ندوة أدبية مميزة بكوكب أبو الهيجاء
تاريخ النشر: 05/05/16 | 11:10أقامَ مجلسُ كوكب المحلّي واتّحادُ الكرمل للأدباء الفلسطينيّين ومكتبة “كلّ شيء” ندوة أدبيّة للكاتب مصطفى عبدالفتاح، في قاعة المدرسةِ الثانويّةِ لمديرها يوسف منصور في كوكب أبوالهيجا، لتوقيع روايتهِ (عودة ستي مدللة) بتاريخ 5-3-2016، وسط حضورٍ كبيرٍ مِن أهالي كوكب أبو الهيجا وأدباء وأصدقاء، وقد تولّى عرافة الأمسية الكاتب والمسرحيّ عفيف شليوط، وتحدث كلّ مِن: رئيس مجلس كوكب ابوالهيجا المحليّ السيد زاهر صالح، عن أهمّيّةِ رعايةِ النشاطاتِ الثقافيّةِ والفنّيّةِ، والناشرُ صالح عبّاسيّ مدير مكتبة “كلّ شيء”، حول مكانةِ الروايةِ في معارض الشارقةِ والقاهرة، والناطقُ الرسميُّ لاتّحادِ الكرمل علي هيبي عن نشاطات الاتحادِ القادمةِ، وكانت قراءات نقديّة لكلّ مِن د. بطرس دلة ود. محمد صفوري، وقد ألقى الشاعر أحمد صالح طه قصيدتيْن بعنوان “لغتنا الجميلة” و”همس القدس”، وقدّمت المُربّية عبير أبو الهيجاء مديرة المدرسة الابتدائيّة في كوكب درعًا كهديّة رمزيّة، وقدّم أحمد الحاجّ ممثل جبهة كوكب الديمقراطيّة ورئيس مجلس كوكب السابق درعًا تقديريًّا، وقدّمت فرقة كوكب للدبكةِ وصْلة شعبيّة، بتدريب الفنّان مروان طاطور، وقدّم مُصمّمُ غلافِ الرواية الفنّان فوزي الحاجّ لوحة رسْمٍ للكاتب بريشتِهِ، وفي نهايةِ اللقاءِ شكرَ المُحتفى بهِ الكاتب مصطفى عبد الفتّاح الحضورَ والمُتحدّثين والمُنظمين والداعمين، وتمّ التقاط الصورِ التذكاريّة!
مداخلة العريف عفيف شليوط: كانت القبائلُ العربيّة في السابق تفخرُ بشعرائِها، وتعتزّ بقادتِها ورؤساء قبائلها، ولهذا لم يكن غريبًا أن يُدافعَ امرؤ القيس الشاعر عن سلطان أبيه، أو أن يكون الوزير العاشق ابن زيدون وزيرًا للحربيّة والخارجيّة في وقت واحد. وفي بداية القرن الماضي ظهرَ أحمد شوقي أميرُ الشعر العربيّ، وفي فترة من حياتهِ كان صوتًا للقصر، ثم أصبح صوتَ الشعب والأمّة بعد أن عادَ مِن منفاهُ في إسبانيا، وبجوارهِ كان شاعر النيل حافظ إبراهيم صوتَ مصر الصادق النبيل، وقبلهما كان البارودي، وتاريخ من الأمجادِ والغربة تاريخٌ حافلٌ للشعر والقراء في مسيرة الأحداث والأيّام، فكان الشعرُ دائمًا من أهمّ الشواهد الحيّة لذاكرة الأمّة، وكان من حقّ كل قبيلة أن تفخرَ بشعرائها، واليوم مِن حقّ قرية كوكب أبو الهيجا أن تفخرَ بأديبها مصطفى عبد الفتاح، ومن حقّ رئيس مجلسِها أن يعتزّ بأن نشأ في قريته أديبٌ كمصطفى عبد الفتاح. نشرَ مصطفى عبد الفتاح العديدَ مِن المقالاتِ السياسيّةِ والاجتماعيّةِ والقصصِ القصيرة في جريدة الاتحاد، ومجلة الإصلاح، وشذى الكرمل، ومجلة الغد الجديد، ومواقعَ إلكترونيّةٍ عديدة، وهو يستعدّ في هذه الأيّام لإصدار روايته الثانية، التي ستصدر عن منشوراتِ مؤسّسةِ الأفق للثقافة والفنون في حيفا. الكاتبُ مصطفى عبد الفتاح ابن كوكب أبو الهيجا القرية الجليليّة، أنهى دراستَهُ الجامعيّة في التاريخ العام وفي علم المكتبات والمعلوماتيّة، ويعملُ حاليًّا مديرًا للمكتبةِ العامّة في قريته. نحتفلُ هذا المساءَ بصدورِ روايةِ “عوْدة ستّي مدلّلة ” للكاتب مصطفى عبد الفتاح ابن قرية كوكب أبو الهيجاء، والتي لاقت رَواجًا كبيرًا في معرض الشارقة الدوليّ، وتقعُ في 194 صفحة مِن الحجم المتوسط، وتزيّنُ الغلافَ لوحة الرسّام فوزي حاج. تُعالجُ الرواية أهمَّ القضايا السياسيّة النفسيّة والاجتماعيّة، التي رافقتْ وترافقُ اللاجئين الفلسطينيّينَ في الوطن، والمُنتظرينَ العودة إلى قراهم وهم على مَرمى حجرٍ منها، فيصفُ وصْفًا دقيقا وبأسلوبٍ سرديٍّ راقٍ دروبَ الآلام التي سارَ عليها الفلسطينيّون، وتحدّياتِ البقاءِ في ظروفٍ وواقع يَكادُ يكونُ مستحيلًا. تحملُ الرواية في طيّاتِها صورة رائعة عن نضال المرأةِ الفلسطينيّةِ، ودوْرَ قوّتِها وإصرارها وقدرتِها على الصبر والتصدّي والصمودِ في وجهِ أعتى آلات الدمارِ لوطنٍ يَسكنُ في القلب. يَرسمُ صورة آسِرةً عن واقع الأسرةِ الفلسطينيّةِ ومُعاناتِها اليوميّةِ منذ النكبةِ وحتّى اليوم، وتُظهرُ مدى الحنين والشوق للعودةِ، وتُظهرُ الآثارَ النفسيّة والمعاناةَ اليوميّة التي يَعيشُها الفلسطينيُّ في المهجر ووطنِهِ القريبِ البعيدِ.
