يدك التي تكتبني
تاريخ النشر: 03/03/16 | 12:24لم أكن أعلم أن الحروف كسائر البشر تسافر لكن دون حقائب.. وتترك مكانها فارغاً إلا من الأشواق والحنين..
ودعتني الحروف.. لكنها لم تكن على سفر.. حروفي لم تسافر عني.. بل هجعت ساكنة.. خاشعة.. متعبدة في محراب الورق.
دائماً كانت الدموع تسبقني.. والحروف ترسمني.. وعيناك وحدهما من تقرأني.. وكنتُ أنا لا أكلف نفسي عناء الحديث إلى الحروف وإلى الدموع وإلى عينيك..
كنتُ أرتشف القهوة على مهلِ.. ويحدثني طيفك هامساً في أذني كل الوقت.. لم يكن الوقت يغادرني.. ولا أنت.. وكنا دائماً نرتشف القهوة المحلاة بالسكر من الصبح إلى ما بعد العصر.
كم كان عمرك.. لا أدري؟
كم هو عمرك اليوم.. وكم هو عمر هذا الوقت؟
أنا لا أعرف..
فمذ وعيت ذات صباح مشرق على هذه الحياة.. حضرت الشمس ولادتي.. وألبستني قلادة الوقت وطيفك..
منذ ذلك الحين وأنا أراك معي.. يدك في يدي الصغيرة التي لا تقوى وحدها على حملِّ أوراق العمر.. فكانت يدك تغمر يدي الصغيرة وتقلبُ عنها الصفحة.. كانت يدك القلم الذي أكتب به تاريخ الوطن مذ شُردت عنه قبل آخر رحيل لي عن عين الشمس.
كانت يدك المداد الذي يسيل على صفحاتي فيترك بسمة هنا.. ودمعة هناك.. ليقترب الفضوليون من قصة حياتي أكثر فأكثر.. ليحاولون فك شيفرة الحروف وسرّك.. ثم يعييهم التعب والإجهاد فيغمزون بطرف العين ” إنه حصرم وليس عنباً ”..
إنها أضغاث أحلام عصفورة.. وأطياف تتراءى لشاعرة.. وحروف من وحي الخيال.. ويغيبون..
وأنا أراهم.. أنظر إليهم في قعر فنجاني يتلصصون ويتربصون ويشتمون رائحة القهوة والمداد.. يريدون القبض عليك وأنت تسري في دمي..
ويُخفقون..
ويسألون السماء بتذرع واهٍ: هل ينطق المداد أيتها السماء؟
فينهمر المطر من كبد السماء وتتفتح أزرار الياسمين عبر الصفحات.. يقطفون ويقطفون ويقطفون.. ثم يذهبون.. فهذا ياسمين السماء.. أمطرته غيوم السماء.. لا يوجد له تربة في قلبي.. ولا يترك له ظلالاً على الأوراق..
والوقت يضيع منهم ويأتي إليَّ.. يحملك كما اعتاد أن يحملك إليَّ طوال هذه السنين لتطبطب بيدك الحنونة على كتفي.. وتحمل عني ثقل الحروف..
وتنطق الحروف الخرساء بين يديك..
وأقرؤها في عينيك رسائل شوق ومحبة.. وأسمعها في أنينك بكاء ياسمين السماء.. وأرسمك في فنجان قهوتي رمزاً من رموز الوفاء.
لكنهم يريدون أن يقرؤوك في عيوني..
وألوذ بك إلى أعماق الفؤاد حيث لا تصل أياديهم.. ولا يجرؤون..
هناك حيث تكتبني كما تشاء وأشاء.. وتقرأني كما تهوى وأهوى.. ويغيبون هم في البحث عنك بين الحروف..
حروفي اليوم ودعتني.. هجعت للتعبد.. وتركتهم يفتشون عنك في ظلِّهم فلا يجدون إلا مطراً وياسميناً وقهوة لذة للشاربين..
ويدك التي تكتبني كما تشاء وأشاء.
ميساء البشيتي