إنه إنسان مثلك!
تاريخ النشر: 15/09/13 | 7:35الإنسان أخو الإنسان؛ محتاج بالضرورة الحياتية إلى التعامل معه، وليس بمقدوره أن يعيش مفرداً.
فهو مدني بالطَّبع..
يصدق هذا على المصالح الدنيوية: العمل، والتجارة، والزواج، والسفر، والدفاع، والهجوم، والمعاملات المختلفة..
سواء كانت معاملات معاوضة أو إرفاق، وسواء كان في اختلاف أو اتفاق.
ويصدق على المصالح الأخروية؛ كالصلاة، والحج، والجهاد..
ويمكن فرز مستويين مختلفين من العلاقة الإنسانية:
1- علاقة طويلة: العلاقة الأسرية، والزوجية، والشراكة، والصداقة والجوار.
2- علاقة عابره: كأن تقابل إنسانا عرضاً في سوق أو طائرة أو مجلس وتنتهي تلك العلاقة بانتهاء السبب.
كما يمكن فرز نوعين متعارضين من العلاقة:
1- علاقة وديَّة قائمه على التَّساعد والصحبة وروح الفريق.
2- علاقة ضديَّه قائمه على التناقض، والمباعدة، والخصومة أو العداوة.
في جميع الحالات تفتقر العلاقة -حتى لو كانت حرباً ضروساً- إلى معرفة نفسية الطرف الآخر، ودوافعه، وكيف يُفكِّر.
حين تعرف أن الإنسان الذي تواجهه هو بشر مثلك من حيث الجنس، فهذا يعني أن تتعامل معه بالطريقة التي تحب أن يعاملك الآخرون بها، «وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ».
وربما اختصر هذا عناءً طويلاً، ووفَّر وقتاً وجهداً، على أنه يحتاج إلى تدريبٍ طويل، ومراسٍ مستديم، ولذا جاء في التنزيل: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً)(النور: من الآية12)، (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)(الحجرات: من الآية11)، فمهما ظنَّ الإنسان بأخيه سوءاً فكأنه ظنَّ بنفسه، وإن لمز فكأنه يلمز نفسه.
المعرفة العامة بالطبيعة البشرية تؤكد لك أن الناس (مثلك)، يُحبون من يبتسم لهم، ويمنحهم التقدير والقيمة والأهمية والاحترام، ويُنصت لهم جيداً، ويتعاطف مع مشكلاتهم، ويتعاطى مع همومهم؛ يريدون من يفرح لنجاحاتهم وإنجازاتهم مهما بدت صغيره، ومن يُقدِّم لهم الدَّعم والمساندة والمؤازرة.
بصفة عامة يحبون الإنسان اللطيف الهادئ الليِّن.
ويكرهون الصَّلف العنيف «الْحُطَمَةُ»، كما سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه يحطم الناس، ولا يقيم وزناً لمشاعرهم وأحاسيسهم، ولا يراعي انفعالاتهم النفسية، ولا يؤدي حقوقهم، بينما يطلب حقه كاملاً موفوراً.
وثمَّ قَدْرٌ أخص من المعرفة بالإنسان الذي تعامله مبني على قياسه مع شخصك وظرفك الخاص وميلك وهو أمر زائد على الطبيعة العامة للبشر.
أنت عانيت ظروفاً في طفولتك، وواجهت تحديَّات، وارتكبت أخطاء، وورثت طبعاً ومزاجاً من والديك، وتعرَّضت لنمط خاص من التربية والتعامل؛ في البيت، وفي المدرسة، وفي الشارع.. وانعكس أثر بيئتك الخاصة على نفسيتك، وانفعالاتك، ومزاجك؛ فأنت عالَم متفرد فيه ما تحب وما لا تحب، وما تخفي وما تعلن، وما تفهم وما يستغلق عليك فهمه من نفسك.
وَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ
الناس كلهم كذلك، وحين تفهم هذا جيداً سيزول عنك الاستغراب من تصرّفاتهم، وتتسع لديك دائرة العذر.
من يتعامل مع الناس جميعاً وكأنهم نمط واحد، وينسى خصوصية كل فرد منهم وتميّزه لا يُفلح، وسيظلمهم ويظلم نفسه.
وثَمَّ قَدْرٌ من المحاسنة والطيبة والاحتواء يصلح للناس جميعاً إلا من أبى.
لم يكن غريباً ولا مفاجئاً أن تتكاثر نصوص القران في الدعوة إلى (الْحُسْنَى)، و(القول الكريم) و(الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، و(الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)، و(اللِّين)، و(التثبُّت)، و(التَّبيُّن)..
والنهي عن (الفظاظة)، و(الغلظة)، و(الأذى)، و(سوء الظن)، و(الجهالة) و(اللَّغْو)..
ويُستثنى من ذلك حالة الحرب؛ التي تقتضي بطبيعتها اللجوء إلى القوه والإغلاظ والشِّدة، (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)(محمد: من الآية4).
ولم يكن غريباً ولا مفاجئاً أن تكون السيرة النبوية العطرة تفسيراً عملياً بشرياً يؤكد أن تلك التعاليم ليست في فلك المثالية والتَّنظير الطائر، بل كان خُلُقه القرآن، وهكذا كان (الخُلُق)؛ الذي هو فن التعامل مع الآخرين دليلاً عملياً على أن التحقيق العملي لهذه المبادئ الرفيعة أمر ممكن ومقدور، بل و(يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ).
رجل من العرب عاش في أم القرى، ونشأ في مجتمعها القَبَليّ، ورضع في صحرائها، وقدَّم المثل الرائع في الصبر واحتمال الأذى وتجاوز العقبات، ثم في النجاح في الميدان العملي، والتخطيط السليم، والرؤية البعيدة، ثم في الصفح والتسامح وطيّ صفحة الماضي، ورفع شعار العفو، وأفلح في استيعاب من حوله حتى من خصومه وأعدائه بالأمس.
ليُبيِّن لنا أن لا عذر لأحد في الاحتجاج ببيئته وظروف من حوله، أو الانسياق مع موروث اجتماعي ميال للشِّدة والقسوة والمصادرة، متهيئ للقطيعة وإعلان الحرب، وسرعة التصنيف، ولذة الاتهام.