مداخلة د. محمّد صفّوري/ عودة ستّي مدلّلة- عودةٌ بلا عودة: 1* أفكار من وحي المضمون: “عودة ستّي مدلّلة” هي رواية بكرٌ للكاتب مصطفى عبد الفتّاح، في عالم الفنون السّرديّة. تحكي الرّواية قصّة نكبةِ الشّعب العربيّ الفلسطينيّ عام 1948، وما مُهّدَ لها مِن مؤامراتِ الانتداب الإنجليزيّ، وتخاذل الدّول العربيّةِ عن مساندة الشّعب الفلسطينيّ، في تلكَ المحنة الّتي نالت منه حتّى تحوّل إلى شعب مشرّد في الأقطار العربيّة وغيرها من دول العالم، كما تصوّر الرّواية الممارسات الدّنيئة لِما يُسمّى بجيش الإنقاذ ونهب ثرواتِ البلاد، وحين استغاثت به البلادُ لردّ الغبن عنها، اختفى من الحلبة حتّى غدا أثرًا بعد عين، ناهيك بالدّور الّذي قامت به العصابات الصّهيونيّة وجنودها في بثّ الرّعب والهلع في نفوس النّاس؛ ممّا دعاهم إلى ترك بلادهم حتّى لا تتكرّر مجزرة دير ياسين، وهذا ما تؤكّده الرّواية، وهي تنقل ما صرّح به النّاس قائلين: “لن ننتظر حتّى يقوم اليهود بذبحنا كما فعلوا في دير ياسين، سنذهب إلى مكان آمن حتّى تهدأ الأمور” (الرّواية: ص49). وتلتفت الرّواية، في مواضع أخرى، لإبراز دور العملاء العرب ومساعدتهم السّلطة في إقصاء الفلسطينيّ إلى لبنان والدّول العربيّة المجاورة كلّما عاد إليها متسلّلًا. إنّها حكاية معروفة للقاصي والدّاني، ويعلمها الغريب مثل القريب، وقد وثّقت في أعمال روائيّة كثيرة أبرزها، في اعتقادنا، رواية “باب الشّمس” لإلياس خوري”، كما وثّقت في سجلّات التّاريخ وحفظت في بوتقة عصيّة على الانصهار ، وعليه لن نعود لسرد الحكاية المعروفة للجميع.
أمّا السّؤال الرّئيس الّذي يتبادر إلى الذّهن فهو: ما الجديد الّذي تقدّمه الرّواية؟ في الإطار العامّ للحكاية لا نجد جديدًا يمكن الإشارة إليه. أمّا الجديد الّذي نترسّم آثاره فهو إسناد دور البطولة للمرأة ممثّلةً بستّي مدلّلة، وهي شخصيّة تظهر منذ بداية الرّواية ومع غيابها تنتهي. تتطوّر أحداث الرّواية مع حركة وفاعليّة هذه الشّخصيّة، فضلًا عن الوعي الرّاقي الّذي تتمتّع به، وهو وعي تؤكّده الرّواية في كلّ حركة من حركاتها، وفي كلّ تعبير يصدر عنها. الحقيقة الّتي لا مراء فيها أنّ ستّي مدلّلة هي كلّ الرّواية، فمن هي ستّي مدلّلة؟ وما هو الدّور الّذي قامت به؟ إنّها امرأة من قرية صفّورية القريبة من قرية الرّاوي، استشهد زوجها وهو يقاوم الإنجليز في صفوف الشّيخ عزّ الدّين القسّام في حرش قرب قرية يعبد، وترك لها ابنًا يدعى أمين وابنة تدعى سميحة، قام أمين على رعاية عائلته وتدبير شؤون الدّكّان، وقد ترعرع على مقاومة الظّلم فصار مقاوما للإنجليز والعصابات الصّهيونيّة كوالده وأخواله، فأبلى بلاء حسنًا دفاعًا عن قريته الّتي سقطت بأيدي اليهود، فنزح عنها سكّانها إلى القرى المجاورة، ومن ثمّ إلى لبنان.
تسجّل الرّواية عدّة مواقف مشرّفة لستّي مدلّلة عجز الرّجال عن القيام بها، فقد رفضت مغادرة قريتها رغم الخطر المحدق بها، وحين اضطرّت لذلك بادرت إلى العودة مرّات كثيرة. يتصدّى لها أحد الجنود محاولًا منعها من العودة، فلا تأبه به وتواصل سيرها باتّجاه بيتها؛ ممّا يضعضع ثقته بما يفعل، ويلوم نفسه على القدوم من أوروبا بعد أن نجا من براثن النّازيّة الّتي قتلت والدته. تعود ستّى مدلّلة بعد توقّف الحرب إلى القرية، لكنّ الضّابط المسؤول يعلن منع الدّخول إليها، فتقوم مدلّلة بتحريض النّاس وعدم الامتثال لأوامر الضّابط قائلة: “لا تتركوا بيوتكم، لا تتركوا بلدنا، لا تتركوا أرضنا، هذه القرية لنا […] الاحتلال يأتي ويذهب وأهل الوطن باقون فيه إلى الأبد” (ص59). لم يكن من سبيل أمام النّاس سوى الرّجوع عن القرية بعد زخّات الرّصاص الّتي هدّدت حياتهم، فلجأوا إلى القرى المجاورة حفاظًا على حياتهم، أمّا مدلّلة فقد تابعت محاولات العودة إلى قريتها دون جدوى، فتبعت أهل بلدها دون أن تتخلّى عن إصرارها على العودة، ويشتدّ أملها بالعودة إلى قريتها بعد أن عادت من لبنان إلى قرية الحاج عبد الكريم القريبة منها، دون أن تتنازل عن إصرارها بالعودة إلى قريتها، تقول: “لا يدوم على حاله إلّا هو، سيأتي يوم ونعود إلى قريتنا، أمنيتي الوحيدة أن يدفنوني هناك إذا لم أستطع العودة إليها”(ص171).
تقرّع الرّواية أهلَ البلاد لتسهيل عمليّةِ احتلالِها، ومن ثمّ تدميرها حين أسرعوا إلى تركِها خوفًا من أن تلحق بهم المجازر الّتي لحقت بغيرهم، دون أن يبذلوا أيّ جهدٍ في الدّفاع عنها أو التّمسّك بها، وذلك خيانة كبرى للبلاد وفقَ ما يستشفّ الرّاوي من مشاعر ستّي مدلّلة النازحة في لبنان عن قريتها إذ يقول: “كانت تشعر بشيء من تأنيب الضّمير، وتصف نفسها بالخائنة؛ لأنّها تركت بلدها وهان عليها تراب الوطن وكلّ ما تملك، وتردّد دائمًا في حديثها أنّ أهل القرية تسرّعوا وتركوا القرية، لم يحاولوا الدّفاع عنها كما يجب” (ص74).
في موضع آخرَ مِن الرّواية تُعلّل ستّي مدلّلة ما أصاب أهل صفّورية، بكوْنهِ نتيجة حتميّة لسلوكِهم المُشين، وفي ذلك تقول: “ما هجّت صفّورية من خير فيها، ما هجّت صفّورية إلّا من ظلمها يا ستّي، كانت قتلة الزّلمة عندهم زي شربة السّيجارة […] الله عليك يا قسطل… ما أقسى مياهَك، لا تشرب يا ستّي من ماء القسطل، إيّاك ثمّ إيّاك” (ص171 – 172).
