الجواسيس…..
تاريخ النشر: 19/04/16 | 6:41هناك أنواع متعددة من أوجه و أشكال الجاسوسية ، أو الإستخبار ، مثل الإستخبار الديبلوماسي أو التجسس الشرعي كما يحلو للبعض أن يسميه ، و يتم عبر الطرق الديبلوماسية بوجود ممثل أو إدارة بشكل علني تحت اي مسمى كمستشار أمني أو ثقافي أو غيره ، تعمل تحت مظلة السفارات و هيئات التمثيل الديبلوماسي ، و هناك التجسس الإلكتروني ، و الفضائي و غيره .. و لطالما شدتنا قصص الجواسيس لما فيها من متعة و تشويق ، و ألغاز تحتاج إلى ذكاء لحلها فمن منا لم يتابع أو يعجب بأفلام جيمس بوند و رافت الهجان ، و حتى في طفولتنا مع العميل رقم13 و غيرها من قصص أغاثا كريستي التي تتناول القصص البوليسية والجريمة و الجاسوسية ..
طبيعة مجتمعاتنا ، و تاريخنا ، الملئ بالمؤمرات ، و المحاور و الخيانات و الإغتيالات و الإنقلابات و الخوارج و الطوائف و المذاهب و علاء الدين و السندباد و طير الرخ و التنين و ابو زيد الهلالي و غيرها الكثير الكثير ، شكلت أرضية خصبة لفكر المؤامرة و الشك .. فأصبحنا نشك و نتشكك في كل ثابت و متغير حولنا و فينا ، أصبحنا نشك حتى في أنفسنا .. و لكننا و على مر الزمن ، أبداً لم نشك .. إلا في أنفسنا .. فكم من “ثورة” عربية أشرف عليها مندوب سامي ، أو جيش من الثوار العرب قاده جنرال أو أدميرال إنجليزي أو فرنسي ، هل تذكرون فيلم لوارنس العرب ، الذي كان السبب في شهرة عمر الشريف؟؟
لفت إنتباهي ، ما نشر عن الجاسوسة الإسرائيلية سيلفيا رافايل ، التي عاشت و عملت في قصور قادة و رؤساء و ملوك عرب ، بل إنخرطت في معسكرات التدريب الفدائي في سنوات الإنطلاقة و الزخم الثوري ، و حملت المسدس و الرشاش و إعتمرت الكوفية و لبست الزي العسكري الكاكي ، و إفترشت الأرض و إلتحفت السماء ، بل و شاركت في بعض العمليات جنباً إلى جنب مع الثوار .. و لكنها ظلت على مدى السنين عين و أذن للمخابرات الإسرائيلية في صفوف الثورة ، و أصبحت مشهورة بانها من أشد المؤيدين للفسطينيين ، و المدافعين عن قضيتهم العادلة .. !! إلى أن توجت هذا ( الحب و التأييد ) بإغتيال البطل الفلسطيني الأسطورة ، الذي كان أحد أهم الكوابيس التي تقض مضاجع الصهاينة على حسن سلامة أو الأمير الأحمر و هو اللقب الذي أطلقه عليه الصهاينة ، و فرحنا نحن به كثيراً و تبنيناه .. بل و ساهمت في إغتيال أهرامات الثورة الثلاثة الكمالين و أبو يوسف النجار ..
و ذكرى هذه المرأة التي ظن الفلسطينيون أنهم أعدموها في لارنكا في قبرص إنتقاماً وقصاصاً، و لكن و على ما رشح من معلومات يبدو أنهم قتلوا المرأة الخطأ ، و بقيت الجاسوسة على قيد الحياة إلى أن توفيت باللوكيميا عن سبعة وستين عاماً و أصبح قبرها مزاراً في إسرائيل .. و بما أن الشئ بالشئ يذكر ، فقصة الفنانة المصرية اللامعة في حينها ، صاحبة الوجه الملائكي ، راقية إبراهيم ، و المشهورة جداً بأغنيتها مع محمد عبد الوهاب ” طبيب عيون ” .. تمثل أمامنا بقوة أيضاً ..
راشيل أفراهام ليفي التي ولدت فى أسرة يهودية، في مصر، ووصلت لأوج شهرتها فى فترة الأربعينيات والخمسينيات، ذاع صيتها بعد قيامها بدور البطولة لمسرحية توفيق الحكيم “سر المنتحرة” فى عام 1938م. و التي عملت جاسوسة لإسرائيل ، على مدى سنوات طويلة ، من داخل نسيج المجتمع المصري ، و توجت خدمتها لإسرائيل ، بعد أن بنت روابط صداقة قوية ، و تقربت بشكل كبير جداً من عالمة الذرة المصرية ، سميرة موسى ، إلى أن قامت ” الفنانة ” بإغتيال عالمة الذرة التي كانت تساهم ببحوثها في تقوية إحتمال حصول مصر على القدرة الذرية ، قتلتها حتى لا تشكل خطراً كبيراً على إسرائيل ..
