يرومون تقويــمًـا لنا
تاريخ النشر: 06/09/13 | 23:24في مقالة لي عن اللغة احتج علي (ابن المغار) قائلاً إنه يجب علي أن أحافظ على الشدة في كتابتي، نحو ( مادّتي، علّـق، محتجًّـا).
وقد أجبته بما يلي:
إن وجوب الشدة في الكتابة لا عهد لي به في أي كتاب من كتب العرب الموثوق بها، اللهم إلا المشكولة بدقة، فهنا تكون الشدة واجبة وملزمة.
إن كتاب (الإملاء الصحيح) لأبي رزق- عبد الرؤوف المصري اللغوي المعروف- صدر عن عمان سنة 1918- هو من أوائل الكتب التي نهلنا منها، وعليه اعتمد الكتّاب منذ مطالع القرن الماضي. فإذا تصفحت الجمل في هذا الكتاب فإنك لا تجد هذه الشدة المطالب بها، بل تجدها عند إمكان اللبس.
وثمة (كتاب الإملاء) تأليف الشيخ حسين والي (دار القلم- بيروت) ألفه المفتش الأول للأزهر والمعاهد الدينية، وغير ذلك من عشرات الكتب القديمة والمعتمد عليها، كلها بدون هذه الشدة الجديدة في مطلبها المستقل، فهي محبذة لدى اللبس- كما أشرنا. بل انظر إلى مقدمة كتاب "قواعد الإملاء" لعبد السلام هارون، أو إلى مقدمة أي كتاب حققه هذا المحقق الكبير، كـ "البيان والتبيين"، فأين رسم الشدات هذه؟!
هذه الشدة قررها من قرر في منشور وزعته مفتشة الأدب العربي، ولا أظن أنه من إعدادها، بل من إعداد متحذلق لا يوثق بعربيته، وقد اعترضتُ على هذا المنشور في مقالة سبق أن نشرتها في صفحتي اليومية على الفيسبوك، كما نشر في مواقع مختلفة.
* * * *
قلت: بين الفينة والفينة أجد هنا وهناك من يبغي تقويمي، فلو كان عن معرفة لسررت بمن يهدي إلي عيوبي، ولشكرت وتعلمت!
ولكن "علقتي" مع من ليس له أدنى دراية أو متابعة أو اطلاع علمي.
أحببت هنا أن أقتطف من مقالة لي عنوانها "يرومون تقويمًا لنا" نشرتها في كتابي "تمرة وجمرة"-
(ط2، 2005، ص 94)، لعل ذلك يلقي ضوءًا على ظاهرة التطاول والأستاذية غير المبررة.
……………………………………………………………..
يرومون تقويمًا لنا
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو للحفاظ على اللغة، فيقول: "تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة"، وعرف عنه أنه كان يضرب أولاده إذا لحنوا، بل يضرب عماله بالدِّرة عند اللحن ولا يحجم.
ومع أن اسمي في الأصل هو لقب لعمر فلن أتشدد هنا إلا مع الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، مستثنيًا الخطأ العابر، والسهو – وجل من لا يسهو – والاجتهاد عن سابق قصد وسابق معرفة.
ثمة نكتة في هذا السياق:
قال بِشْر بن مروان- وعنده عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه – لغلام له: اُدع لنا صالحًا!
صاح الغلام: يا صالحا!
قال بِشر: ألقِ منها ألف!
قال عمر: وأنت فزد في ألفك ألفا!
سآتي هنا إلى أصحاب بِشر ممن ينقحون ويصوبون، ولكنهم يقعون ويعثرون.
سآتي إلى نماذج في كتابتنا المحلية، واعذروني إذا أغفلت الأسماء، فما يهمنا هو الظاهرة لا التشهير.
في قصيدة بعنوان (وا لغتاه) – لاحظوا الندبة- يبكي أحد شعرائنا على مصير لغتنا، فيقول محتجًا:
والغوص أصبح في الأعماق مبتذلا ومن يغوص نرى في كفه حجرا
والصواب (يغص)، (نرَ) ، لأن (من) الشرطية تجزم الشرط وجوابه (تصح نرى في شواهد نادرة) ولن أمضي أكثر.
* * *
في مقال نشر في "فصل المقال" ينقد الكاتب فيه لغة كاتب آخر فيقول:
وعليه فقد "كان حري بالكاتب ألا يقول…."
والصواب يا من تصوّب هو (حريًّا)، لأنها خبر كان مقدم.
ثم يقول … "اضطلاع الجماهير على أدبه" .. والصواب هو (اطّلاع)، لأن الأولى تعني أن يقوى الإنسان على موضوع ما، وينهض به، بينما القصد هو التعرف إليه.
هذان النموذجان ذكراني بموقف لا بد من الإشارة إليه:
كنا في مناقشة نحوية، فإذا بمن ينافح ويكافح ذودًا عن اللغة يتحدث بالعامية، وعندما طلب منه أن يفصح بالفصيحة أُسقط في يده وفي لسانه،
ولن أمضي أكثر.
مثل هؤلاء يصح فيهم- مجازًا- ما قاله الحُر الكِناني (أو المتوكل الليثي):
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى
كيما يصحّ به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غَيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُـقبل ما تقول ويهتدي
بالقول منك ، وينفع التقويم
يا أيها الرجل المعلم غيرَه
هلا لنفسك كان ذا التعليم
فما رأيكم – يا رعاكم الله – بأساتذة للغة يكتبون أسماء طالباتهم هكذا:
فاديا، ناديا، ساميا، ديما، داليا، لينا، شاديا، هالا … إلخ؟
(من نافلة التوضيح أن هذه الأسماء عربية الأصول، وهي تنتهي بهاء التأنيث).
وما رأيكم بمن يلفظ أسماء الأدباء في الصف بشكل خاطئ، فيقول: أبو نَوّاس و طَرْفة، ويقول عُدي بن زيد، والصواب ابو نُواس و طرَفة وعَدِي، وقس على ذلك الكثير الكثير؟
وأخيرًا،
فليس هناك من هو معصوم عن الخطأ، ولكني أؤكد ثانية أن حديثي هنا موجه لمن يغوص في أي فن من غير أهلية، ولا هدى له ولا كتاب منير، ولكنه- مع ذلك – يخاطبنا وكأننا طلاب في مدرسته، ورحم الله من قال :
لقد رابني من أهل يثرب أنهم يرومون تقويمًا لنا وهم عُصْلُ