الوقوع على الأرض
تاريخ النشر: 09/03/16 | 5:31“أبن عمك حسين .. عندنا في البيت .. ينتظرك لأمر يقول أنه هام..!”
انطلق صوت زوجتي من المحمول .
كنت في طريقي الى البيت , عائدا من السوق, بعد ان نفذت مهمات شرائية ,كلفتني بها زوجتي ..
ماذا يريد مني هذا الرجل ..!؟
يغيب عني حتى أكاد أنساه .. ثم يعود ليظهر أمامي من جديد , حاملا معه الوانا من أحمال, تثير الغضب والأشمئزاز والقرف ..!
حضرت نفسي كي “أرجمه” بالوجبة المعتادة , التي لو تلقاها غيره, من شخص آخر, لقاطعه العمر كله.!
لم تكن علاقاتنا, أنا وابن عمي, تسر الصديق ,أو تعيظ العدا ,ولكنها انقطعت أو تكاد أن تكون, عندما ” طخ” في حفلة زواج ابني ,غير مباليا بالتنبيهات والتحذيرت, التي وجهتها له ولأمثاله من متطفلي موائد” السلطان” .
أننا نسكن في نفس الحارة ,و كان يحز في نفسي تواجد سيارات الشرطة وقوى ” الأمن ” , عند مروري من أمام بيته.. أمر بها ولسان حالي يقول :” ما باليد حيلة ..!!” .
قبل أشهر طرق باب بيتنا – على غير عادة – ورفض ان يجلس , (وعلى الواقف .!) ..انهال علي بخطاب ,خرج من سجن ينضح حقدا : ” أطلع بعيني – يا ابن عمي – ! , أنا بحبكش , وأنت ما بتموت “فيي” ..! ولكن الدم ما بصير ميي ..هات الفرآن تحلفلك عليه .. اني ما عطلت على ابنتك بالتوظيف .. صحيح أني عطلت على ناس كثار .. ولكن على ابنتك .. أنت أبن عمي من لحمي ودمي!!؟ “. توقف قليلا ليسحب نفسه ,ثم أسرع ليكمل قبل ان يقاطعه أحد :” .. أنت كبير – يا ابن عمي – ..! ماجيتش لأبن عمك , وتركت ابنتك بدون وظيفه .!!”.. حرر نفسه من قبضة ,مخالب اتهامات كانت تغرز في خناقه .
وقبل ان يخرج من فتحة الباب , استدار نحوي وأكمل : ” على كل حال مفتش ..أذا بدك – يا ابن عمي – أنا موجود .. بتعرف وين تلاقيني ..!!” .
وخرج دون ان يترك لي فرصة الرد عليه.. ولو بكلمة واحدة ..!
ولكن قوله: ” عطلت على ناس كثار ..!” بقي كالسكين يقطع أحساساتي وينهش كياني ..!! خصوصا وانه ” هرب ” دون أن يعطيني فرصة محاسبته عليه .
وعندما وصلت , وجدت سيارته قابعة أمام بيتي .. نزلت من سيارتي , ولأول مرة أشعر أنني أدخل أليه أغتصابا .. كان يجلس مع زوجتي, في صدر غرفة الضيوف .. وحال دخولي , وقبل أن ” أطرح ” السلام , خرجت زوجتي حالا, وكأنها تقول لي :” خذ ابن عمك ..و”تشحر” أنت وأياه ..!”.
نظرت الى عينيه, فوجدت”حبتيهما” تتناطتان فيهما , كأنهما عفريتان محبوسان في قمقم زجاجي , ووجهه محروق ,كأنه خرج من طابون .. وشفتان كبيرتان, كأنهما قطعة من صحراء لم تر المطر في حياتها.. فأيقنت بدنو معركة ,لا تقل عنفا عن سابقاتها .
بدأ بالسؤال عن أحوالي وأحوال عائلتي , ولكن تعابير وجهي كانت تحثه , على الأسراع في الوصول ,الى هدفه من هذه الزيارة المفاجئة .. توقف هنيهة ثم انفجر :
– بدكش تحل بنتك عن ابني يا أبن عمي ..!؟
– شو بتحكي ..!؟ مالها بنتي في ابنك ..!!؟ صحت به, وأنا أكاد أنفجر .
– مرة بتوخذه على مظاهرة .. ويوم على مسيرة .. مرة قرى مهجرة .. ومره على هدم بيوت و ..
– بنتي أنا ..!!؟ أبنك أنت ..!!؟
صوب نحوي نظرات ,تحمل كل موجات الوعيد والتهديد :
– “يا ابن عمي حلوا عنا أنت وابنتك ..!! احنا مالناش في المظاهرات والمسيرات ,والهرتقات الفارغة .. أحنا مثل ما بتقولو ا عنا : ( زلام حكومة .. !! )أحنا بنا نخدم هاي الدوله مثل ما بتخدمنا ..!”
