الواحدة بعد الظهر وحتى ساعة متأخرة

تاريخ النشر: 05/09/13 | 9:07

1990الساعة الواحدة بعد الظهر في سوق الخضار- حيفا

سار أمنون مبحلقا بنظره القصير في سوق الخضروات في حيفا ليقتني أغراضه لوجبة العشاء التي سيقيمها الليلة، أخرج من جيبه قصاصة الورق التي كتبتها له صديقته وشريكته في الشقة المستأجرة لكليهما وتمعن بها: بندورة، خيار، فلفل، بصل، نعناع، جرجير، ولم يفهم أمنون ما معنى جرجير، فهز كتفيه وقطب جبينه مفكرا، اقترب من أحد الباعة العرب وسأله: ما معنى كلمة جرجير؟ فصديقتي العربية.. عذرا، أقصد صديقي العربي كتب لي هذه اللائحة ولم افهم هذه الكلمة بالذات.. ثم أومأ برأسه. نظر إليه البائع بارتياب متصنعا تصديقه على ما قال فسأله البائع:

  • لما لا يأتي صديقك بنفسه ويشتري قائمته؟

-8/3/1990الساعة الواحدة بعد الظهر في مدرسة "فتحي الكوفي"- حيفا

في خضم مشاغله، لاطف عثمان أستاذ الفنون في مدرسة "فتحي الكوفي" سكرتيرة المدرسة نوال، الآنسة حادة الملامح، متجهمة الوجه، ذات الصوت الرنان، التي يهابها طاقم المدرسة جميعا، من معلمين ومدير، إلا عثمان. فكانت لا تخفي حبها وإعجابها به، فكلاهما أعزبان. وهيأت له جميع ما يطلبه في المدرسة، خاصة وأنه فنان تشكيلي، وطلباته المدرسية كثيرة، ولا ترفض له أيا منها. تعرف نوال أن لعثمان معجبات كثيرات، ويعمل جنبا إلى جنب مع عدة نسوة في هذا المجال.

استقبلت نوال اتصالا وكان لعثمان، فنادته وتغيرت ملامح وجهه وهو يتحدث عبر الهاتف، وتلعثم خلال حديثه المقتضب وازداد ارتيابا، وفي نهاية الحديث قال: إنشاء الله مساء.

أقفل الهاتف وقبل أن يهرب من نظرات السكرتيرة نوال الممتعضة سألته:

  • هل عندك موعد هام الليلة؟

-8/3/1990الساعة الواحدة بعد الظهر في المطار- اللد

هبط لورانس في مطار اللد وهو شاب وسيم، رياضي، بارز الوجنتين، ذو شعر أحمر كألسنة اللهب. تنساب السعادة من عينيه ويتخيل كيف ستكون المفاجأة لصديقته التي تحتفل بعيد ميلادها اليوم. جاءها خصيصا ليفاجئها بهذه المناسبة، بعد افتراقهما قبل عدة أشهر في لندن، فأرجأ اللقاء إلى يوم ميلادها. عشقها، ونوى الزواج بها، لكن مشروعه فشل لأن الشركة التي يعمل بها طلبت منه الانتقال والإقامة في سدني في أستراليا.

هذه المرة، سيتقدم لطلب يدها والسكن بقربها بجوار أهلها وأصدقائها، وفي مسقط رأسها. استقل لورانس التاكسي وفجأة، احتقن وجهه لأنه لا يعرف عنوان بيت صديقته الذي انتقلت إليه حديثا..

انتابته حيرة، ولم يدر ما يفعل، فإذا اتصل وسألها عن العنوان سيفسد المفاجأة، سأله السائق: في هدوء وأناة:

  • إلى أين تريد الذهاب؟

-8/3/1990الساعة الثالثة عصرا في سوق الخضار- حيفا

جهز أمنون كل المشتريات التي طلبتها شريكته في الشقة فأمنون يعطف عليها دائما، وخلال ترتيب المقتنيات خطرت بباله فكرة أسعدته كثيرا وكاد يطير من الفرح، ذهب إلى شارع بن غوريون والذي يسميه العرب شارع "أبو النواس" وأخذ يتجول بين مطاعمه الكثيرة لينتقي مكانا مناسبا لتنفيذ فكرته، وعندما اختار المطعم دخل إليه وطلب برقة ولباقة حجز طاولة لشخصين لهذا المساء. وقال لصاحب المطعم أريد أن يكون المكان جميلا ورومانسيا، سأله النادل بلهفة واجهاد:

  • هل ستكون برفقة زوجتك أم مجرد صديقة؟

-8/3/1990الساعة الثالثة عصرا في مدرسة "فتحي الكوفي"- حيفا

مبدأ عثمان في الحياة: الذي لا يعرفه العقل لا يحزن عليه القلب. نظر عثمان إلى سماعة الهاتف كالمذعور، ونسق كلماته بحنكة حتى يستطيع التخلص من موعده مع صديقته على العشاء، بعد أن وعدته السكرتيرة نوال بأنها ستأتي إليه هذا المساء، وتحضر له هدية، حاسوب ماكنتوش وأدوات رسم ثمينة لتساعده في عمله.. وعندما توصل إلى قرار، رفعت سماعة الهاتف من الطرف الآخر، تغيرت سحنته واختلجت شفتيه حين سمع:

  • نعم حبيبي ماذا تريد؟

-8/3/1990الساعة الثالثة عصرا في مدرسة "فتحي الكوفي"- حيفا

جلس لورانس أمام سكرتيرة مدرسة "فتحي الكوفي" وسألها عن عنوان صديقته الجديد، فهو يعرف مسبقا بأن صديقته تعمل بضع ساعات في مكتبة هذه المدرسة.

فأجابته نوال: إنها لم تعد تعمل عندنا، ولكن لماذا تريدها، ربما أستطيع مساعدتك؟

قالت هذه الجملة آملة بأن يكون هذا الضيف المخلص من غريمتها، فهي تصفها بساحرة الرجال وذات قوة سحرية لجذب الرجال، وتنعتها بأنها "فتاة لعوب في براءة" فقال: اليوم عيد ميلادها وقد جئت خصيصا من خارج البلاد لأفاجئها وأزف لها خبرا سعيدا.

فابتسمت السكرتيرة بمكر وكمن أصابها مس من الخبل وقالت: المقصود سعيد سعيد؟

فغمز لورانس بعينه وقال: نعم، سعيد جدا..

لم تصدق نوال ما سمعته أذنيها مما جعلها ترقص فرحا، ثم قالت: سأجد لك عنوانها من تحت الأرض.

رفعت سماعة الهاتف وسألت حارس المدرسة وهي تغمز بعينيها: هل ساعدت الساحرة في نقل أغراضها إلى البيت الجديد؟

أجاب الحارس في ارتياع:

  • نعم، ولماذا تسألين؟

-8/3/1990الساعة الثامنة مساء في المطعم الهندي في "شارع أبو النواس"

وصل أمنون إلى المطعم الهندي، المكان الذي تحب شريكته في الشقة مأكولاته، وتبدو السعادة عليه منتظرا قدوم المحتفى بها. وراح يتطلع إلى فنادق ومقاهي ومطاعم الشارع من حوله. فأمنون إنسان متحفظ في علاقاته مع البشر، ويميل إلى الصمت والترفع عمن حوله، وهو شديد الإعجاب بنفسه، فقد حاز على لقب الماجستير من جامعة كمبريدج الإنجليزية، إلا أنه أحب شريكته في الشقة حبا جما، ومن نبرات صوتها يدرك حالها. انتظر دقائق ثم ربع ساعة ونصف الساعة وساعة ولم تأت فتقدم منه النادل وقتئذ وسأله:

  • ماذا تريد للعشاء؟

-8/3/1990الساعة الثامنة مساء في بيت عثمان

رن جرس باب شقة عثمان، فقام مسرعا واستقبل نوال التي كانت ترتدي أجمل ما في خزانتها. ووراءها يقف تقني الحاسوب حاملا الجهاز الجديد، وهي تحمل عدة أكياس مليئة بأدوات الرسم، فهي تحب عثمان، ولا ترى غيره في الدنيا. وعثمان يحب نفسه بذات القوة والإخلاص والتفاني. استقبلهم عثمان بالترحاب فقالت نوال: ها هو التقني سيقوم بتركيب الحاسوب في شقتك، ولن يخرج إلا بعد أن تقوم بنفسك بتجربة الحاسوب؟

فسألها عثمان: وهل سيستغرق هذا وقتا طويلا؟

فقال التقني مواسيا: لا.