بعد عودة ستّي مدلّلة من لبنان واستقرارها في قرية كفر مندا القريبة من صفّورية، ترفض عرض الحاج عبد الكريم، صديق عائلتها الّذي وجدها فرصة سانحة لردّ بعض جميل أهلها عليه، إذ يهبُها دارًا صغيرة وقطعة أرض، لكنّها تصرّ على دفع ثمنها، رغم ما تشعر به من تنازلها عن حلم العودة، يقول الرّاوي: “كان امتلاك البيت بالنّسبة لها هو نوع من الاستقرار والرّاحة النّفسيّة بعد طول المعاناة وألم الغربة والتّهجير، ولكنّه أيضًا يشير إلى أنّ رحلة الغياب ستطول، والحنين إلى القرية والأرض والأهل والخلّان سيزداد ويكبر كلّ يوم، صارت تواسي نفسها بالقول: لا بأس، بيت مؤقّت لحين عودتنا إلى بلدنا وأرضنا”(ص 9).لا تطيق مدلّلة طول انتظارها، فتشغل نفسها بزراعة الأرض الّتي اشترتها بكلّ أنواع الشّجر والبقول الّتي عرفتها في قريتها، لتغدو حديقتها صورة مصغّرة عن صفّورية، يقول الرّاوي: “جعلت منها جنّة على الأرض، استنسخت فيها بلدتها، حتّى أنّ أهالي القرية كانوا يحسدونها، فأطلقوا عليها صفّورية الصّغيرة”(ص 165). بذلك تحتال ستّي مدلّلة على ذاتها، وعلى الظّروفِ الّتي حالتْ دون عوْدتِها إلى قريتِها، متّخذة من قطعةِ أرضِها الجديدة تعويضًا مؤقّتًا ريثما تعود إلى قريتها.لم تعد ستّي مدلّلة تقوى على مقاومة الحنين لقريتها، وهي لا تعدّ نفسها لاجئة، وكان حلمها بالعودة هو كلّ ما يشغلها، ممّا جعلها ترى نفسها في الحلم عائدة إلى قريتها، تمارس حياتها فيها كما كانت من قبل، ولمّا صحت من حلمها ظنّت أنّها تأخّرت في النّهوض صباحًا رغم انّ الوقت مساء، تحاول عدّة مرّات العودة إلى قريتها فيثنيها النّاس عن ذلك، دون أن تعي الحالة النّفسيّة الّتي سيطرت عليها. تمتنع عن الطّعام، فيصيبها المرض والهزال، لكنّها تستمرّ في إصرارها على العودة، وحين تشعر بالوهن والتّعب تستلقي في فراشها، بعد أن سلّمت حفيدتها مفتاح بيتهم في صفّورية؛ لتسبقها إليه ريثما تستريح هي لبعض الوقت، ثمّ تلحق بهم، لكنّها تستريح إلى الأبد، وتلحق بالرّفيق الأعلى، دون أن تحقّق حلمها بالعودة، فتدفن بعيدًا عن قريتها، وقد وضع ابنها أمين على صدرها كيسًا مملوءًا بتراب صفّوريّة، ورشّها بماء القسطل وهو يقول: “لم أستطع أن أعيدك إلى صفّورية فأعدت صفّورية إليك”(ص 192). هكذا تقضي ستّي مدلّلة من هذه الحياة دون أن تقضي على حلم العودة، وهي تسلّم مفتاح بيتها لحفيدتها لتكمل المشوار وتحقّق الأمل بالعودة.
تبطّن الرّواية بعضَ الأفكار الأخرى الّتي تؤكّد في معظمها أنّ الشّعب الفلسطينيّ شعب حيّ، صامد، منخرط في مختلف مجالات الحياة رغم كلّ ما أصابه، فلم تتمكن ظروفُ حياتِهِ الشّاقة أن تنالَ منه، وتقعده عن مواصلةِ الحياة، بل بقي مُحبًّا للحياة يُمارسها كسائر الشّعوب، رغم ما يُثقل كاهله من أعباء، فقد أحبّ أمين فاطمة ابنة الجيران وتمنّى الزّواج منها، لكنّ نداءَ الواجب يُملي عليه نسيانَ أو تناسي ذلك الحبّ، حين يُداهمُ الخطرُ بلدَهُ، أهله وناسَه، وحين تعترضُ طريقه إلى مقاومة المحتلّ، وتعطيه منديلًا ليتذكّرَها، يَشعرُ بخفقان قلبه نحوَها، لكنّه يتراجع خجلًا وهو يهمس لقلبه: “لا وقت للحبّ في وقت الحرب”(ص34). وعندما يستقرّ بهم المقام في لبنان يتمّ لهما الزّواج، ومن ثمّ العودة متسلّلين بصحبة والدته إلى البلاد. ناهيك بما تكشف الرّواية من تكافل الشّعب الفلسطيني وتعاونه، ومن ذلك تهافت جارات ستّي مدلّلة على بيتها الجديد وكلّ منهنّ تحمل شيئًا من المؤونة حتّى امتلأ بيت ستّي مدلّلة بالموادّ الغذائيّة(ص 108). 2* ملاحظات أسلوبيّة: يبدأ سرد الرّواية من نهايتها أو من موضع قريب من النّهاية مستخدمًا الضّمير الثّالث(الغائب)، وهو ما يعرف بالمبنى المقلوب للرّواية. يعلن الرّاوي عن استقرار ستّي مدلّلة في قرية قريبة من قريتها برعاية الحاج عبد الكريم، صديق عائلتها، ثمّ يتحوّل السّرد إلى سرد استرجاعيّ في معظم أحداث الرّواية، يحرّكه الرّاوي العليم بكلّ تفاصيل حكايتها حتّى موتها ، لكنّه يطعّم سرده ببعض المقاطع الحواريّة المنتشرة في مواضع مختلفة من الرّواية، ليخفّف من رتابة السّرد أو ليضفي مزيدًا من الواقعيّة على الرّواية، ونحو ذلك.
ما يميّز أسلوبَ الرّواية حضورُ المونولوجات الّتي تستدعيها أحداثُ الرّواية وحالة الشّخصيّة النّفسيّة، إذ يكشف من خلالها ما تبطّنه الشّخصيّة من أفكار يمكن أن تغيب عن مدارك القارئ، دون استخدام تلك المونولوجات، ومن ذلك ما تحدّث ستّي مدلّلة به نفسها بعد طردهم من القرية، مبيّنة قسوة المحتلّ بقولها: “والآن يفصلوننا عن أنفسنا، يفصلون الرّوح عن أختها، الابن عن أمّه، والأخ عن أخته، والبيت عن حجارته، أيّ قوم هؤلاء”(ص132). وحين تدرك ما جرّ اللّجوء عليها، وما خسرت جرّاء الاحتلال، تدخل في مونولوج قصير يصوّر قلقها على مستقبل بلدها، ابنها، أهلها وكلّ ما تحبّ، وذلك في قولها: “أين أمين، ابني وقرّة عيني؟ أين الأهل والأخوة؟ أين الأقارب، أين الأصدقاء؟ أين أبناء القرية؟ أين الأرض؟ أين الوطن؟ أين الماء والخضرة؟ أين الحيوانات والنّباتات في أطراف البيت وحدائقه الغنّاء؟ من يعوّضنا عن كلّ ذلك؟” (ص110).
