْأَقارِبِ وَمِمَّن عَلِمَ بِالْوَفاةِ مِنْ
أَهْلِ الْبَلَدِ الطَّيِّبِ نَباتُهُ، قَدْ بَدَأَتْ تَتَوافَدُ، فَبَلْدَتُهُ طَيِّبَةُ الْعِرْقِ ذاتُ أَصْلٍ طَيِّبٍ، وَإِنْ
طَفَتْ هُنا وَهُناكَ خِلافاتٌ أَحْيانًا، هِيَ خِلافاتُ أَمْعاءٍ في بَطْنٍ واحِدَةٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ
الطَّيِّبَ يَظَلُّ أَصْلًا طَيِّبًا يُؤْتي أُكُلَهُ كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رَبِّهِ.
مَضَتْ ساعاتُ اللَّيْلِ بَطيئَةً نَوْعًا ما؛ نَظَرَ إِلى السَّاعَةِ في جَوَّالِهِ، وَكانَ الْوَقْتُ قُبَيْلَ
أَذانِ الْفَجْرِ، تَوَضَّأَ وَقَصَدَ الْجامِعَ، وَما إِنْ وَصَلَ حَتَّى بَدَأَ الْـمُؤَذِّنُ يُنادي لِصَلاةِ الْفَجْرِ..
اِنْتَظَرَ حَتَّى فَرَغَ المؤذن مِنَ الْأَذانِ، وَتَوَجَّهَ صَوْبَهُ وَأَبْلَغَهُ بِوَفاةِ الْوالِدَةِ، وَأَعْلَنَ الْـمُؤَذِّنُ
نَبَأَ الْوَفاةِ كَعادَتِهِ عِنْدَ كُلِّ وَفاةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ..
أَدَّى صَلاةَ الْفَجْرِ جَماعَةً وَخَرَجَ.. كانَ ضَوْءُ النَّهارِ قَدْ بَدَأَ يَرْتَفِعُ، وَلِلنُّورِ أَوَّلَ النَّهارِ رَوْعَةٌ
وَتَسَرُّبٌ في ثَنايا الرُّوحِ يَبْعَثُ في النَّفْسِ نَشْوَةً، وَنَسائِمُ الْفَجْرِ تَهُبُّ ناعِمَةً بارِدَةً قَليلًا
تُدَغْدِغُ الْجِسْمَ فَتَسْري فيهِ قَشْعَريرَةٌ خَفيفَةٌ.. رَكِبَ سَيَّارَتَهُ وَعادَ لِلْبَيْتِ مِنْ طَريقٍ آخَرَ
كَكُلِّ يَوْمٍ؛ وَصَلَ الْبَيْتَ وَوَجَدَ الْأَهْلَ قَدِ اسْتَيْقَظوا، سَأَلَ الْجَميعَ إِنْ كانَ مِنْهُمْ مَنْ يُحِبُّ
مُرافَقَتَهُ لِزِيارَةِ الْـمَقْبَرَةِ في ساعاتِ الْغَلَسِ، وَلَمْ يَجِدْ مُرافِقًا، فَاتَّجَهَ وَحْدَهُ صَوْبَ
الْـمَقْبَرَةِ..
نَزَلَ مِنَ السَّيَّارَةِ وَنَظَرَ إِلى الْقُبورِ مِنْ خارِجِ السُّورِ الشَّمالِيِّ، فَبَدَتْ لَهُ دورًا وَفيها سُكَّانٌ
وَلَيْسَتْ تُرابًا وَعَدَمًا، أَحَسَّ بِسُكَّانِ الْقُبورِ أَحْياءً في تِلْكَ السَّاعَةِ، ثُمَّ دَلَفَ مِنَ الْبَوَّابَةِ
الشَّرْقِيَّةِ، وَسَلَّمَ عَلى أَهْلِ الْقُبورِ وَقَرَأَ الْفاتِحَةَ عَلى أَرْواحِ سُكَّانِها، وَاتَّجَهَ صَوْبَ قَبْرِ
ابْنَتِهِ الَّتي وَسَّدَها الثَّرى مُنْذُ ثَلاثَةِ أَعْوامٍ في هذِهِ الْـمَقْبَرَةِ قُرْبَ السُّورِ الْقِبْلِيِّ.. جَلَسَ عِنْدَ
رَأْسِ ابْنَتِهِ وَسَلَّمَ عَلَيْها سَلامَ الْحَيِّ عَلى الْحَيِّ، وَخاطَبَها كَما اعْتادَ مُخاطَبَتَها في حَياتِها،
وَأَبْلَغَها أَنَّ الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَنَّ جَدَّتَها قادِمَةٌ إِلَيْها الْيَوْمَ، وَأَوْصاها بِحُسْنِ رِعايَةِ
جَدَّتِها كَما كانَتْ تَرْعاها عَلى ظَهْرِ الْحَياةِ:
يابا الْيومِ الْجُمْعَهْ، وْسِتِّكْ جايْ عِنْدِكْ، ديري بالِكْ عَليها يابا، وِاسْتَقِبْليها مْليحْ، اللهْ
يِرْضى عَليكِ وْيِرْحَمِكْ يابا.
