من سيــرتـــي الذاتيــــة- صفحات التدريس في الثانوية
تاريخ النشر: 18/09/13 | 2:24بدأت أتلقى هذه الأيام دعوات لإلقاء محاضرات في مدارسنا الثانوية عن الشعر عامة وشعري خاصة، وعن اللغة العربية ومكانتها.
وصدقًا فإنني أسر بهذه اللقاءات التي تجمعني بأساتذة وطلاب قريبين إلى القلب، ثم إن فيها حضورًا وحنينًا وإحساسًا بالتجدد.
ارتأيت اليوم أن أتابع مع من يتابع صفحاتي في التربية والتعليم، لأصحبه مع مرحلة تدريسي لطلاب مدرسة باقة الثانوية.
*كيف عينت بصعوبة؟ وكيف كنت ملاحقًا؟
*كيف عينت نفسي مديرًا؟ وكيف عانيت؟
*عن تجربة كتابي الساخر "أستاذ قد الدنيا"!!!!
*علاقاتي مع المعلمين؟
*علاقاتي مع الطلاب؟ ونهجي في التربية!
…………………………………………………………………………………
صفحاتي في التربية والتعليم:
المرحلة الثانوية
***
لم يكن لي ميسورًا أن أعلّم في المدرسة الثانوية. فقد كنت أُجابَه بمعارضة سواء من وزارة المعارف أو من المجلس المحلي، بحجة أنني لا أحمل شهادة جامعية. وكنت أتضايق إذ أجد الآخرين ممن لا يحملون الشهادة ولا يحسنون العربية يعلّمون. فبعضهم كان قد ارتاد الجامعة اسميًا، وما كان منهم إلا ان عينوه، حتى قلت يومها متذمرًا وساخرًا:
اذهب إلى القدس صيِّفْ للمداراة إن كنت تنشد فرع الثانويات
يكفيك من قشرة في العلم تلحسها واللب،ما اللب؟ محشو تفاهات
ما أنت أول أستاذ أخي جهل ما كان يعرف ترتيب العبارات
في قصة الطبل ضخم الصوت معتبر هل حصل الكلب شحمًا في المعاناة؟
لذا فلا بد من أن ألتحق بالجامعة.
ومع أني حصلت على شهادة B. A، والتحقت لدراسة الماجستير في الأدب العربي، فقد كان صعبًا علي أن الج هذا العالم السحري، وأدرّس الكبار.
قيض الله لي رئيسًا للمجلس المحلي – متنورًا هو الأستاذ محمود بيادسة، وقد أصر على دخولي الثانوية للتدريس فيها، وذلك في 1/9/1974م، ومع ذلك فقد كانت هناك عقبات وعراقيل، ولم يُسوَّ الأمر إلا بعد وفاة زميل آخر، فشغرت الوظيفة.
عرفت يومها أن الإخلاص والمعرفة لا يكفيان، بل يجب أن يكون لك سند أو ظهر، هو الذي يأخذ بيدك للمكافآت والوظائف والاستقرار.
كنت خلال عملي عرضة لاتهامات هذا الرئيس أو ذاك (فقد كان الرؤساء يتغيرون تباعًا حسب الائتلاف القائم، وما أكثر الانقلابات أيامها)، فهذا رئيس يطلب من المفتش أمامي أن يفصلني، لأنني دعوت إلى إضراب بسبب تأخير الرواتب – وبسبب كوني عضوًا في لجنة المعلمين، وهذا قائم بأعمال الرئيس يدعم مفتشًا آخر هددني بالفصل – لأنني سأسافر خلال الأيام الدراسية إلى ألمانيا – بدعوة من نقابة المعلمين – وكنت قد قزّمت محاولات هذا المفتش، وما جرؤت على ذلك لولا أنني كنت أعرف موافقة المعارف الرسمية على ذلك.
عندما تسلم الأستاذ جميل غنايم إدارة المدرسة الثانوية كنت مساعدًا له، وتصديت معه لكل محاولات فصله (تبعا لانقلابات المجلس). كنت أقول:"جميل أولاً وأنا ثانيًا".
وكان هذا الشعار/ الموقف يضايق الكثيرين، فقد اعتادوا أن يطالب الإنسان لنفسه أولاً، أما أن يطالب لآخر فهذا هو وجه العجب؟!