– ولكن انت منين جبت هاي الأخبار ..!!؟
– روح أسأل بنتك ..! وبعدين بتسألني ( متوعدا ) .. والله لو اقتربت ابنتك من أبني .. لأحرق الأخضر واليابس .. أنا عندي هالولد ما بسمح لأحد يرميه بالحبوس ..!!
خرج رنين من محموله ,ليوقف فيضانات العداء التي كان يرميها باتجاهي , رفعه بعصبية الى أذنه , أصغى الى كلام خافت لم أستطع حل رموزه , أنزله عن أذنه ,بعد أن اجتاحت وجهه موجات عاتية من السواد المنقوع ,بجيش من حبات العرق. وصاح ومن قحف رأسه :
– أرضيتم ..!!؟ هذا البرضيكم يا أبن عمي .. !!؟ وقام من مكانه وخرج من الباب , فلحقت به ,محاولا معرفة سبب تصرفه هذا , فلم ينتبه ألي .
ورمى بنفسه في سيارته , ففجر ضجيج محركها , وانطلق بها بسرعة جنونية .
– نحن في مظاهرة في الروحة ..وسامي مصاب ..ونحتاج الى مساعد ة ..!! أنطلق صوت سامية من المحمول .. ولأول مرة أشعر أن فيه اهتزازغريب , حتى أنه يكاد يختنق .. فكان في ذلك تفسير لتصرفات ابن عمي ,فركبت سيارتي وانطلقت خلفه ..
ولما وصلت, وجدته في حوار محموم ,مع مجموعة من حرس الحدود .. يحاول أن يقنعهم بالسماح له بالمرور, ليصل الى ابنه المصاب , وهم مصرون على منعه , ولما يئس منهم, أخرج من جيبه محموله ,وابتعد جانبا,وقربه بيد من أذنه, وبدأ يتكلم به بصوت عال مصحوبا ” بتشبير ” باليد الأخرى , كي يتغلب على الضجيج الذي يسيطر على المكان . ولما أنهى المحادثة ,لاحظت على وجهه علامات الخيبة والقهر والغضب..تقدم من القائد, ووضع يده على كتفه ,طالبا منه أن يبتعدا عن جمهور المتجمعين.. نظر حوله ليتأكد من أختلائه به, وعدم قدرة أحد على سماع ,ما ينوي أن يهمس له به , واخرج من جيبه اوراقا ومستندات, وقربها من عينيه , مدنيا فمه من أذنه , فما كان من القائد ألا أن دفعه بقوة , فسقط على الأرض , فقام من مكانه ,وهجم كالثور الهائج باتجاه القائد ,وقبل ان يصله, تكاثر عليه الجنود , وقبضوا عليه, وقيدوه بيديه ورجليه, ورموه في سيارتهم .
أقتربت من السيارة , مغتنما فرصة انشغال الجنود بالمتظاهرين المتجمعين حولهم , فوجدته غارقا بحوام من الذهول المحموم , لم تظهر بقائه حيا ,الا عينان مكسورتان, تتوهان في عتمة خرساء. ولأول مرة شعرت أن موجات من الشفقة عليه, تجتاج شراييني .. تلتها هبات من الغضب والثورة ,جعلت من دمي بركانا يغلي . نزعت عينان عن أنسانيته المجروحة النازفة , وصوبتها باتجاههم ,وركضت مبتعدا عن المتجمهرين , وانفجرت ببكاء محموم ..!
ولحقت به- مع المحامي- الى مركز الشرطه .. وانكروا حتي وجوده, وتعاملوا معنا كأنهم قبضوا على مجرم خطير, يهدد أمن الدولة ..!!
ولم نلتق ألا في المستشفى .. في الغرفة التي كان ينام فيها أبنه ليداوي فيها جراحه ..!!
دخلت أنا وابنتي الغرفة ,فوجدناه هناك , طار الى هنا ,بعد أن أخلي سبيله بكفالة ..وسرعان كما تبددت مخاوفي ,من هجوم محتمل كنت سأتعرض له منه .
كان جالسا على كرسي بجانب سرير ابنه, يخيم عليه وجوم مكسور. رحب بنا.. وعاد بسرعة الى قيود وجومه ..!
أقترح ابنه ,أن يرافقنا في سيارتنا في عودتنا الى البيت , لأن سيارته كانت محجوزة لدى الشرطة, فوافق دون تردد غير مسبوق.
جلس في المقعد الخلفي ,وبقي طوال الطريق ,تائها في عالمه المخطوف , غائبا عن الحاضر , يغوص في شظايا تفجر ماض تعرض لأغتيال مغدور .!
ولم ينطق ببنت شفة ,الا عندما وقفت السيارة معلنة وصولنا .. قام من مكانه .. فتح الباب, ونزل .. وقبل أن يغلقه, توجه الى ساميه قائلا بصوت مخطوف :
” متي- يا سامية – ستنطلق المسيرة القادمة ..!!؟ قالها ومشى ..
بقلم : يوسف جمال – عرعرة