تصبحين على خير يا مصر
تاريخ النشر: 27/03/16 | 0:44إنطباعات عن مصر الثورة ومعرضها للكتاب “الجزء الثاني”: تصبحين على خير يا مصر
فقط البطل الأسطوري الإغريقي هرقل استطاع أن ينظّف بعجالة أعجوبية ما تراكم على مدى عقود من القاذورات في اصطبلات أوجياس. فمن باستطاعته, وكيف, ولأية مدة يحتاج حتى يُخلّص مصر من المخلفات القذرة لماضيها؟ بما فيها تلك التي ما زالت تعيق إنطلاقها رغم ثورتَيْها في يناير 2011 ويونيو 2013.
هذا هو سؤال الأسئلة في مصر اليوم, أصطدمُ به في قرائتي لصحفها ولمجلاتها وفي حواراتي مع بعض مثقفيها وسياسييها ومع الناس العاديين البسطاء. وحول هذا يحتدّ النقاش في مقهى – خيمة – الكتّاب والإعلاميين, في “معرض الكتاب”, التي يأمها الناس الزوّار للمعرض.
يزداد علمي فيزداد تخبطي وجهلي. فأهرب الى فلسفة وجدليّة مصداقية الموقف ونقيضه أحياناً. وإلى أنّ في صحّة موقف فلان يكمن بعض الخطأ, وفي خطأ الموقف النقيض لِعَلنتان يكمن بعض الصدق. وأكاد أضيع بين صراعات المواقف والافكار. مصر ما زالت تسأل أكثر مما تجيب. ويكاد يشعر المستمع المراقب لصخب تناقضات مواقفها أنه في “برج بابل”.
بورك هذا البرج. بوركت هذه الانطلاقة للكلمة الحرّة, بعد عقود من أسسن وعفن الركود والتسطيح الديكتاتوري. لكن ها قد مرت خمس سنوات على اندلاع ثورة 2011, وثلاث سنوات تقريباً على عودة اندلاعها عام 2013, لاسترجاعها من خاطفيها الإخوان المتأسلمين. والاصلاح الثوري المنشود لم يتكامل بعد.
مرت خمس سنوات . تعاقبت خلالها على مصر سبع حكومات ورئيسا جمهورية منتخبان, وسُنّ دستوران وانتُخب برلمانان. واختفت أحزاب وتشكلت عشرات الاحزاب الجديدة. وجرى وضع العديد من خطط وبرامج إعادة البناء والاصلاح. لكن الهوّة ما زالت واسعة بين الحُلْم الذي فجّر الثورتيْن وبين الواقع المعيشي الصعب لصناع الثورة من الفقراء والمهمشين. حتّامَ؟ يتساءل الشارع المصري وما من جواب مطمئن في الأفق القريب جداً.
نحو إعادة تعمير مصر… يعيش 45% من سكان مصر تحت خط الفقر. وتقطن نسبة أعلى من هذا في أحياء وظروف سكنيّة لا تليق بحياة الانسان, بما فيها في العشوائيات والمقابر. وتصل نسبة العاطلين عن العمل الى 15%. أما الخدمات الصحّية والتعليمية فشبه منهارة. كذلك هي البنية التحتيّة, وفقر وشحّة شتى الخدمات الإجتماعية للناس. كل شيء في مصر مأزوم, بما فيه الجهاز الاداري المطبوع بالفساد والبيروقراطية القاتلة وبطىء التحرك والفعل.
وتفاقمت الأزمات بسبب الثورات وما رافقها وتبعها من احداث واعمال. تراجعت انتاجية العمل, وقل التصدير وزاد الاستيراد وتراكمت الديون الخارجية وفوائدها, وضُربَ الاقتصاد السياحي كليا تقريباً, وكذلك الاستثمار الداخلي والخارجي, إذ ما من أحد يسوح ويستثمر في بلد تتأكله القلاقل.