هاذا المثلان ، مختصران جداً ، و أعتقد واثقاً أن بينهما و قبلهما و بعدهما المئات بل الآلاف من الأمثلة ، لجواسيس عاشوا و عاثوا وما زالوا يعيشون بين ظهرانينا ، يأكلون و يشربون ، بل ، و يتشدقون بالشعارات النارية ، و يتصدرون المشاهد ، و لديهم من العلاقات بكافة المستويات الإجتماعية ، بل و القيادات ، ما يوفر لهم غطاء و في نفس الوقت مصدراً موثوقاً للمعلومات. و العمل الإستخباري متعدد الأوجه و الأشكال ، فَمِنه إستقاء المعلومة ، و مِنهُ بث المعلومة ، مِنهُ أخذ الحقائق ، و منه بث الأكاذيب ، و كم من سيلفيا و راشيل ، سواء بشكل شخوص ، أو مؤسسات عملت في مجتمعاتنا ، كلها بوجه ملائكي مبتسم يقنعك أنه إلى جانبك ، بل و يشاركك العمل ، و يقف إلى جانبك ، و يصحبك في مشوارك الكفاحي الطويل ، و لكنها صحبة بقصد الغدر ، تنتهي بما إنتهى إليه إخوة يوسف عليه السلام ..
معاهد التنوير و التثقيف و التنمية ، و التدريب و الإصلاح و الديمقراطية و السلام و المحبة ، و حقوق الإنسان و المرأة و الحيوان ، بل و البنوك .. و هو نموذج صارخ مباشر، فهل تتخيلون كم البنوك الأجنبية التي تعمل في وطننا العربي ؟ هل تتخيلون كم المعلومات التي يعرفها هذا البنك عن كل شاردة وواردة ، و عن الحالة الإجتماعية لكل منا ، و الوضع الإقتصادي لنا مؤسسات و حكومات و أفراد ؟؟ حتى شركات الإتصال في أوطاننا ، معظمها أفرع باسماء عربية لشركات أجنبية ..
نتذكر هذه النماذج و غيرها ، و نحن ما زلنا للأسف نتراقص فرحاً و نتيه عجباً كلما رأينا وفداً أجنبياً ، اشقراً أصفراً أزرق العينين يأتي إلينا ، أو يكلمنا بعربية مكسرة .. و كأنه يشرفنا و يشرف لغة القرآن ، التي لن تزداد شرفاً بعد ما شرفها الله .. حاشى و كلا ..
يأتون إلينا بعنواين براقة ، تارة للدفاع عن حقنا في التعبير ، و حرية التعبير هنا تقتصر على حرية قذف و إنتقاد أنفسنا و ثقافتنا و سياساتنا و قادتنا و تاريخنا بل و ديننا ، أما إنتقاد فلسفتهم أو ثقافتهم أو سياستهم فهي تضعك فوراً في قائمة الرجعية و الإستهداف .
يصرفون علينا ملايين ، بل مليارات ، و يصنعون من بعضنا النجوم ، و القادة ، أو يأتونا بأباليسهم و نسائهم و مالهم ، حتى يدخلونا في ملتهم ، و ثقافتهم ، و سياستهم ، و يتأكدون من تركيعنا كالعبيد لمصالحهم ، برضى منا و قبول ، رضينا نحن ، طوعاً ، الدنية في ديننا ، فحق علينا ما نحن فيه من عذاب ، و عيش مكدر ، نعيش لنأكل ، و ليأكل بعضنا البعض ، نتسابق على اليورو و الدولار ، و نبيع القيم و المبادئ العروبة و الإسلام ، الوطن و المقدسات ، بكل ثمن و أي ثمن ، و نغلف ما نفعل ، بطوابع و مغلفات براقة مليئة بالشعارات الدينية أو القومية و الوطنية .. حولنا بلادنا إلى قواعد ، يرتع فيها كل جواسيس الأرض ، و أحياناً لا نرهقهم و نوفر عليهم التعب و المشقة ، فنتجسس نحن على أنفسنا لصالحهم ، و إن لامنا أحد ، نتهم الذئب ، و ناتي على قميص أخينا بدم كذب .. وهنا يجب أن نقرر حقيقة ، أن كثيراً من هذه النماذج السالفة لا تنفي وجود بعض الصادقين ، و الشرفاء ، و لكن السؤال الذي يجب أن يطرح هو لماذا هذه التبعية في كل شئ ؟ لماذا يجب أن يدربنا و ينمينا و يفهمنا مشاكلنا و طرق حلها الأجانب ؟ لماذا يجب أن ترتبط مصارفنا بدورة مال أجنبية ؟ لماذا يجب أن تقتبس دساتيرنا من دساتير دولهم و مجتمعاتهم ؟ لماذا يجب أن تكون مدارسنا و مناهجنا و سلوكياتنا ، بل و طريقة أكلنا و ملابسنا صورة ممسوخة عن حياتهم و أزيائهم و سلوكياتهم و فنونهم ؟؟ لماذا نشك دائماً في أنفسنا و نثق في غيرنا ؟؟ عندما نعرف إجابة هذا السؤال ، أعتقد أننا سنجد الحل ، و نشعر مرة ثانية بذاتنا ، و أصولنا و جذورنا و سننهض من كبوتنا ، أفيقوا رحمكم الله .
بقلم : محمد يوسف الوحيدي – الوطن