عاشق الجماجم
تاريخ النشر: 04/05/16 | 5:27قال تعالى : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) [ الأحزاب : 72 ] .
الأمانة التي أبت الأرض والجبال أن يحملنها ، حملها الإنسان ، والمقصود بها ما ائتمن الله سبحانه وتعالى عباده عليه من طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه .. فالتزموا بالعهد .
والأطفال هم جزء من هذه الأمانة بل وجزء مهم كونهم من أوصى الله سبحانه وتعالى بهم ، ونبه بالحرص على رعايتهم ، فرعايتهم جزء مهم من هذه الطاعة له عز وجل .
فالأطفال ايسوا بحاجة إلى الحنان والعطف من جانب الأبوان فقط ، ولا بحاجة إلى الطعام والشراب فقط اللذين وللأسف الشديد يحرص عليهما الأبوان ويعتقدان انها اهم شيء .
صحيح أن العطف والحنان ، والطعام والشراب امور مهمة لتنمية صحة الطفل النفسية والجسمانية ولا نقدر على التقصير فيها لكنها ليست الوحيدة فهناك من هي اهم منها ألا وهي متابعة مهارات الطفل وهواياته المفضلة لديه بكل دقة حتى لا تنحرف هذه المهارات عن طريقها الصحيح وتصبح اشبه بسلاح خطير يعبث به الأطفال ويشكلوا خطراً على أنفسهم ومجتمعهم الذي لا يصلح إلا بهم . فإذا كانت طريق هؤلاء الأطفال سالمه من الأخطار ومفروشه بالأزهار ، لا شك أن رحيق هذه الأزهار سيملأ حياتهم .
ولكي اوضح القصد من وراء هذا الموضوع سأسرد قصة كنت قد قرأتها في إحدى الكتب الموجودة في مكتبتي والتي تحمل نفس عنوان المقال ” عاشق الجماجم ” ..
” هوايتي جمع جماجم بشرية ” . وقف المعلم مذهولاً ، عندما سمع هواية طالب في الصف الخامس ابتدائي ، فالطلاب عادة يحبون جمع الطوابع والأصداف ، أو ممارسة الرسم أو الرياضة وسماع الموسيقى ، إلا أن هذا الطالب اصر على أن هوايته جمع جماجم واكد بانها جماجم بشرية .
كان هذا الطفل يحلم منذ نعومة اظفاره أن يقيم معرضاً من الجماجم ، فهو يتمتع بمشاهدتها ويتفنن في طريقة وضعها ، ويقضي معظم اوقاته في تنظيفها ، ووضع مواد كيماوية عليها لكي لا يشمئز من رائحتها . انه يفاخر زملائه بالعدد الكبير من الجماجم التي بحوزته والتي تزين ارجاء غرفته ، فغرفته تخلوا من صور الحيوانات الاليفة ، والالعاب وصور الأطفال والقطط ، والكلاب .
لم يكن هذا الطفل يكتفي بما لديه من جماجم ، بل كان يدأب باحثاً عن جماجم جديدة ، وكم من مرة تمنى لو يستطيع قطع رؤوس زملائه وينظفها ليضعها بالتالي إلى مجموعته . وكم من مرة حاول حفر مكان جثث الاموات ليحصل على تحفة فنية جديدة يزين بها غرفته ، إلا انه كان يعجز دائماً عن تحقيق مبتغاه فالحفر عميقة ، وجسمه اللين لا يقدر على هذه المشقات .
وفي احد الأيام دعاه مدير المدرسة إلى غرفته ، ليشجعه على تنمية هذه الهواية ، بل ارشده إلى وجود مكان قرب القرية ، يقيم فيه اناس بسطاء يسكنون في أكواخ طينة . واخبره أن جماجم هؤلاء الناس جميلة جداً ، بل انها أجمل من جماجم سكان القرية التي يقيم فيها .
بقي حلم الطفل بإقامة المعرض يراوده حتى بعد انهائه فترة التعليم الثانوي . لأنه وجد الوقت المناسب لتحقيق حلم الطفولة ، حيث تذكر كلام المدير عن وجود جماجم جميلة بقرب القرية . انه يتوق للحصول على مجموعة جديدة من الجماجم فهو يعشق كل شيء جديد ، وجماجم الناس الطيبين والبسطاء جماجم جديدة وفريدة من نوعها دون أدنى شك ، وهذا ما أكده مدير المدرسة لهذا الطفل عاشق الجماجم .
توجه إلى خارج القرية حيث الاكواخ الطينية واختبأ بقرب احدها ، واخذ ينظر عبر فتحات تشبه النوافذ إلى داخل البيت ، فلم يجد سوى امرأة وطفل .. تأمل مليا جمجمة الطفل ، نظر إلى بنيته الجميلة ، وأخذ يسترجع كلام مدير المدرسة عن هذا العالم الجديد ، وأخذ يفكر في كيفية الحصول على هذه الجمجمة الجميلة . اثناء ذلك خرجت الأم من الكوخ ، فانتهز العاشق الفرصة ، دخل إلى غرفة الطفل ، وعيناه تحدقان بأعجاب بجمال رأس الطفل . اقترب منه وهو مسحور بجماله ، اصبح يرى رأسه جمجمة ناصعة البياض معلقة في احدى زوايا غرفته ، اقترب أكثر وأكثر نحو الطفل ، اخرج من جيبه سكيناً وقطع هذه التحفة الفنية عن جسمه النحيل وولى هارباً .
ثلاثة ايام متتالية قضاها عاشق الجماجم في تهيئة هذه الجمجمة للعرض ، وبعد هذا العمل المضنى عرضها في ساحة القرية باعتزاز ، ونال تشجيع الجميع ، وبعضهم دعاه إلى تطوير هوايته وجمع المزيد منها .
راق الامر لصاحبنا ، وسر لتشجيع اهل القرية ومديحهم له ، فأعاد الكرة مرات أخرى ، فأصبح يذهب لتلك الأكواخ باستمرار لينمي هوايته ، وبالتالي كانت الجماجم تزداد ونشاط صاحبنا ايضاً كان بازدياد دائم . انه لم يكن ليكتفي ابداً بأي عدد كما يبدو من الجماجم ، يريد المزيد ، إلا انه اكتشف في أحدى غزواته للأكواخ الطينية انه لا أحد هناك . فأصيب بخيبة أمل إذ فقد مصدراً هاماً لجمع الجماجم .
بعدها ، بدأ نشاط صاحبنا يتضاءل ، واختفت ابتسامته . أصبح يهيم في طرقات القرية وازقتها وبوادر اليأس على محياه .
وفي احد الأيام ، في اثناء جلوسه في ساحة القرية محدقاً إلى البعيد ، علقت عيناه على رأس فتاة ، ولكن هذا الرأس ليس غريباً ، انه من رؤوس القرية . لكنه استمر بالتحديق فيها . وفجأة خرج من عينيه بريق مخيف ، وقال لنفسه : لم لا ؟ فيجب اقامة المعرض بأي ثمن . اخرج خنجره من جيبه واسرع متجهاً نحو الفتاة ..
ارجو أن تكونوا قد عرفتم ما اقصده .. فلنحاول حمل الأمانة بكل أمانة وصدق حتى لا نعض اصابع الندم بعد فوات الاوان .
بقلم : محمود عبد السلام ياسين