يعرف السيسي ووزراء حكومته (ليس كلهم!) الوضع المأساوي الموجود لإقتصاد مصر. وهو يفهم أن هنالك هوّة سحيقة بين تطلعات الناس الذين يريدون تحسين معيشتهم الآن الآن وليس غداً, وبين المقدرات الموضوعية للدولة على توفير هذا في ظل أهرام المشاكل الرابظة على صدر مصر من مخلفات الانظمة البائدة.
يعوّل السيسي على خطط التنيمة الكبرى وإعادة هيكلة مبنى الدولة ومحافظاتها ووزاراتها وأجهزتها, وإصلاح وتطوير الخدمات التعليمية والصحية. وهو يتحدث عن تنمية مستدامة ومتكاملة, بحيث لا يجري استثناء أي مجال, لأن الأزمة عامة. ولم يكن مشروع شق وتوسيع مسار قناة السويس لا أوّل ولا آخر المشاريع. وعلى محور القناة جهة الصحراء الشرقية حتى حدود القاهرة ستقام ثماني مناطق صناعية وعدة مدن وبلدات جديدة, عدا عن توسيع وتصنيع القديمة. هذا بالاضافة إلى إحداث قفزة في تطوير الإنتاج وتوفير الوقود والطاقة وبناء محطة نووية واستكمال كهربة البلاد وأريافها.
وكذلك بالنسبة لشق الطرق الواسعة وبناء خطوط السكك الحديدية للقطارات, وتحديث مصانع الحديد والصلب والنسيج, وإعادة بناء شبكة التجارة الداخلية وضمان توفير السلع الأولية للجميع وبأسعار مخفّضة, وتطوير وتوسيع شبكة الخدمات الاجتماعية. هذا عدا عن إستصلاح الأراضي, وتعمير سيناء, وانقاذ وتوسيع مجالات وعصرنة الزراعة, وإعادة إحياء السياحة, وبناء صناعة متطورة وحديثة للإتصالات وتكنلوجيا المعلومات. عملياً يجري الحديث عن إحياء وبناء وتطوير البلاد في كل المجالات.
الملاحظ الإيجابي هنا, عدا عن إعادة البناء والإحياء للانتاج الوطني, هو توسيع وتنويع التعامل والعلاقات الاقتصادية والتجارية مع شتى الأسواق والدول والقارات في العالم, وأولاً مع روسيا والصين. وليس باتجاه تبادل الاستيراد والتصدير فقط, وإنما أولاً باتجاه الاستثمار والتعاون لبناء مصر وتطويرها من خلال مشاريع اقتصادية واسكانية وصناعية وخدماتية وعلمية عملاقة. لم تعد امريكا وبعض الدول الاوروبية هي المتحكمة بسوق واقتصاد وسلاح وسياسة مصر… وحتى بعلاقاتها العربية والخارجية.
حلم الملايين… تمتلىء الصحف المصرية بعرض ومناقشة المشاريع التنموية الكبرى التي تطرحها الحكومة المركزية, بما فيها المشاريع في المحافظات وليس فقط المشاريع الوطنية العامة. يَعِد الرئيس السيسي بالنهوض بالبلاد كلياً خلال عقد على الاكثر, مع التأكيد ان التطور سيكون محسوسا سنة بعد اخرى. تثق الناس به – هذا ما شعرته ليس فقط من قراءاتي للمقالات العديدة في الصحف, بما فيها تلك النقدية, وانما ايضا من تبادل الأحاديث مع الناس.
الإنتقاد الأكبر والأوسع الذي قرأته وسمعته بحق السيسي يخصّ الطلب منه بأن يكون أكثر حدة وتصميماً على تخليص البلاد ووزاراتها ومرافقها من فلول الأنظمة السابقة ومن الفساد والبيروقراطية ومن تخريب “الإخوان”, هذا عدا عن وجوب التسريع في البناء ومحاسبة بعض الوزراء والمسؤولين الكبار الجدد الذين يواصلون إدارة مجالات عملهم بالنهج القديم إياه.