يبتدع الرّاوي بعض الصّور الوصفيّة الّتي تترك انطباعًا إيجابيًّا في نفس القارئ لما تعكس من وصف دقيق للموصوف بلغة بسيطة لا تكلّف فيها، ومن ذلك قوله في وصف حالة النّاس وقد دبّ فيهم الهلع والخوف من بطش المحتلّ، يقول: “كان منظر القرية يشبه خليّة نحل تعيش بهدوء وسلام منسجمة مع نفسها، متعايشة مع الطّبيعة الغنّاء الّتي هي مصدر حياتها، يقذفها أحدهم بحجر همجيّته ظلمًا وعدوانًا فيهزّ كيانها من الأعماق، يخرج النّحل مستنفَرًا غاضبًا خائفًا قلقًا، يهاجم أيّ شيء يعترض طريقه من أجل أن ينقذ نفسه، وينقذ خليّته المهدّدة بالدّمار”(ص46). ومثل ذلك نجد في مشهد وصف الدّم الّذي سال من رجل أمين فامتزج بتراب الأرض عند ملاحقة العسكر له، بعد تسلّله ووصوله إلى القرية الّتي تعيش فيها أمّه وزوجته فاطمة، يقول الرّاوي: “كان الدّم يسيل من رجله ليصبغ الأرض بالأحمر القاني، فيمتزج بالتّراب الجافّ ليحوّله إلى كتلة ترابيّة متماسكة، كان الوطن يطلب المزيد من الدّم حتّى تتماسك ذرّات ترابه فتحفظ أبناءه”، ثمّ يعلّق الرّاوي قائلًا: “يا لها من معادلة صعبة لا تعيش إلّا في رأس ثائر يحنّ إلى الأرض والوطن”(ص154). يلجأ الرّاوي في مواضع أخرى من الرّواية إلى المزج بين الأصوات المنبعثة من الطّبيعة وأصوات النّاس على اختلافها، يقول الرّاوي: “أصوات كثيرة لا تحصى تمتزج معًا لتبدع لحن القرية الوادعة الحالمة، موسيقى أبديّة، تعيش يومها وتحلم بغدها الأجمل دون قلق أو وجل. عالم جميل بسيط، مليء بالعلاقات الإنسانيّة القائمة على التّواصل والمحبّة والانسجام الكامل مع الطّبيعة”(ص13).
من الأمور البارزة جدًّا في الرّواية تكرار الحدث ذاته، أو الفكرة، أو العبارة في عدّة مواضع من الرّواية، من ذلك تكرار لصورة القرية عبر الذّكريات الّتي كانت تغرق ستّي مدلّلة في لجّتها، كتصريح الرّاوي عن راحتها في العمل،إذ يقول: “كان يعيد لها ذكرياتها الجميلة في قريتها مع الأهل، والأصدقاء، والأقارب فتزيد من الاعتناء بها. كانت خطوتها هذه محاولة بائسة لتعويض ما خسرت في قريتها”(166). في مثل هذه المواضع يوظّف التّكرار في العمل الأدبي كآليّة إلحاحًا على فكرة معيّنة تسيطر على فكر الشّخصيّة، مثل صورة القرية الجميلة الّتي توظّف كمنبّه دائم على تحقيق فكرة العودة، دون التّخلّي عنها. تتعدّد التّكرارات في الرّواية منها تكرار حدث استشهاد “أبو الأمين” زوج ستّي مدلّلة، وهو يقاوم الإنجليز في صفوف عزّ الدّين القسّام(ص 14، 19، 21، 130)، أو ممارسات الإنجليز وجيش الإنقاذ ضدّ النّاس (ص15، 17، 39)، تناوب مختلف الأمم على احتلال بلادنا ومن ثمّ رحيلهم كالفرس، الرّومان، العثمانيّين، الإنجليز، اليهود (ص20، 59). ومن الأمور الأخرى المتكرّرة في الرّواية؛ الهجوم عل صفّورية في شهر رمضان، الحديث عن بسالة أخوة ستّي مدلّلة ومشاركتهم في مقاومة المحتلّ، ونعتقد أنّها تكرارات هادفة في معظمها تسعى لتأكيد فكرة، أو التّذكير بأمر ما، أو تصوّر حالة شعوريّة تعيشها الشّخصيّة، لكنّنا نرى في بعضها ترهّلًا وكلاما زائدًا لا حاجة له، ولا يعكس أيّ معنى سوى تكرار الحدث فقط.
يلاحظ شغف الكاتب بالموروث الثّقافيّ العربيّ، فينهل منه متناصّات كثيرة يوظّفها بوسائل عديدة؛ إمّا بالإشارة أو اللّمحة، ومن ذلك استعارته قالب وفكرة لمحمود درويش وردت على لسان ستّي مدلّلة، ممّا يؤكّد عمليّة إقحام الأمر فهو لا يتناسب مع ثقافة ستّي مدلّلة، وذلك حين وقفت تخاطب الجنود قائلة لهم: “أيّها المحتلّون الجدد خذوا كلّ ما تريدون وارحلوا”(ص59)، وهو تعبير مستعار من ديوان حالة حصار، وفيه يقول درويش مخاطبًا الجنود أيضًا: “أيّها الواقفون على عتبات البيوت، اخرجوا من صباحاتنا، نطمئنَّ إلى أنّنا بشرٌ مثلُكمْ!”(درويش، 2002، 18). ومثل ذلك تلك الجملة الّتي قالها الحاج عبد الكريم عند قبر ستّي مدلّلة: “آن لهذه العنقاء أن تستريح”(ص191) ممّا يذكّرنا بمقولة أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق في ابنها عبدالله بن الزّبير بعد أن قتله الحجّاج ومنع تحريره من حبل المشنقة، ليدفن. تقول: “أما آن لهذا الفارس أن يترجّل”.
في حالات كثيرة يتطلّب التّناص قارئًا تتوازى ثقافته وثقافة الكاتب أو تفوقها ليفهم ما يرمي في تناصّه، كقول الرّاوي: “لا خيار أمام النّاس، فإمّا التّحدّي والمقاومة والوقوف مع ستّي مدلّلة دون حساب[…] أو النّزوح وترك المكان حتّى تهدأ الأمور. كلا الخيارين طعمهما مرّ ومصيرهما الضّياع”(ص 59 – 60)، بذلك يستحضر الرّاوي أبا فراس الحمدانيّ وقصيدته” أراك عصيّ الدّمع” ومنها قوله: “وقال أصيحابي: الفرار أو الرّدى/ فقلت: هما أمران أحلاهما مرّ”. وهي حالة تتطابق وحالة النّاس وهم يواجهون المحتلّين بأسلحة غير متكافئة.
