دع المكارم لا ترحل لبغيتها
تاريخ النشر: 05/04/16 | 5:18من الأبيات التي أثارت اهتمامي بيت ورد في قصيدة للحُطَـيئة هجا فيها الزِّبْرِقان بن بدر أحد وجهاء بني تميم وفرسانها وسادتها، وهو من الصحابة المخضرمين، والبيت هو:
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها …. واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
أما سبب الهجاء فله حكاية طويلة ألخصها بأن الزبرقان أساء جواره، فلجأ إلى بغيض بن عامر خصمه، فمالأه عليه، وطلب منه هجاءه.
استعدى الزِّبرِقان الخليفةّ عمر بن الخطاب على الشاعر، وذكر له البيت.
قال عمر: ما أسمع هجاء ، ولكنها معاتبة. (وفي رواية أخرى : أما ترضى أن تكون طاعمًا كاسيًا؟، وفي رواية ثالثة: ولكنه مدحك).
قال الزبرقان: “أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس؟!”
قال عمر: عليّ بحسان، فجيء به ليحكم، فقال:
“لم يهجُه ولكن سلح عليه” (أي تغوّط ، كناية عن شدة الهجاء).
ويقال إنه سأل لبيدًا كذلك، فقال:
“ما يسرني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه وأن لي حُمُر النّـعم” ( أي كرام الإبل).
فأمر به عمر فجعل في حفرة (السجن في تلك الأيام).
ثم كان أن استششفع الشاعر الخليفةَ في قصيدته الرائيّة المؤثرة، فأطلقه، واشترى الخليفة أعراض الناس، واشترط عليه ألا يهجو الهجاء المقذع.
(انظر القصة في “الأغاني” ج2، ص 178.)
السؤال:
ما وجه الهجاء في هذا البيت؟
يقول الحطيئة بدءًا: لا ترحل للمكارم التي لا تملكها، ففاقد الشيء لا يعطيه، فنحن نرحل لطلب شيء غير حاصل بين أيدينا، فلو كانت عنده المكارم لما لزم الرحيل إليها، و(اقعد) شأنه شأن (دع)- فعل بحد ذاته أمر يراد به التحقير، فأنت المطعوم المكسوّ، وهنا جاء اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول، وهو من المجاز العقلي. وهذه الصيغة واردة في كلام العرب، ففي قوله تعالى “فهو في عيشة راضية”- (الحاقة 21) يعني بها مرْضِية، و “خُلق من ماء دافق”- (الطارق 6) يعني بها اسم المفعول، “ولا عاصمَ اليوم”- هود 43 بمعنى المعصوم، ونعرف ذلك من خلال صحة استعمال الفعل المبني للمجهول: (عيش، عُصمَ).
..
ويمكن أن تكون السخرية والهجاء من باب النسب، فالعرب تقول (تامر) صاحب تمر، و (لابن) …إلخ
إذن فالمعنى الذي قصده الحطيئة أنك تُنسب إلى الطعام والكساء، ومن هنا نفهم جواب الزبرقان:
“أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس؟”.
غير أني كنت قرأت فيما مر من قراءاتي شرحًا طريفًا أغلب الظن أنه لمارون عبود (لم أهتد للمصدر مع الأسف):
ذلك أن البيت هو مدح تعمده الشاعر، فالمقصود أنه ابن المكارم ولا يرحل لبغيتها فهي قائمة لديه وحاصلة، وهو الذي يطعم ويكسو وهو الكريم، ومع ذلك فقد يئس الشاعر منه، وهذا هجاء لا أقل.
أما سبب الشرح فهو وارد في أبيات في القصيدة قبل البيت، وذلك في:
لقد مرَيتكم لو أن دِرَّتكم ……يومًا يجيء بها مَسحي وإبساسي
وقد مدحتكم عمدًا لأرشدكم … كيما يكون لكم مَتحي وإمراسي
أزمعت يأسًا مبينًا من نوالكم………ولن ترى طاردًا للحرِّ كالياس
الشاعر يقول إنه مرى الناقة أي أصاب ضرعها لتدرّ، فهو يمسح ضرعها لـتبسّ أي لتسكن الناقة وتقدم الحليب، وهو يمدحه قاصدًا حتى يدله على العطاء، فلعل المتح والإمراس يجدي نفعًا، مثلما يؤثر تكرار الحبل على البئر في الحجر، بمعنى أن كثرة مديحه قد تؤدي به إلى سلوك العطاء، فهو يائس من عطائه، وبقيت أمامه طريق المدح المتعمد، فلعله ينهج طريق المكارم؛ وبالطبع فهذا هجاء أي هجاء!
كلا الشرحين جميل، ومن هنا سقت لكم هذا الحديث، لنرى أن هناك أكثر من باب يُشرع في الشرح والتحليل، على أن تكون هناك بيّنة تُساق.
ب.فاروق مواسي