كم أنا مَوْجوعٌ
تاريخ النشر: 09/09/13 | 11:00حدثني ولدي ذات نهارٍ مُطْبِقِ العتمة ، شَديدِ الْجَفاف
وكان يُحاوِلُ إضاءَةَ بَعْضَ شمْعَةٍ لِيُواصِلَ نَبْشَ صَفَحاتِ حياة
وَجَدها ، مُصْفَرَّة الوُجوهِ ، مَخْفِيَّةً في مكْتَبَةِ جَدِّهِ الْقَديمة ،
قالَ ! يا أبي ويا صاحِبيِ ، يا ابْنَ أمّي
أوْجَعَني أشَدَّ الْوَجَع ما أرى في بَغداد ودمشق
وحين رأيتُ كيْفَ اسْتَحالَتا مَدينتا مَوْتٍ وقتلٍ رهيب ،
اشْتَعَلتْ ذاكِرَتي حُزْنًا موجِعًا ، فبقيتُ طويلاً أرقب نهريهما
وقد باتا ضفَّتَي عَتْمَةِ وَدَم ،
فحضَرَني شَبَحُ ما قَرَأْتُ وَكَيْفَ باتَتْ مُجْتَمَعاتنا عالمَ اسْتِبْدادٍ ،
عَسْفٍ وفُقْدانِ بوصَلَةِ تجدُّدِ حياة .
***
صاحَ ولدي مَوْجوعًا : ألله يا وَطَني !
كيْفَ أحالَكَ غزاتُكَ الآتونَ مِنَ الشرْقِ الأقرب إلى الشمال وبعضُ ناسِكَ
شِبْهَ صَحْراء ، أرضها يباب وفضاؤها سَراب
وكُنْتَ جَنَّةً خَضْراءَ ،
شَجَرُها هاماتُ نخيل وزَهْرها مُلوَّن وذوبُ نداها عسلُ نَحْل ،
مُنْذُ ألْفِ عامٍ ، أكثرَ أو أقل ، استَهْدَفَ الغزاة فيك العِلْمَ والْعمل لِتَصيرَ باحَة جوعٍ قاتل ،
أحرقوا المكتبات ، أغلقوا المدارس وَدَمَّروا قنواتِ الرَّي ونَقشوا على جبينكَ ثالوثَ دنس ،
فَصِرْتَ ما أنتَ فيه اليوم : عالم استبدادٍ ، عسفٍ وفُقدانِ بوصلَة تجَدُّدِ حياة .
***
صاحَ ولدي وكان وَجَعُهُ قدِ اشتعَلَ كَشَحْنَةِ نار :
ألله ! يا أبتي . ما يَحْدُثُ اليومَ هُوَ ما كانَ أمسِ
فالغُزاةُ هُمُ الغُزاةُ ، سَيّانَ منْ كانوا ومن أين جاؤوا !
صاحَ :
مَعْذِرَةً يا بغداد ! وَطَنَ أمّي
مَعْذِرَةً يا دِمَشْق! وَطَنَ أبي
لَنْ يَتَبَدَّلَ حالٌ
ما دام القاتِلُ والقَتيل ولدا عقلية سَدَنَةِ عرشٍ موروثٍ وبيئة موروثة ، هُما الشَّيء ونقسه
مَعْذِرَةً ، فأكْثَر ما نحْتاجُهُ أن نصيرَ نَقيضَ ما نحنُ فيهِ ، نقيضَ ما كُنّاه وصرناه .