يأتي التّناصّ أحيانا مباشرًا، لا مواربة فيه، ومن ذلك عندما تسترجع فاطمة قصيدة للشّاعر جميل صدقي الزّهاوي؛ لأنّها تعيش نفس الحالة الشّعورية الّتي تصوّرها القصيدة، وكأنّ الشّاعر يتحدّث باسمها، معبّرًا عن شوقها لأمين بعد غياب طويل، ومما جاء فيها: “قد تنبّهَتْ في ليلها فتذكّرَتْ/ أليفًا غدا عنها ولم يعد الغادي. وقالت تناجي نفسها: ما لصاحبي تأخّر عن ميعاده غير معتاد” (ص137).
لعلّ من أكثر المتناصّات إثارة للمشاعر ما قالته ستّي مدلّلة لأمين وهو يبكي عند مغادرة صفّورية بعد سقوطها في قولها: “ابكِ يا ولدي كالأطفال وطننا لم تستطيعوا حمايته كالرّجال”(ص63)، وفي ذلك استحضار لمقولة عائشة الحرّة لابنها الخليفة أبو عبدالله، آخر ملوك بني الأحمر في غرناطة، فعند سقوطها غادرها، ثمّ وقف على بعدٍ ينظر إليها ويبكي فتقول له أمّه: “ابكِ مثل النِّساء ملكًا مضاعًا لم تحافظ عليه كالرّجال” وما زال ذلك المكان يُسمّى إلى اليوم “زفرة العربيّ الأخيرة”. وغير ذلك من المتناصّات الّتي يقصد الكاتب إدراجها في روايته لما تعود بالفائدة على الرّواية، أو لتؤكّد ثقافة الكاتب وشغفه بالموروث الثّقافي العربيّ
تعلّمنا الرّواية كثيرًا من الأمور الّتي يجهلها النّشء الصّغير من أبنائنا كالمواقع الأثريّة في صفّورية؛ القلعة، دير القدّيسة حنّة، المسجد، وغيرها من الأماكن كالمغاور والمقابر وأسمائها، كما تعرّفنا بالعائلات الّتي عاشت هناك مثل: حلومة، التوبة، عبد الهادي، العفيفي، الحدايدة وغيرها، ويعمد الكاتب إلى شرح بعض المصطلحات في تضاعيف الرّواية عندما يشكّ بعدم معرفة القارئ لها كحديثه عن القراميل والجهاديّة، يقول الرّاوي واصفًا ما قامت به ستّي مدلّلة: “وعلّقت القراميل الّتي هي عبارة عن خيطان ملوّنة تتجدّل مع الشّعر، وفي طرف كلّ خيط توضع جهاديّة، وهي ليرة ذهبيّة تتزيّن بها المرأة، وقراميل ستّي مدلّلة تحتوي على ستّ جهاديّات كانت تفاخر بهم النّساء لأنّ والدها أهداها لها عندما تزوّجت”(ص179). تعنّ لنا ملاحظة في هذا المقام، فقد قال الرّاوي عن الجهاديّات أنّها كانت تفاخر بهم والصّحيح تفاخر بها لأنّها جمع لغير العاقل. هذه الملاحظة تنقلنا للحديث عن لغة الرّواية، وفيها يوظّف الكاتب لغة عربيّة فصيحة على الغالب، لكنّه لا يستطيع التّحرّر من أثر العامّيّة المحكيّة عليه فنجده يصوغ لغته الفصيحة في قوالب عامّيّة، ممّا يوقعه في الخطأ، أو ينأى به عن تحقيق الهدف والمعنى الّذي يريد، ومن ذلك قول الرّاوي واصفًا ما تقوم به ستّي مدلّلة وهي تخبّئ أوراقها الّتي تثبت ملكيّتها للبيت: ” وضعت فيه (في الكيس) الأوراق بحرص شديد، إلى جانب مفتاح بيتهم الكبير ومفتاح الدّكان لفّتهم جميعًا بقطعة قماش، وضعتهم في أسفل الكيس، بحثت عن مسمار مغروس في وسط الحائط فعلّقته” (ص11). إنّ هذه القوالب اللّغويّة المحكيّة تؤكّد تأثّر الكاتب بها وعدم قدرته على التّحرّر منها، مما يوقعه في أخطاء نحويّة كان يمكن تجنّبها.
في مدار حديثنا عن لغة الرّواية نضيف، غيرَ مصانعين ولا متجنّين على الأخ الكاتب، أنّ ما تحوي الرّواية من أخطاء لغويّة على اختلافها يقصي الرّواية عن العمل الأدبيّ لافتقارها إلى أبسط قواعد اللّغة، وهي كتابة الكلمات بصورة سليمة، فالقارئ لا يمكنه التّمييز بين الخطّ العمودي والهمزة، وذلك لغياب قطعة الهمزة عنها، وفي كثير من الحالات يشقّ على القارئ المتمرّس قراءة الكلمة إلّا بعد جهدٍ كبير. وفي حالات أخرى لا نميّز بين الهاء آخر الكلمة والتّاء المربوطة، الأمر الّذي يشوّه اللّغة، ونحار فيهما: أهي هاء أم تاء، أم ماذا؟! ناهيك بما تحوي الرّواية من أخطاء إملائيّة ونحويّة كثيرة تدفع الإنسان إلى ترك الرّواية دون إتمام قراءتها، ومن نماذج ذلك كتابة كلمة اسم الجلالة “الله” منتهية بتاء مربوطة، وهي متردّدة في الرّواية بوتيرة عالية جدًّا، أو قوله: كم تباهى منتهية بألف قائمة والصّحيح ألف مقصورة، “كلّ جارة تأتي وبيدها شيئًا”(24)، “ستأخذ مجرى ثانٍ”(32)، يهدِّأ (48)، “قتلتم أبنائنا”54، “يبدأ زخ غيضها”(63) (الصّحيح غيظها)، “أنا طفت المخيّم كلّه واطمأنيت على أهل بلدنا”(83)، أمّا الشّدّة فلا حضور لها في الرّواية وكأنّها فضلة لا اعتبار لها، أو زينة تجمّل كلمات اللّغة!! ممّا يزيد في تشويه اللغة. وفي هذا الموقف نتساءل: من هو المسؤول عن ذلك؟ أهو موظّف المطبعة، أم السّكرتيرة؟ أم الحاسوب؟ أم الكاتب؟ يقيني أنّ المسؤول الأوّل والأخير هو الكاتب، صاحب العمل الّذي تسرّع في نشره دون تنقيحه؟ لو نهج كلّ منّا هذا النّهج فكيف ستكون كتابتنا، وماذا سيصيب لغتنا؟ أرجو أن تكون هذه الرّواية منبّها لنا جميعا لنبذل مزيدًا من العناية والاهتمام بإخراج أعمالنا الأدبيّة بصورة أفضل.
