بين الشاعر المطبوع والشاعر المصنوع
تاريخ النشر: 14/09/13 | 23:06مما يحكى عن الشاعر العراقى محمد مهدى الجواهرى( أبي فرات) أنه تعرض لموقف حساس عندما قالت له إحدى المذيعات: يقولون إنك امرؤ القيس العرب فهل يمكن أن تقول فىَّ شعرا؟
وكانت هذه المذيعة الجميلة ترتدى تنورة سوداء قصيرة، فأنشد الجواهرى قائلا:
وقَصَّرَتْهُ إلى ما فوق رُكْبَتِهَا ليعلمَ الصَّبُ بعد الساقِ ما الباقى
وأسْكَرَتْهُ بلا خَمْرٍ ولا قَدَحٍ وتفعلُ السـاقُ ما لا يفعلُ الســاقى
لقد صنع الجواهرى فى لحظة واحدة مشهدا دراميا ممتدا فى البيتين يبدأ بتخيل سبب تقصير الفتاة للتنورة، مرورا بوصف صورتها وهى ترتديها، عبورا إلى وصف تأثيرها فى وجدان الناظر إليها، وانتهاء بمقارنة تأثير رؤيتها فى هذه الصورة بتأثير ما تصنعه الخمر فى رأس شاربها، منتصرا للنشوة الأولى على حساب الثانية. لاحظوا تكرار القاف سبع مرات مما أضفى على الأبيات المرتجلة قلقلة عذبة!!
لمثل هذا الشاعر يُقالُ إنه شاعر مطبوع.
وقد أحببت أن أبدأ هذه المقالة الجادة بمثل هذه الطرفة، ويقيني أن البعض لن يتعب نفسه بقراءة المقالة حتى نهايتها وربما يكتفي بالطرفة.. فهنيئاً له.
المقال: بين الطبع والصنعة
بين الشاعر المطبوع الذي ينطوي على كل معاني الموهبة العفوية والإلهام الفطري، والذي يجد لذةً في كتابة قصيدته فيشعل نارها من شرارة أحاسيسه ومعاناته وصولاً الى عالم الدهشة، وبين شاعر الصنعة والاجتهاد الذي يعيد النظر دائما في أدواته الإبداعية، وتكون الكتابة الشعرية لديه عناءً ومكابدة وترتيب أبيات وتلفيق معاني لها، واجتهاد في صوغ الأبيات على منوال عروضي مسبق وتنقيحها وتعديلها، مع العلم أنّ الطبع والفطرة لم تحتج الى عروض وإنما جاء العروض ليطبق عليها. فمعرفة العروض لم ولا تخلق شاعراً، وقد كتبتُ كثيراً من قصائدي الأولى دون أن يكون لي دراية بعلم العروض وجاءت موزونة على الفطرة. وكتابة الشعر لها طقوس فلا تأتي حسب الطلب، والمناسبة، فجرير كان يكتب قصائده ليلاً، فيشعل سراجه ويعتزل،وكان الفرزدق يركب ناقته ويطوف منفرداًفي شعاب الجبل، وبطون الأودية والأماكن الخربة الخالية فينقاد له الكلام. أما ابو نواس وأبو العتاهية فكانا يستعينان بالشراب، وهكذا فلكل شيخ طريقته.
ومن الشعراء المعاصرين من يشرب القهوة ويكثر من التدخين، ومن يسير وحيداً على شاطئ البحر،ومنهم من ينظم في ضجيج المقهى ، ومنهم من يحب أن يشعر أنه مستيقظ والناس نيام،ومنهم من يحب الاستماع الى الموسيقى الهادئة أو الى أغاني فيروز ومنهم من يحب أن ينظر في وجه عشيقته أو يستحضره..وكان فيكتور هيجو يحب الكتابة عارياً. وكان بوشكين يعشق الكتابة في الخريف . وقال نزار قباني في ديوانه " طفولة نهد " إنه كان يقوم بتهيئة الأجواء المناسبة للكتابة فلا يفتح الله عليه بحرف واحد ، حتى تنوبه تلك النوبة التي تدفعه الى قول الشعر.وقد دعا ذلك بالهنيهة الشعرية. وقد تجف قريحة أحد الشعراء لسنوات وهذا وضع طبيعي. واعلم أن الشاعر حينما يكتب قصيدة فإنه يجابه شخصيته وجهاً لوجه في رحلة صراع مخيفة تنتهي بسكون.
ومن الشعراء من يكون ساحراً بإلقائه ولكن شعره لا يمتلك المصداقية ، فيكتشفه المتخصصون ويمتعضون لانجذاب الجمهور الساذج له. فكتابة القصيدة شئ وإلقاؤها على جمهور بذاته شئٌ آخر كليةً.
ومن الشعراء من يكتب لأنه يشعر بأن قصائده سوف تخلّده عندما يغيب عنا، ومنهم غزير الانتاج يكتب في اليوم الواحد عدة قصائد وعادة تكون مفتعلة، لا روح فيها ولا خيال روح، وهي استمرار لتكرار تجربة الجيل الذي سبقنا، بل تكرار ضعيف لأجيال قديمة ، فمن يستطيع اليوم أن يكتب بمستوى الجواهري روحاً ولغة مقلداً المتنبي؟؟
" الصناعتين" وفحولة الشعراء
فمن يطّلع على كتاب فحولة الشعراء للأصمعي وكتاب " الصناعتين" لأبي هلال العسكري ، وصولاً الى ابن رشيق وحازم القرطاجني يجد أن النقاد العرب القدامى قد تحدثوا في الطبع والصّنعة بوصفهما مصطلحان مثل احدهما اوكلاهما حجر الزاو يةٌ في النتاج الأدبي ، فالطبع باعث على النظم لانه الموهبة الفطر ةٌ والملكة التي تمكن الادب من ذلك. والموهبة تغذيها الدربة ، والثقافة تلهمها البيئة الخصبة.
وقد عنوا بالطبع الموهبة أو القدرة الفطرية على فنّ القول نظماً أو نثراً،وهي تأتي من فيض إلهي بغير تعلُّم ، فمن حرمه الله منها فلا يتعبنَّ نفسه فهو لن يكون شاعراً . ويوصف بعض الشعراء بأنهم مطبوعون وقد كانت هذه الكلمة تعني في الأصل "شعر الفطرة"، ذلك الشعر الذي يعبرعن حالة قائله فيؤثر في نفوسنا بسهولته وقرب مأخذه، وبوسعنا أن نتخذ من شعر البحتري نموذجا للمطبوعين من الشعراء وأن نتخذ من أبي تمام نموذجا للصنعة ،لأن أبا تمام شديد التكلف، صاحب صنعة، ومستكره الألفاظ والمعاني .. وفي الشعر قالوا إن لكل شاعر شيطان، وربطوا نتاج الشعر بمصطلح آخر وهو العبقرية ، مما يدل على أن الشعر إلهام، لأن عبقراً في أساطيرهم هو وادٍ للجنّ.وقد قال أرسطو إن الشعر إلهام ، وقال إن الصنعة وحدها لا تفلح والإلهام وحده غير كافٍ، ولا بد من اجتماعهما لدى الشاعر الحقيقي. فالصنعة مطلوبة أيضاً ، ويدخل فيها ثقافة الشعر ، فاختلاف مشارب الشعراء وثقافاتهم تولّد لنا أشعاراً متباينة من حيث القوة والضعف وغزارة الفكرة وأسلوب نقل الأحاسيس. كأن يضع الشاعر لفظته في موقعها الصحيح ويختارها اختياراً موفقاً لا مكرهاً اياها في مكان لاتصلح له من أجل القافية مثلاً، فيصبح شعره متكلفاً متصنعاً غير صادر عن طبع صحيح، ويهتم بزخرفة الصور الجاهزة . لذلك كان ضلوع الشاعر في لغته العربية ضرورة أساسية لا حياد فيها، وأن تكون له أذنٌ موسيقية تتغنى بالعروض وتميز بين بحوره بسلاسة، فيختار لشعره بحراً ملائماً سلساً .ولا بد للشاعر من التدرُّب على قول الشعر والتجريب فيه حتى يستقيم له الأمر. كذلك من أساسيات هذا الأمر ثقافة الشاعر الأدبية والعامة.
لذلك قال الأصمعي عن شعر لبيد إنه جيد الصنعة ولكن ليس له حلاوة، ولم يُعدَّ من الشعراء الفحول.
ومن الشعر الجيد المطبوع قول الشاعر:
ما زال يلثمني مراشفَه … ويعلُّني الإبريقُ والقدحُ
حتّى استردَّ الليل خلعتَه … ونشا خلال سوادِه وضَحُ
وبدا الصَّباح كأنّ غرّته … وجهُ الخليفة حين يمتدحُ
والطّبع عند ابن السّكيت، هو النّهر في امتلائه
فالنّهر سمته الجريان والتّدفق والانسياب، والطبع كلك هو حياة الشعر التي تمدّه بالإبداع والتّفوّق.
وقد يكون الشاعر مطبوعاً غير متكلف ، ولكن يبقى شعره بحاجة الى تنقيح وتهذيب مما يدل على تمكّنه من الصنعة في الأداء الشعري. وفي النهاية فالصدق في التعبير عن الإحساس هو أساس الطبع الذي يقوم عليه الشعر.
ومن المهم الإشارة الى أن لعنصر الخيال عند الشاعر أكبر الاثر في تكوين عمل فني متكامل العناصر فالخيال هو الذي يظهر قوة الطبع والصنعه عند الشاعر، والخيال هو أهم ما يظهر العملية الابداعية عند المبدع ويحدد مدى تمرسه وحذقه بفنه وهذا ما لم يهتم به النقد العربي القديم علي الرغم من أهميته.
ملاحظة: الموضوع حلقات أخرى
شكرا
نستطيع أن نقول أن الشاعر المطبوع هو الذي يستجيب لطبعه عن طريق قوى الاستعداد الابداعي لديه أضافة إلى دور البيئة والنشأة
والشاعر المصنوع قد لا يمتلك قوى استعداد كافية دونتها البيئة مثلا يفاجأ إلى أسس العبقرية والروية والدراية ليصل إلى إنتاج عمل أدبي متقن