وهم يطالبون رئيس الجمهورية, رغم حبّهم وتقديرهم الفائق لجيشهم وإنقاذه لثورتهم, بالعمل على بناء دولة مدنيّة لا يحكمها ويديرها العسكر. ويقولون بصراحة إنهم لا يريدون العيش في دولة بوليسية تحكمها وتتحكم بها المخابرات وقوات الأمن, وانما في دولة مواطنيها التي يديرها ويحكمها مواطنوها المدنيون بحماية الجيش والشرطة.
يكتب رئيس حزب التجمع د. رفعت السعيد في صحيفة “الأهالي”, أن مصر تعبت ولا تريد ثورة أخرى. هي تريد من السلطة الحاكمة التي انتخبتها ان توفّر مطالبها المعيشية, والديمقراطية, والعدالة الاجتماعية. وهي تناشد السيسي ان يتخلص من عجز بعض الوزراء, وأن يُصغي أكثر لنداء ولحلم الملايين ولمطالبها الملحة. وإلا – (وهذا تحذير لا تهديد, وهو أوضح من واضح) – لصبر الناس حدود… وأرى وميض جمر تحت الرماد!
أمّا أنا فقرأت في الصحيفة أن عدد سكان مصر بلغ ال 93 مليوناً. وأنه بهذا يكون قد ازداد عددهم بعشرة ملايين إنسان منذ ثورة يناير 2011. هذا يعني أن معدل الزيادة السنوية يبلغ مليوني مواطن! فكم من مستشفى ومدرسة ومكان عمل ومسكن وطعام وشراب يحتاج هؤلاء سنوياً؟ وكيف بالأمكان توفير كل هذا لهم حتى ينمو ويعيشوا بشراً موفوري الكرامة الانسانية؟ هذا الى جانب توفير وضمان احتياجات الـ 83 مليونا (سكان مصر عام 2011) الذين ثاروا مطالبين بحقهم في الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية.
صوْت الميادين… تساءلت, إزاء كل ما سبق, إلى كم “هرقل” تحتاج مصر لتحقيق أعجوبة تنظيف “إصطبلاتها” من مخلّفات خمسة عقود ماضية من الظلم والفساد والإفقار والتجهيل والديكتاتورية والإتجار بالدين وتشويهه؟
أجبتُ: لا تحتاج إلى بطل فرد. الشعب في عصرنا هو البطل. وعلى الشعب أن يتصرف كشعب حتى يحقق حقوقه كشعب. ومن واجب الطلائع السياسية والفكرية لهذا الشعب أن تعمّق فيه ثقافة كوْنه هو السيد السائد والرئيس القائد. عندها سيكون رئيس الجمهورية بطلاً – هرقلاً بقدر اصغائه لصوت الشعب. عندها ستقع “عجيبة” إعادة بناء مصر وضمان نهضتها.
اجترح شعب مصر ثورتين عظيمتين خلال سنتيْن. هذا العملاق الذي حطّم القمقم وانطلق, هذا “الغوليفار” الذي قطّع أحبال الاقزام التي ربطته وقلع اوتادها – مساميرها التي أدمته, وفهم قدر نفسه وذاق طعم الحرية… لن تستطيع أية قوة سالفة إعادة تكبيله. زغردن يا نساء مصر !
آويتُ الى فراشي في غرفة الفندق المشرف على ميدان التحرير. غفَوْتُ. تراءت لي في حلمي حشود من الجماهير تتدفق نحو الميدان. سمعتُ صوت هتافاتها: “السيسي رئيسي والثورة سيدو وسيدي”, و “الجيش والشعب إيد واحدة”. و “دولة دولة مدنية مش خلافة اخوانيّة” و “مش دولة بوليسية”…
كان الهتاف عالياً. أنا متاكد انه وصل مسامع الجيش في ثكناته, والرئيس في مقَر رئاسته… تصبحين على خير يا مصر!
(يتبع….)
سميح غنادري