انتخب أحد أبناء عائلتي رئيسًا للمجلس المحلي، وقد شاء قريبي أن يعين مديرًا آخر بدلاً من جميل، فوقفت ضد هذا القرار رغم كل محاولات الإغراء بالمنصب (نائب مدير) أو بالساعات (تخفيض ساعات العمل الفعلية).
عين المدير الجديد، لكني أصررت وبدعم نقابي أن نواصل معارضتنا للجديد، ففي اليوم الدراسي الأول 1/9/1980م. كان ثمة برنامجان دراسيان – برنامج أعده المدير الجديد، وآخر أعددته أنا باسم مديرنا القديم، فأخذ يدخل الصف أول كل حصة معلمان، فيحدث أن يتنازل الواحد منهما للآخر، وقد يحدث أن يكون هناك شبه مشادة كلامية على مسمع الطلاب ومرآهم.
على إثر ذلك اتصلت بمكتب المعارف في القدس لأخبرهم عن هذا الوضع المضحك المبكي، لكنهم أجابوني بحدة:"لا يعنيك ولا تتدخل!!".
أحسست أن هناك من يكيد لمدرستنا، وكان العراك على وشك أن يقع يوميًا لولا أن صدر قرار محكمة العمل يحظر على المديرَين أن يديرا المدرسة، إلى أن تبتّ المحكمة نهائيًا، وقد كُلف مدير مدرسة ابتدائية أن يضع البرنامج ويشرف على المدرسة الثانوية.
واظب المدير المكلف بضعة أيام، لكنه كان مشغولاً بأمور أخرى، فقلت في نفسي: أمامك حكمة من التلمود فاستثمرها يا فاروق:-"إذا لم يكن هناك رجل فحاول أن تكون".
اتفقت مع الزملاء – باستثناء ثلاثة منهم – على أن أكون أنا الذي يضع البرنامج ويدير المدرسة. وهكذا عينت نفسي مديرًا طيلة ثلاثة أشهر،عملت فيها تطوعًا،بدون أجر أو ساعات أو اعتراف رسمي. وبدا الأمر وكأنني سأستمر في عملي مديرًا.
دعاني الأستاذ علي حيدر – نائب مدير المعارف آنذاك للقاء معه، قال:
"أود أولاً أن أحييك… ومع ذلك فأنا أقول لك إنك مجنون،
أحييك لأنك قدت وتقود سفينة في بحر عاصف، ومجنون لأنك تفعل ذلك بدون أية مكافأة أو اعتراف".
سُوِّي الأمر بين المديرين في المحكمة، فالسابق عين مديرًا تربويًا، واللاحق مديرًا إداريًا. ورغم أني دعوت كليهما إلى غداء مطهم للمصالحة بينهما، إلا أنني خرجت من كل هذه المعمعة بلا حمد يذكر، أو كما يقولون:" من المولد بلا حمص".
علمتني هذه التجربة القصيرة أن هناك من المعلمين من يدّعي الإخلاص، ولكنه لم يكن يفكر إلا في آخر الشهر، وفي الخصم أو الحسم الذي كان، وأن هناك من يتذرع لكي يتغيب، وهناك من يستعلي على طلابه – ويا أرض اهتزي – وهناك من يرى أن مجرد التحضير للدرس هو جريمة منكرة،فهو أستاذ الأساتذة!!!
كادت هذه التجربة القصيرة أن تودي بي، ففي يوم توزيع الشهادات حدثت فوضى لا مثيل لها بين الطلاب، إذ كان المعلمون حاضرين غائبين، وألفيت نفسي وحيدًا أصول وأجول، إلى أن شعرت بدوار شديد، فأمسكت بالجدار خوفًا من السقوط. أدركني معلم الرياضة، وهدأني وهو يقول:
"وهل أنت تصلح ما أُفسد الدهر؟! كن مثلنا، وراقب من بعيد،وأرح أعصابك….!!!".
***
في سنة 1978 بدأت أنشر في مجلة "صدى التربية" حلقات تحت عنوان"أستاذ قد الدنيا"- وهي لوحات أدبية ساخرة تتناول تدريس المواضيع المختلفة، وأنهيتها بمذكرات معلم، المدير يتحدث، المفتش..،مدير المعارف (وهذه الحلقة الأخيرة لم تنشرها المجلة).
وقد جمعت هذه الحلقات بين دفتي كتاب"أستاذ قد الدنيا" الصادر عن مطبعة كفر قاسم سنة 1979، وقلت في تصدير الحلقات:
"أرمي من وراء هذه الحلقات إصلاح أنفسنا، فمن يقصّر فينا فعليه أن يعتبر، ولنكن صرحاء ونقول: ما من أحد يمنع المخلص أن يعمل، إذن لماذا نهمل ولا نفتأ نتهم، وقبل أن يسيء فهمي أحد أؤكد أن كل الجهات بما فيها وزارة المعارف مقصرة، وقد أشرت إلى ذلك في أكثر من مقال".
وقراءة في هذا الكتاب بلوحاته الكاريكاتيرية (من رسم عمر سمور- طولكرم) تنبئك عن وضع التعليم العربي في إسرائيل. كنت أتناول موضوع تعليم الرسم مثلا، فأقرأ في المصادر كيف يجب أن يكون، ثم أركز هذه المعرفة والثقافة التربوية على لسان معلم الرسم لدينا، فأجعله يسخر ويستهزئ، وسلاحه ما يجب أن يكون أصلاً، فهو يحبذ خلاف ذلك حتى تظهر المفارقة، فقد جعلته يجلس إلى طاولته ويستريح، ويطلب من الصغار أن يرسموا رسومًا حرة.
وقس على ذلك في سائر المواضيع!
ومن مثل هذه السخرية المرة كتبت في موضع آخر:
* مدارسنا كالمدارس اليهودية مزودة بالمختبرات والمكتبات والأبنية اللائقة.
*مدارسنا تعمر بالتعليم اللامنهجي، وفيها الخدمات السيكلوجية والاستشارة التربوية.
*المعلمون لدينا يُنقلون ويعينون حسب أصول عادلة وصالحة، ولا دخل في ذلك للمحسوبية، كما لا تتدخل مؤسسات وأشخاص لا علاقة لهم بالمعلمين في تثبيت أو تعيين أو فصل أو نقل.
* الرجل المناسب دائمًا في المكان المناسب، لذا لا تجد أشباه أميين وأنصاف مثقفين في إدارة المدارس… الخ".
وأظن أن هذا الكتاب الفريد في بابه يعكس إلى حد بعيد مآسي التعليم العربي سابقًا ولاحقًا، ونحن بحاجة إلى إعادة طبع بسبب جرأته، أو بالكتابة على منواله بصورة أو بأخرى، وحبذا إضافة هذه الأبيات التي عرفتها بعد صدور الكتاب، وهي من شعر أبي صدام –عبد الرحمن كبها:
ما رأى شاعرنا بعلم معلم جعل الحجاز تحده أنغولا
وبأن فعل الأمر من يرجو رجا وتعال في الماضي يقول تعيلا
هيا أعيدوا للمعلم شأنــــه أو فاقبلوه مجهِّــلاً وجهولا
* * *
أما علاقاتي مع المعلمين فكانت غالبًا ودية، أنفتح على الآراء مهما اختلفت، وما أفكر به أقوله دون تردد، لذا كنت أحيانًا أصطدم بمناكفات ومشادات كانت تؤلمني جدًا.
ومع ذلك قلت لنفسي – لن أنشغل بهذه الخلافات العابرة، لأمض، سيكون ردي على من لا أعجبه- تقدمي العلمي والأدبي!
وها هي كتبي تنشر ومقالاتي تظهر.
لن أتضايق من هذا المعلم الذي يصر على أن يحصل على نفس حقوقي في البرنامج الدراسي – رغم أنه لا يحمل أية شهادة، ولن أغضب لأن ذاك المعلم احتج لأنني أنصرف مبكرًا لمواصلة تحصيلي العلمي.
وكم من مرة جابهني الزملاء بموقف موحد، وبقيت في حكم الأقلية – رغم أنه ثبت لهم أني على حق.
وثمة مرارة في نفسي أطعمها حين أتذكر أنني عندما تقاعدت وأنهيت العمل في المدرسة الثانوية – المدرسة التي أعطيتها الكثير جهدًا وبناء – عندها لم ير أحد ضرورة لتكريم أو ثناء.
***
أما علاقاتي مع الطلاب فهي خلاف ذلك. كانت علاقة محبة وإعزاز.
كنت أحس بحبهم وحب ذويهم، فهم يعرفون مدى حرصي على فلذات أكبادهم، وكم أنا متحمس للموضوع الذي أعلمـه، بل كنت أتبادل الزيارات معهم.
عندما أنهيت عملي الرسمي في المدرسة الثانوية سنة 1991 دعوت طلاب صفي إلى قيسارية للقيام برحلة، فكانت الرحلة بتكاليفها، بل بالشواء والشراب فيها على حسابي.
فاجأني الطلاب يومها بتقديم مغلف كتبوا فيه انطباعاتهم الرقيقة التي احتفظت بها، وستظل مصدر اعتزاز لمعلم أحب طلابه وأحبوه، فقد كتبوا على الغلاف:
"إلى بابا فاروق"، ولا أدري لماذا تطفر دمعة حين أتذكر ذلك.
منذ بدأت التدريس كان حبي لطلابي عميقًا في نفسي، فقد حدث ذات مرة أن رسب أكثر طلاب صفي في امتحانات الثوامن (كان هذا الامتحان يجري لدعم خريجي الصف الثامن اقتصاديًا – لدى التحاقهم بالمدرسة الثانوية). أحسست أن طلابي مغبونون لسبب أو لآخر، وشعرت أنني أنا الذي رسبت، فكتبت قصيدة"خيبة وأمل"، وقلت فيها:
منارتي مخمودة الأعطاف
مرارتي يهمي بها
وقع السواد في الشغاف
مذ أخبروني أنني بلا قطاف
بمثل هذه العاطفة الذاتية أمضي قائلا:
يا أيها الصغار
يا أيها الأزهار
لا ضير إن كان الجفاف
لا بد أن ُيزجى الرواء
(نشرت في مجموعتي الأولى:"في انتظار القطار" – 1971)
ولا شك أن مجموعتي- "إلى الآفاق" المعدة للطلاب وللصغار فيها قصائد عن الطالب – هو الطالب الذي أطمح في أن يكون في مجتمعنا – وعن المعلم – ويبدو لي – اليوم – أنني كنت أصف نفسي فيها- :
وظلت شمعة كبرى تضيء لنا وتحترق
نساجلها تفانيها فيسطع ضوءها الألق
يحدثنا بأن الخير كــ ــل الخير في الإنسان
وأن العقل منفتح إلى التجديد والإيمان
ويدعونا إلى رفض لكل مسارب الظلم
يحب العدل خفاقًا ويعلي راية السلم
وسلَّمنا يصعــِّدنا إلى الآفاق ننطلق
نعانق قمة الدنيا بأيد نبضها يثق
(هذه القصيدة لُحنت وعُلمت في المدارس العربية – ضمن دروس الموسيقى)
كنت مقتنعًا بضرورة تعليم الطلاب على أسس ديمقراطية فيها الاحترام المتبادل، أدير حصة التربية بحماسة، وأحفز الطلاب على إبداء الرأي واحترام الرأي الآخر.
كانت حصة التربية غالبًا حصة متعة وإثراء. وكانت الرحلة التي أقوم بها مع طلابي مدروسة جيدًا تاريخًا وجغرافية، وقد وصلت في الديمقراطية إلى دعوة الطلاب أن ينادوني باسمي، دون لقب"أستاذ"، وألا يقفوا لي احترامًا عند دخولي الصف، ولكن ذلك كان موضوع تندّر، ولم يستمر بسبب الظروف والجو الذي كان يفرض العودة إلى تقاليدنا التربوية.
لن أختم هذا الحديث دون أن أذكر أنني كنت متهمًا بمحاباة الطالبات والتودد إليهن، وبالطبع فهذا فيه شيء، بل كثير من الصحة، لأنني بطبعي نصير للعنصر الضعيف في المجتمع، سواء أكان ذلك طالبًا فقيرًا أو طالبًا يتألب علية زملاؤه (ربما لأنني كنت كذلك في صغري)، وكنت أحس عميقًا بمدى اضطهاد المرأة في مجتمعنا، فكنت أقف إلى جانبها، ولا أنكر أن للجمال أثرًا يحتم مناصرتها، وهل الشاعر فيَّ يستطيع أن يعتم على ذلك، أو يعتم الضوء أيًا كان، ولكن ذلك لن يكون على حساب أي حق لطالب، فالحق حق.