بدأ التقني بالتركيب ونوال تفرغ الأكياس من محتوياتها وعرض الهدايا التي أحضرتها لفارس أحلامها.

تصنّع عثمان الفرحة الكبيرة مع كل هدية وفرك يديه دهشا، ونظر إلى ساعته في كل لحظة. مرت الدقائق وطالت حتى أصبحت الساعة التاسعة. عندها قال التقني: انتهيت من التركيب، الآن جاء دور تنزيل البرامج، وسأل عثمان:

  • قل لي ما هي البرامج التي تريد تحميلها؟

-8/3/1990الساعة الثامنة مساء أمام بيت سهى

صعد لوارنس الدرج ووصل إلى شقتها في الطابق الثاني، طرق الباب طرقا خفيفا، ولكن ما من مجيب، فقرر ألا يغادر باب الشقة حتى تعود إلى البيت. فوضع باقة الزهور بجانب الباب، وجلس أمام مطلع الدرج ينتظر عودتها. مرت الدقائق ثم طالت وأصبحت التاسعة مساء، وفجأة صعد أحد الجيران الدرج قاصدا شقته في الطابق الثالث، فاصطدم بلورانس جالسا مترنحا على الدرج، وبجانبه باقة الورد الكبيرة، فسأله فزعا:

  • أتنتظر أحدا؟

-8/3/1990الساعة العاشرة مساء، في حديقة بلدية حيفا، والمطعم الهندي وشقة أمنون

حاولت سهى طوال الوقت الاتصال بعثمان، لكن سماعة الهاتف كانت مرفوعة على الدوام، وعزت ذلك بداية إلى أنه رفع سماعة الهاتف خطأ. ولكن ازداد قلقها وارتيابها مع الوقت حتى بلغت حد الغضب ثم اليأس لعدم حضوره في الموعد كما اتفقت معه. وكان قد أعلمها هاتفيا بأنه سيتأخر بعض الوقت، ولكنه لم يقل ساعتين وأكثر، وأطلقت ضحكة قصيرة تنم عن التحدي، ولكن أثناء تلك الحيرة والغضب تذكرت فجأة أن صديقها أمنون دعاها إلى عشاء في المطعم الهندي الذي تحبه.

فكرت، أيمكن أن أمنون يعرف أن اليوم هو عيد ميلادها؟ ويريد أن يحتفل معها في عيدها؟ فقالت: يا للسماء! خسرت الحبيب والصديق ولم أرتب أموري جيدا!

بدت على سحنتها إمارات الألم الدفين، فطارت إلى المطعم الهندي، وأخبروها هناك أن أمنون ترك المطعم قبل دقائق معدودة.

عنفت نفسها على ما اقترفت، فكيف ستعتذر عن عدم حضورها، ماذا ستقول لصديقها في الشقة؟ هل نسيته وفضلت عثمان عليه؟ لم تجد أي تعزية لفعلتها.

وعندما وصلت إلى باب شقتها اصطدمت بباقة الزهور الكبيرة، انحنت بسرعة لتستوضح من أرسلها، فلم تجد أي بطاقة عليها، تنير لها سبيلها. فكرت: أهي من عثمان حبيبها الذي أراد أن يعتذر عن عدم حضوره؟ أم من شريكها وصديقها أمنون الذي يسعدها دائما مهما بدر منها.

فتحت باب الشقة، وأدركت من خلال الهدوء والظلام أن أمنون لم يصل بعد، ولكن قدمها داست على قصاصة، رفعتها وقرأت ما بداخلها:

"سهى الجميلة.. أنا لورانس، جئتك خصيصا من لندن لأفاجئك بعيد ميلادك، آسف لأنني لم أعلمك بقدومي، أردت أن أزف إليك نبأ سعيدا في يوم ميلادك، ولكن يبدو أنك برفقة أحدهم ولا أستطيع أن أخبرك به الآن.. إلى اللقاء.. لورانس"…

!!!!

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة