لا ضرر ولا ضرار في الحج
تاريخ النشر: 21/09/13 | 5:33جاءت شريعتنا الغراء لرفع الضرر، ليس عن المسلمين فحسب، وليس على الناس فقط، بل رفعت الضرر عن المخلوقات على ظهر الأرض كافة، بل لا نكون مبالغين إن قلنا عن الكون كله ما فيه ومن فيه.
فرفعت الضرر عن المسلمين بوضع التشريعات والقوانين التي تحفظ على الناس دينهم ونفوسهم، وعقولهم وأعراضهم وأموالهم، وجعلت هذا من الضرورات أو المقاصد الأساسية التي جاءت الشريعة بحفظها.
ونظرية الضرر في الشريعة الإسلامية بناء محكم، وعمل منظم، وطرق عملية تعمل كلها وفق منظومة متكاملة لرفع الضرر.
فليست الشريعة الإسلامية توجيهات نظرية، ولا خطب وعظية، ولكنها أحكام عملية يجب تطبيقها حتى يأمن الناس على نفوسهم وأعراضهم وأموالهم.
وهذه النظرية تعتمد على أدلة متعددة، من القرآن والسنة، كما تفرعت عنها قواعد أخرى معضده ومفسرة لها.
يقول الله تعالى: (…لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ…) البقرة: {233}
ويقول الله تعالى: (… وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا…) البقرة: {231}
ويقول الله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) الطلاق: {6}
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرار)
وتفرعت عن هذه الأدلة قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) و( الضرر يزال) و(الضرر لا يزال بالضرر) (الضرورة تقدر بقدرها)…
وهذا الضرر إن كان منهيا عنه في الحياة العادية فهو في مجال العبادات أشد، حيث إن الله لا يقبل من عباده أن يتقربوا إليه بما فيه إيذاء أو ضرر بأنفسهم، أو ضرر بآخرين، يقول الله تعالى: (… وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) النساء: {29}.
ويقول تعالى: (…وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة: {195}
وإن كان الله -تعالى- حرم علينا الضرر بصفة عامة فهو في باب العبادات أوجب، لأن الله لا يتقرب إليه بالمعاصي، ولكن بالطاعات حتى تكون مقبولة عنده سبحانه وتعالى، ويمكننا ذكر بعض الأمثلة التي تقع أثناء فريضة الحج، أو قبلها وبعدها، وهذا على سبيل المثال لا الحصر، ويمكن لكل مسلم عاقل أن يقيس عليها.
تأشيرات الحج بالرشوة!
كثير من الناس تدفعهم الرغبة في أداء الفريضة، أو تكرار الحج والعمرة إلى الحصول على التأشيرات بغير وجه حق، ويضطر للكذب، ولدفع الرشاوى المتعددة، وظلم البعض من أجل الحصول على تأشيرات الحج والعمرة.
وينسى هذا المسكين قول النبي فيما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا" وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)؟؟!!.
ونحن نسمع -بسبب المغالاة في تكلفة الحج وغير ذلك- عن تحايلات كثيرة، وعن تزييف في أوراق رسمية، وكذب، ودفع الرشوة من أجل أن يحصل المسلم على فرصة لأداء هذه الفريضة، حتى لو كان ذلك سيترتب عليه ظلم لزملاء العمل، فيحج الرجل عن طريق البعثات الرسمية عدة مرات، ويترك زملائه الذين لا حيلة لهم دون حج!!.
وكل ذلك حرام، وأكل لأموال وحقوق الناس بالباطل، والنية الحسنة، وحب أداء العبادات لا يشفعان في أكل حقوق العباد.
ومن رحمة الله تعالى: أن جعل الحج فريضة على القادر، فمن قدر على الحج فليذهب إليه بالطرق المشروعة، وإن عجز عن ذلك فلا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، ولينتظر حتى ييسر له طريقا مشروعا لأداء هذه الفريضة الغالية.
التدافع والتزاحم والتقاتل!
ينشأ في الحج والعمرة أيضا نوع من التدافع والتزاحم والتقاتل بسبب الحرص الزائد، وعدم الفقه بأحكام الحج، وعدم ترتيب الأولويات، وفهم الرخص التي شرعها له رحمة بعبادة، فنرى التقاتل حول تقبيل الحجر ولمسه، وربما يحدث من جراء التزاحم، احتكاك الرجال بالنساء، وإيذاء الشيوخ والمرضى، بل ربما أدى ذلك إلى قتل النفس التي حرم الله -تعالى- قتلها بغير حق في كتابه الكريم في أكثر من موضع، وقد نظر النبي إلى الكعبة فقال: (لقد شرفك الله وكرمك وعظمك والمؤمن أعظم حرمة منك).
وديننا يسر لا عسر فيه، وقد أباح لنا المحظورات عند الضرورات، فلا يجوز لمسلم من باب حرصه على أداء السنن والنوافل أن يرتكب المحظورات والكبائر، وحقوق العباد مبنية على المشاحة، ولقد نهى النبي عمر بن الخطاب أن يزاحم الناس على الحجر حتى لا يؤذي أحدا.
وقد رجح العلماء المعاصرون الرأي الذي يقول بتوسعة وقت الرمي، فيكون في أي وقت من النهار أو الليل، والطواف أو السعي في الأدوار العليا إن تعسر الطواف أو السعي في الدور الأول، وتوكيل الحاج من يرمي له الجمرات إن عجز عن رميها بنفسه لكبر سنه أو مرضه.
وعلى المسلم أن يأخذ بأيسر الآراء حتى لا يؤذي نفسه أو غيره عند أداء المناسك، وعلى العلماء أن يفتوا المسلمين بالأيسر ويتركوا التشدد، حتى لا يشقوا على الناس، فما سئل النبي عن شيء قدم ولا أخر في يوم النحر إلا قال افعل ولا حرج.
عدم الاحتياط عند العدوى والمرض
في ظل ما نسمعه عن انتشار الأمراض المعدية كإنفلونزا الخنازير وغيرها، على المسلم أن يأخذ بكل الأسباب التي تمنع من الإصابة بالمرض أو نقله للغير، ومن تعاليم الإسلام أنه حثنا على عدم إلقاء النفس للتهلكة، ومنها نعلم أن الوقاية خير من العلاج، وكما تقول الحكمة الصائبة "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، وبهذا وردت الأحاديث النبوية الشريفة، روى البخاري ومسلم بسندهما عن رسول الله : "فر من المجذوم فرارك من الأسد"، وروى مسلم بسنده عن رسول الله : "لا يورد ممرض على مصح" وروى البخاري عن رسول الله : "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها".
عدم الاهتمام بالنظافة
رابعا: بعض المسلمين لا يعتني بموضوع النظافة، فيلقي بالمهملات في أي مكان، ويأكل ويشرب بالطريقة التي تؤذي الآخرين، ويلوث أماكن الوضوء وقضاء الحاجة، والإسلام الحنيف يدعو إلى الطهارة ويحث عليها، ففي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطهـور شطر الإيمان".
وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "اتقوا اللاعنين: الذي يتخلى في طريق الناس، وفي ظلهم"، وفي حديث آخر رواه أبو داود، وابن ماجه: "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل".
سوء الخلق عند أداء المناسك
قد يسوء خلق بعض الناس خاصة في الزحام الشديد، ونتيجة للتعب أثناء مناسك الحج، فيؤذي المسلمين حتى صَحَّ عن النبي أنه قال: (إنما بُعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاقِ).
وقد أرسى النبي -صلى الله عليه وسلم- دعائم الأخلاق ورفع مكانتها فيقول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود وغيره: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم).
وروى الترمذي بإسناد حسن عن جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون قالوا: يا رسول الله ما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون).
فعلى المسلم -إن كان حريصا على سلامة حجه- أن يكظم غيظه، ويعفو عن الناس، ويكون من المحسنين.
أطنان من الهدايا!
عند العودة من الحج عادة ما يرجع الناس بأطنان من الهدايا والمشتريات، وهذا يؤدي إلى الإضرار بالآخرين حيث تزيد هذه الأحمال على الطائرات والبواخر والحافلات التي تنقل الركاب ليعودوا إلى أوطانهم، وقد يظن الإنسان أنه حر في ماله يفعل به ما يشاء، ما دام لن يشتري حراما، ولكن الأمر أعمق من هذا حيث تؤدي هذه الأحمال الثقيلة إلى خطورة على أرواح الناس، وتأخير في سرعة الإجراءات التي تتسبب في الوقوف ساعات في المطارات والموانئ، وقد يشق هذا مشقة بالغة على كبار السن والمرضى، وقد أرشدنا النبي أنه لا ضرر ولا ضرار، وقد ذهب الناس للتخلص من أثقال الذنوب، ولا مانع من حمل الهدايا ولكن بالحجم المسموح به حتى لا يثقل على نفسه والآخرين.
هذه كما ذكرنا أمثلة سريعة، ليست هي كل ما يحدث من أضررا في الحج قد تؤثر على صحة الحج، أو تقلل من ثوابه، ونسأل الله لنا وللمسلمين حجا مبرورا.