أَبو ذرٍّ(1)
تاريخ النشر: 04/03/16 | 8:55عجوزانِ يهْرُبانِ من الوَقت.
وها هُما ما يزالانِ يتقاسَمان مِقعدًا صخريًّا، في فَيْءِ عُلَّيْقةٍ ذاتِ مخالبَ، ويأكلانِ سويَّةً حبَّةَ توتٍ برّيٍّ كاملةً ويتناصفانِ القمَرَ والشّمسَ والطّينَ والرّياحَ والماءَ.
ستقولُ خالتي، التي انكسرَتْ يدُها يومَ هطلَتْ سماءُ خراسانَ خيْلًا من غمامٍ على فخَّارِ الهِلالِ الخصيب(2)، وداسَتْ خيولُ بيزانطيا على صدور العصافير، وكحَّلت سِهامُ جنكيز خان عينَ النّهرِ بمحبرةِ الجاحظ، إنّها ما زالت تمدُّ صوتَها نحوَ خيمة المُعتصمِ الطّائرة، وتختبئ من سيفِ الحجّاجِ بظلّ عُمَر بن عبد العزيز.
وسوف تقولُ خالتي، الّتي لا تعرفُ العَدَّ ما فوقَ الدَّزّينةِ، إنّه قبلَ اثنيَّ عشرَ ألفَ عامٍ وخمسِ دقائق، بالتَّوقيت الغريغورياني،
أو عشرةَ آلافِ عامٍ، في تمامِ السَّاعةِ الأرجوانيّة، قبلَ أن يوزِّعَ المَسيحُ جسدَهُ على أفواهِ الفقراء ويصبَّ دمَه نبيذًا في كؤؤس سدَنةِ الهيكل،
قبلَ أن يرثَ القاتلُ لحمَ المقتول،
قبلَ أن يتدجَّنَ ابنُ آدمَ ويبني مزرعةً للثّمارِ المُسالِمَةِ والأرانبِ مقصوصةِ الذّيْلِ ويبسطَ هَيْمنَةَ البَندورة المُمكيَجة بأحمرِ الشِّفاه.
وأيضًا قبلَ أنْ ينتبهَ كوبرنيكوس(3) إلى أنَّ الشّمسَ لم تتوقّفَ في سماءِ أريحا، فوقَ جيوشِ يهوشع بن نون، ذلك لأنّها كانت واقفةً ألفَ سنةٍ ضوئيّةٍ قبل انفلاق البحر كاللَّبن الرّائب(4)،
كذلك حدثَ الأمرُ، وغيرُهُ، قبلَ أن يقتلعَ سبارتاكوس(5) شوكةً من كفِّ الأَسَد، ويمزِّقَ العبيدُ جسَدَ السَّوْط،
وقبلَ أن يُلملمَ كارل ماركس القيمةَ الفائضةَ من جيوبِ الأثرياء، ليقدِّمها علكةً في أفواه النّاس.
وتقولُ خالتي، التي تُعلِّقُ خرزةً، قطفتها من مسكَبِ في سمائها الزَّرقاء، على بابِها المهروء، اتقاءً للقصفِ وحسَدِ الأساطيل والبنوك الديجتاليّة، إنّهُ في هذا الوقت بالتّقريب، كان العجوزَانِ يتناصفان الأرضَ والنّجومَ والشَّدائد والشَّيْبَ والغيْبَ وبقيّةَ الأسنان. فواحدٌ يقسِمُ الرّمالَ والجِبالَ والهواءَ والبحرَ والسّماءَ والأشياء والآخر يوزّع النّصفَيْنِ.
وخالتي أُمِّيَّةٌ، لا تكتبُ ولا تحسِبُ، ولا تعرفُ إلّا مُعادلةً واحدةً للإنصاف. تقولُ لجارتِها الطمَّاعة: الأوّلُ يقسِمُ ما أنعمَ اللهُ، والثّاني يختار حصَّتَهُ؛
للبدويِّ في الرّبعِ الخالي هكتارٌ في قِمَمِ الهملايا/ للأنفِ في شوارعِ موسكو حصّةٌ في أمونيا الأُسود الأفريقيّة/ للصّباحِ الأبيض في كوبنهاجن خيطٌ من نكهة القهوة العدنيَّة/ للقنديلِ المتراقصِ في الأكواخِ حصَّةٌ في حقول النّفط/ لِشفَِتَيّ غاندي حصّةٌ في حفلةِ شاي باكنغهام(6)/ للجثَثِ المُلقاةِ في حلبٍ حصّةٌ في القبور الشّاغرة ورخامِ جبال الرّوكي(7)/ ولريشةِ الهنديِّ الأحمر مسمارٌ فوقَ أرائك البيت الأبيض.
وقد انكسرَت ساقُ خالتي، حين حاوَلتِ التسلّق على جبلٍ سامقٍ، لمَلْءِ جيوبِها بالثَّلجِ المفقودِ في نواحينا ورشِّ ملحِ الصحراءِ على كآبةِ الصَّقيع.
ومنذُ تلك الأحيان وخالتي تتَّكئُ على المقعد الصّخريّ، وتولوِلُ بما تبقّى من أوتارِها:
ألم يعُدْ يصلحُ سيفُ أبي ذرٍّ، في استردادِ ماءِ الوَجهِ وحفرةٍ لإعادة التّراب إلى التّراب؟!
_____________________
(1) أبو ذرٍّ الغفاري، من الصّحابة، ونُسب إليه القول الشّهير: “أعجبُ لمن لا يجدُ قوتًا في بيتِِه، كيف لا يخرجُ إلى النَاسِ شاهرًا سيفَه”.
(2) طريق خراسان، هي طريق هامّة، ويقال إنَها ساهمت في إنشاء الامبراطورية الفارسيّة القديمة واجتياح الممالك الكبيرة ومنها مملكة وادي الرّافدين، وإنّ خيول فارس القديمة، عزَّزت من قوّة الامبراطوريّة (ومن ذلك، حكايةٌ مفادها أنَّ مئةً وستّين ألف حصان أبيض كانت ترعى الكلأ في أحد الوديان).
(3) الفلكي الشّهير، الذي أحدث انقلابًا كونيًّا فيما يتعلّق بحركات الأرض والمجموعة الشّمسيّة.
(4) حكايات توراتيّة.
(5) سبارتاكوس، محرّر العبيد (روما).
(6) القصر الملكي في إنجلترا.
(7) جبال الرّوكي (الصّخريّة) في أميركا الشّماليّة، وكانت أحد مَوَاطن السُّكّان الأصليّين (الهنود الحمر).
بقلم: فريد غانم