لَبِثَ بَعْضَ الْوَقْتِ عِنْدَ رَأْسِ ابْنَتِهِ، يَدْعو لَها وَيَسْتَرْجِعُ الْأَيَّامَ الْخَوالي وَضَحِكاتِ ابْنَتِهِ في
الْبَيْتِ، وَخِلافاتِهِ مَعَها، أَوْ خِلافاتِها مَعَ إِخْوَتِها أَوْ لَحَظاتِ الْفَرَحِ، وَجَميعَ الْحالاتِ فَرَحًا
وَحُزْنًا، ثُمَّ راحَ يَتَحَسَّسُ شُجَيْرَةَ الْـمَرْيَمِيَّةِ الْـمَزْروعَةِ في تُرْبَةِ الْقَبْرِ وَيُمَرِّرُ أَوْراقَها بَيْنَ
سَبَّابَتِهِ وَإِبْهامِهِ في حَرَكَةِ اسْتِشْعارِ أَحاسيسِ الْأَوْراقِ، وَبَعْدَها انْحَنى لِلْخَلْفِ وَراحَ
يُعيدُ قِراءَةَ اسْمِ ابْنَتِهِ الْـمَنْقوشِ عَلى شاهِدِ الْقَبْرِ وَتاريخِ ميلادِها وَوَفاتِها، وَيُمَرِّرُ يَدَهُ
عَلى الْاِسْمِ يَمْسَحُ أَيَّ غَبَرَةٍ عَلِقَتْ بِالشَّاهِدِ.
مَكَثَ بَعْضَ الْوَقْتِ عَلى حالِهِ وَذِكْرَياتِهِ، ثُمَّ نَهَضَ واقِفًا وَنَظَرَ إِلى الشَّرْقِ، كانَتِ الشَّمْسُ
قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ مِئْذَنَةِ الْجامِعِ بِجَمالٍ يَبْهَرُ النَّظَرَ، ساطِعَةً، رَغْمَ أَنَّهُ شَهْرُ شُباطَ، وَهُوَ
عادَةً شَهْرُ أَمْطارٍ، خَطا خارِجًا مِنَ الْـمَقْبَرَةِ، وَرَكِبَ سَيَّارَتَهُ عائِدًا إِلى الْبَيْتِ في انْتِظارِ
وُصولِ جُثْمانِ الْوالِدَةِ مِنَ الْـمُسْتَشْفى.
جَلَسَ عَلى كُرْسِيٍّ في ساحَةِ الْـمَنْزِلِ تَحْتَ شَمْسِ الضَّاحِيَةِ الدَّافِئَةِ، وَرَشَفَ فِنْجانًا مِنَ
الْقَهْوَةِ السَّادَةِ أَوْ أَكْثَرَ، وَانْطَلَقَ الْخَيالُ يَجوبُ الزَّمانَ مُتَفَكِّرًا في أَحْوالِ الْبَشَرِ، وَمِنْ
عادَةِ ابْنِ الْأَيْكِ أَنْ يَتَرَنَّمَ:
أَرانا عَلى ظَهْرِ الْحَياةِ وَدائِعًا .. لَها مَوْعِدٌ إِنْ حانَ رُدَّتْ بِلَمْحَةِ
بَلَ اسْرَعُ مِنْ لَـمْحٍ فَلَيْسَ تُعيقُها .. مَفاوِزُ أَرْضٍ أَوْ حُزونُ مَحَلَّةِ
تَرى الْـمَوْتَ جَوَّالًا بِغَيْرِ تَوَقُّفٍ .. يَطوفُ عَلى الْأَرْواحِ مِنْ كُلِّ مِلَّةِ
فَيَقْطِفُها في أَيِّ حالٍ وَهَيْئَةٍ .. فَهذي لَدى نَوْمٍ وَتِلْكَ بِصَحْوَةِ
وَتِلْكَ لَدى كَدٍّ وَأُخْرى بِعُرْسِها .. وَراكِضَةٌ في السَّهْلِ أَوْ فَوْقَ تَلَّةِ
وَجالِسَةٌ تَبْكي فِراقَ مُشَيَّعٍ .. وَوالِدَةٌ عِنْدَ الْـمَخاضِ بِطِفْلَةِ
وَذاكَ صَغيرٌ قَبْلَ نَبْتِ عِذارِهِ .. وَتِلْكَ عَراها النَّزْعُ مِنْ غَيْرِ عِلَّةِ
فَقَدْ حُجِبَ الْـميقاتُ فَهْوَ مُفاجِئٌ .. وَلا يَعْلَمُ الْـمَخْلوقُ حِلَّ مَنِيَّةِ
“تَعَدَّدَتِ الْأَسْبابُ وَالْـمَوْتُ واحِدٌ”.. هُوَ الْـمَوْرِدُ الْحَتْمِيُّ، وِرْدُ الْبَرِيَّةِ
وَكُلٌّ وَلَوْ طالَتْ حَياةٌ مُسَيَّرٌ .. إِلَيْهِ عَلى رَغْمٍ وَمِنْ غَيْرِ رَجْعَةِ
محمود مرعي