من ملاحظات متعلّقة بعمليّة إخراج الرّواية ما يلحّ علينا، بحيث لا نتمكّن من ترك الحديث عن الرّواية قبل التّنويه به، وهو صورة الغلاف، فلو تأمّلنا الصّورة المثبتة في الغلاف الأمامي، لأحسسنا بالتّنافر البارز بين مضمون الرّواية وبين الغلاف وما يحوي؛ إذ تتحدّث الرّواية عن نكبة، تشرّد، وضياع ونحو ذلك، ولكننا لا نرى هذه الأمور في الغلاف، بل نرى فلاّحة في ربيع عمرها، على نقيض ستّي مدلّلة، تسرح في أمور فكريّة معيّنة وتحضن طفلها، ومفتاح بيتها في يدها اليمنى، وإلى يسارها لفّة أغراضها، وإلى يمينها تبدو كنيسة ومسجد، فكيف يقتنع القارئ اعتمادًا على صورة الغلاف أنّ الحديث يدور حول غربة، ولجوء وتشرّد؟!
جاء مبنى الرّواية في عشرة فصول أو أبواب، خالية من العناوين، واكتفى الكاتب بالإشارة للرّقم في مستهلّ كلّ فصل. أمّا السّؤال الّذي نطرحه بهذا الخصوص فهو: لماذا جعل الرّواية في عشرة فصول، وهو يعلم أنّ العدد عشرة يدلّ على التّمام والكمال، فهل يشير بذلك إلى ضياع القضيّة الفلسطينيّة وانقطاع الأمل بالعودة، مع استقرار معظم من نزحوا في البلاد الّتي استضافتهم، وتوقّف محاولاتهم للعودة؟ أم أنّه يعني أنّ أحداث روايته انتهت ولمّا تنتهِ قضيّة الشّعب الفلسطينيّ الّتي ما زالت تبحث لها عن حلّ؟ إنّ المتأمّل فيما يجري في الرّواية يتحقّق من أنّ الأمل بالعودة لم ينقطع، وسيبقى الفلسطيني رافعًا لواء العودة حتّى يتمّ له الأمر، وما يشي بذلك تسليم ستّي مدلّلة مفتاح البيت لحفيدتها فتحيّة، نعم فتحيّة، فعليها وعلى أمثالها ينعقد أمل العودة من جديد. نبارك للأخ مصطفى هذا النّتاج، آملين أن يتّخذ رأينا في الرّواية رسالة حبّ، نصح، وتوجيه؛ ليأتي العمل القادم تامًّا لا غبار عليه، وإليك أهمس أخي مصطفى قائلًا: “أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك”، والله من وراء القصد.
كلمة السيد زاهر صالح رئيس مجلس المحلي كوكب أبو الهيجا: حضرات الكتاب، الناقدين والمفكّرين المحترمين مع حفظ الألقاب، أديبُنا المحلّيُّ الأخ مصطفى عبد الفتاح المحترم والحفل الكريم، أرحّبُ بكم جميعًا أجملَ ترحيب، وأهلًا وسهلا بكم في هذه الندوة الثقافيّةِ حول رواية “عودة ستي مدللة” للكاتب المحليّ الأخ مصطفى عبد الفتاح، وهي عملٌ ثقافيٌّ إبداعيٌّ، يُعالجُ أهمَّ القضايا السياسيّةِ النفسيّةِ والاجتماعيّةِ التي رافقتْ وترافقُ اللاجئينَ الفلسطينيّينَ في الوطن، والمنتظرين العودة إلى قراهم وهُم على مَرمى حجرٍ منها، وتحملُ الرواية في طيّاتِها صورةً رائعة عن نضالِ المرأةِ الفلسطينيّةِ، ودوْر قوّتِها وإصرارِها وقدرتِها على الصبرِ والتصدّي والصمودِ، في وجهِ أعتى آلاتِ الدمارِ لوطنٍ يسكنُ في القلب.
الإخوة والأخوات، نحن في وقتٍ تشهدُ فيهِ أمّتُنا العربيّة ومجتمعُنا وشعبُنا الفلسطينيُّ تحدّياتٍ غيرَ مسبوقةٍ على جميع الأصعدة، ممّا يُلقي على كاهلِ المُثقفين مسؤوليّاتٍ كبيرةً ومتشعّبة، في المساعدة على فهم وتجاوُزِ هذه التحدّياتِ، ليس فقط بالاستجابةِ لهموم وطموحاتِ مجتمعاتِنا، بل والانخراط في بناء الإنسان العربيّ الجديد، المؤمن بدوْرهِ في صناعةِ حضارةِ العصر، من دون أن يتخلى عن هُويّتِهِ الأصليّةِ وخصوصيّتِهِ المُتفرّدة. من هذا المنطلق، فإنّ لقاءَنا اليومَ يُمثّلُ أحدَ أوجُهِ رعايةِ وتشجيع الحركةِ الفكريّةِ والثقافيّة، فهو ليسَ فقط شكلًا مِن أشكال الوفاءِ والتقديرِ للمتميّزين، ممّن يُضيفون جديدًا إلى روافدِ هذه الحركة، بل هو أيضًا ركنٌ أساسيٌّ في نهج تحفيزِ الأجيال الصاعدة، على الانخراطِ في عمليّةِ التنميةِ بأبعادِها المختلفة. هكذا نفهمُ دوْرَ الثقافةِ، لذلك لم نبخلْ يومًا في دعم واحتضان كلِّ عملٍ ثقافيٍّ بنّاءٍ، ومن هنا ينبعُ التزامُنا بأنْ نكونَ دائمًا ساحةً للقاءِ والتفاعلِ الحُرِّ بين المثقفين والمُبدعين.
ومِن مُنطلق إدراكِنا لمفهوم الثقافةِ بوصْفِها قاطرةً للتنميةِ، أخذنا على عاتقِنا مُهمّةَ تطوير المشاريع الثقافيّةِ الموجودةِ على أرض الواقع، وعلى إقامةِ مشاريعَ إنشائيّةٍ تخدمُ البُنيةَ التحتيّة للشأن الثقافيّ، وبالمناسبة، يسرُّني أنْ أعلمَكم عن بدء التخطيطِ لبناءِ مبنًى مُتعدّدِ الأهداف، يكونُ مصدرًا للمعلوماتِ ومركزًا للفنون والمسرح، لنعملَ على إشاعةِ الثقافةِ والفنون، ونشرِها وتذوُّقِها في أكبر شريحةٍ مُمكنةٍ مِن المجتمع. وسوف نتابعُ ونواصلُ دوْرَنا الثقافيَّ والفنّيَّ والأدبيّ، مِن خلال برامج ونشاطاتِ المجلس المحلّيِّ على مَدارِ العام، وعلى رأسِها احتضان المواهب المتميّزة، ودمْجها في المسابقات القطريّةِ والعالميّةِ، لرفع اسم قريتِنا كوكب أبو الهيجا عاليًا في كافّةِ المجالات، فكوكب هي كنزٌ للمواهب، وعلينا أن نخرِجَ طاقاتِ المتميّزين لترى النور، لأنّ التميُّزَ والإبداعَ يحتاجانِ إلى الدعم والمُساندة، وهذا ما أخذناهُ على عاتقِنا ونفعلُه. إنّني أجدّدُ الترحيبَ بكم في بلدِكم ووسط أهلكم، وأتمنّى لكم ندوةً ثقافيّة مُثمرةً والسلام عليكم.
مداخلة د. بطرس دلة: رواية ستي مدللة للكاتب مصطفى عبد الفتّاح هي رواية الحنين إلى الوطن، الحنين إلى مسقطِ الرأس قرية صفورية المُهجّرة، كُتبتْ بأسلوبٍ عاطفيٍّ مِن كاتبٍ ما زالتْ ذكرياتُ صفورية تعصفُ في مُخيّلتِهِ، حيث هُجّرَ وأهلُهُ مِن القريةِ التي هدّمَتها قوّاتُ جيش الدفاع الإسرائيليّ، خلالَ حرب عام النكبة 1948. الرواية ليستْ مِن الحجم الكبير، فهي تصلحُ لأنْ تكونَ قصّةً طويلة أكثرَ مِن كوْنِها رواية، فالرواية كما تُعرّفها كتبُ الأدب هي سرْدٌ نثريٌّ طويلٌ، يصفُ شخصيّاتٍ وأحداثا على شكل قصّةٍ مُتسلسلةٍ، وهي أكبرُ الأجناسِ القصصيّةِ مِن حيثُ حجمِها وتعدُّدِ شخصيّاتِها وتنوُّعِ أحداثها، وقد ظهرت الرواية كجنسٍ أدبيٍّ مميّزٍ ومُؤثّرٍ في القرن الثامن عشر في أوروبا، وفيها وصفٌ وحوارٌ وصراعٌ بين الشخصيّاتِ، وتأزّمٌ وجدَلٌ وأحداثٌ ترتكز على خمسةِ عناصر: الشخصيّات، الحبكة أو العقدة، الموضوع، الزمان والمكان، وبعض العناصر الأخرى الإضافيّةِ والمُلحَقة.
*الشخصيّاتُ قد تكونُ ثلاثيّة الأبعاد، ولها مخاوفُ وآمالٌ ونقاطُ ضعفٍ وقوّةٍ وأهدافٌ يجبُ أن تكونَ واضحة في الحياة! كما أنّها يجبُ أن تكون لديها مرونة وقدرة على التغيير عندما يعترضُها أيّ تحدّ، وأن ترفضَ الخنوعَ، وتقاومَ كي تخرجَ مِن الأزماتِ عندَ الحاجة، وأن تجدَ لها حلفاءَ يُساندونَها خاصّة في مقاومةِ الشرور، وقد تصلُ إلى درجةِ اليأس، لكنّها تعودُ للتغلّب على يأسِها، لأنّ لديها قوّةَ إيمان قد لا تتوفّرُ لغيرِها.
*أما العقدة أو الحبكة فيعرضُها الكاتبُ الروائيّ منذ بدءِ روايتِهِ، ومِن ثمّ يُحاولُ البحثَ عن حلولٍ لها، بحيث تتحوّلُ الرواية إلى رسالةٍ أو درسٍ يكشفُ عنه الكاتبُ الستارَ، مِن خلال العقباتِ التي تُثري الأحداثَ والنصوص، فالموضوع إذًا؛ هو أساسُ كلّ روايةٍ، وهو الغرضُ مِن كتابتِها، لأنّه بدون الموضوع تكونُ الرواية تافهةً، ولا قيمة تُذكرُ لها. هكذا تأتي الحبكة أو العقدة حدثا يُغيّرُ حياةَ البطل، فيحاولُ منعَهُ مِن أجلِ حلِّ العقدة، وهكذا تتصاعدُ الأحداثُ والرغبة في التغلّبِ على الشرّ، ولكنّ البطلَ يأخذ في البحثِ عن مفتاح أو أكثرَ ليَصلَ إلى الحلّ ولا يستسلمُ، وقد يتعرّضُ إلى أكثرَ مِن هزيمةٍ خلالَ محاولاتِهِ، ومع ذلك، يجبُ أن تعاودَهُ العزيمة أكثرَ مِن مرّةٍ وبقوّةٍ، مِن أجل مُواجهةِ الشرّ الذي يُقاومُه. بعدَ ذلك يصلُ البطلُ إلى الذروةِ، حيثُ يكتشفُ طبيعة العقدةِ أو الصراع، وتنضجُ أمامَهُ جميعُ العلاقاتِ الخيّرةِ والشريرة، وقد يصعبُ عليهِ حلّ العقدة، إلّا أنّهُ سيبحثُ عن المعلوماتِ التي تُعينُهُ في الوصول إلى الحلّ المطلوب، وقد يدخلُ البطلُ أحيانًا في حوارٍ مع الآخرين حولَ أحداثِ الرواية، وهنا يلجأ الكاتبُ إلى اللغة التي تناسبُ شخصيّاتِ أبطالِهِ ولهجاتِهم، ومن ذلك، أنّه قد يبتعدُ عن اللغةِ الفصيحةِ، فيُطعِّمُها بألفاظٍ عامّيّةٍ أو حتى غير عربيّةٍ أحيانًا، وكلّ ذلك من أجل الوصول إلى الإجابةِ على الأسئلةِ التي طرحَها، عندما كان الصراعُ يتأزّمُ خلالَ عمليّةِ السرد، في رواية عودة ستي مدللة، وجدنا شخصيّةً نموذجيّة لدى بطلةِ الرواية، حيثُ التزمَ الكاتبُ بنوع خاصٍّ مِن الكتابةِ الروائيّة، ألا وهو الأدبُ الوثائقيّ، فهو يُعيدُ إلى الأذهان أحداثا واقعيّة، مِن أجل دفع حركةِ السردِ إلى الأمام، كما لو كانَ صحفيًّا يُوثّقُ الأحداثَ، وهو فوقَ ذلك، يُحاولُ إثباتَ الهُويّةِ الفلسطينيّةِ، فيبتعدُ عن جماليّةِ اللغةِ الفنّيّةِ إلى لغةِ هي الأقربُ إلى البساطة، فيصبحُ النصُّ تحنيطًا للمشاعر وتطويبًا للأفكار بطريقةٍ تقريريّةٍ ومُباشرة. إنّه يبحث عن طريقةٍ لتثبيتِ الأيديولوجيّ السياسيّ قبلَ الجماليّةِ الأدبيّة! هكذا يتغلّبُ عندَهُ المضمونُ على الشكل، بحيث جاءتْ كتابتُهُ اجتماعيّة، تطرحُ القضايا الجوهريّة التي تهمُّ القارئَ العربيَّ وهمومَ الفردِ والذاتِ الفلسطينيّة.
نحن نعي أنّه عندما نحاولُ نقلَ الواقع إلى الأدب، يجبُ أن يبقى النصُّ مُحافظا على شروطِهِ الفنّيّة، وفي نفس الوقتِ لا ننكرُ، بل نتمسّكُ بحقّ وثوابتِ الشعبِ العربيّ الفلسطينيّ، لأنّنا جزءٌ لا يتجزّأ مِن هذا الشعب، والمُجابهة والمواجهة معَ الغاصب المحتلِّ تمثّلُ واقعًا مريرًا منذ النكبةِ وحتّى اليوم، لذلك، فإنّ معاناة الأنسانِ الفلسطينيّ ونضالَهُ قد ملأ صفحاتِ الرواياتِ المختلفة، ومنها هذه الرواية التي نحن بصَددِها، ستي مدلّلة. هكذا وجدنا أنّ الرواية العربيّة الفلسطينيّة قد أبرزتْ حتى الآن النقاط التالية، وهذا ينطبقُ على رواية عودة ستي مدللة وهي:
1* تطويرُ السّماتِ الإيجابيّةِ والمواقفِ الثوريّةِ ضدَّ الإرهابِ اليهوديِّ وقتلِ الهُويّةِ الفلسطينيّة.
2* تأكيدُ الهُويّةِ الفلسطينيّةِ والانتماءُ القوميُّ والنضالُ الوطنيُّ، مِن أجلِ إحقاقِ الحقّ.
3* تطويرُ المواقفِ الواعيةِ وإسقاطُ النّكراتِ التافهين.
4* التأثرُ باللغةِ العبريّة.
5* اللجوءُ إلى التراثِ فنّيًّا وأيجابًا وتوظيفُهُ، بحيث تمتزجُ خصوصيّةُ الشخوصِ مع عراقةِ التراث.
أبطالُ ستي مدللة مأخوذونَ مِن واقع الحياةِ، ومِن طبقةِ المسحوقينَ المحرومين مِن حقّ الحياة. هنا تلعبُ المرأة دوْرَ البطلِ الرئيسيّ في هذه الرواية، وهي بطلة ذاتُ شخصيّةٍ مُدوّرةٍ يُعطيها الكاتبُ صفاتٍ ثابتة، وتظلُّ على مواقفِها مع تغيُّرِ الزمانِ والمكان، فالزمكانيّة ليس لها فِعلٌ في نفس هذه البطلةِ الحيّةِ ستي مدللة إلّا قليلا، وتظلّ ترنو إلى قريتِها مسقط رأسِها، حتى بعدَ هدمِها ومماتِها. ومع أنّ الكاتبَ قد سخّرَ العديدَ مِن الشخصيّاتِ في هذه الرواية، إلّا أنّ البطلة المرأة تظلُّ تلعبُ دوْرَ البطولةِ الرئيسيَّ في حياةِ هذه الرواية.ما يُلفتُ الانتباهَ لدى قراءة هذه الرواية، أنّ المؤلّفَ تَعاملَ مع الأحداثِ والهجيج والترحيلِ عن الوطن، كما لو كانتْ تحدثُ اليوم، ولذلك وجدنا البطلة اليائسة على الرغم من عنفوانِها وعزمِها البطوليّ، والمؤلفُ كثيرُ العطفِ على أبطالِهِ، ويأخذنا معهُ إلى العطفِ عليهم، ويَعزو فشلَ النضال الوطنيّ الفلسطينيّ إلى فشلِ وضعفِ وخيانةِ الأنظمةِ العربيّةِ والجيوش العربيّة، خاصّة جيش الإنقاذ الذي أقامَتْهُ جامعة الدول العربيّة، بقيادةِ فوزي القاوقجي مِن أجل تحرير فلسطين. فاذًا؛ هو خائنٌ لفلسطين وبعيدٌ كلّ البعدِ عن العمل الوطنيّ الحقيقيّ، لا بل يمنعُ الفلسطينيّين مِن النضالِ والمقاومةِ والدفاع عن أراضيهم وقراهم وحقوقِهم، ويبيعُ الوطنَ مِن خلف ظهورهم.
وجدتُ في هذه الروايةِ كاتبًا يعيشُ أجواءَ القريةِ الفلسطينيّة، فيصفُ زوايا البيتِ الفلسطينيِّ وساحاتِ البيوتِ، ومعيشةِ الدواب داخلَ وبجانب الأهالي، وهي صورةٌ حقيقيّة لِما كان لدى أهلِنا منذ عام النكبة، وقد فقد أبطالُها أملَهم في تحقيق العودة، وإعادةِ إعمار القرية وتحقيق الثوابتِ الفلسطينيّة، والتي أوّلُها حقُّ العودة وإقامةِ الدولةِ الفلسطينيّةِ وعاصمتها القدس الشريف، والحقيقة الأخرى هي، أنّ الكاتبَ أسبغَ على بطلتِهِ ستّي مدللة الكثيرَ مِن الصفاتِ الإيجابيّة، بحيث جعلها نموذجًا حيّا لكلّ الجدّاتِ الفلسطينيّات اللواتي لا يخشيْنَ الموتَ في سبيل الوطن، وإذا كان عنوانُ الرواية “عودة ستي مدللة”، فإنّ عودة بطلتِهِ هذه ليست كاملة! صحيح أنّها عادتْ من لبنان إلى فلسطين، إلّا أنّها لم تعُدْ إلى صفورية، وهي الهدف الأساسيّ لدى هذه البطلة، ولدى كل فلسطيني مؤمن بحقه في الحياة. وهذه هي الحقيقة المُرّة! لقد تأثرت كثيرًا مِن أحداث روايتك، حيث مرّت في مخيلتي بعض أحداث عام النكبة، عندما كنّا على وشك ترك كفرياسيف والهرب إلى لبنان، واستعدت في مخيلتي ما حصل معنا، ودوْر رئيس مجلس كفرياسيف المحلي آنذاك المرحوم يني قسطندي يني الذي منع السكان من الهجيج وحافظ على كفرياسيف كما هي كذلك وعي الأهالي الذين ساندوا موقفه في حينه، ولكننا رأينا أسرابَ الهاربين من القرى المجاورة، خوفا من المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في قبية وعيلبون ودير ياسين وغيره. ما قلته حتى الآن لا يقلل من أهمّيّة الرواية، بل على العكس، أعتقد أن شبابنا في كوكب أبو الهيجا والناصرة وكفرياسيف وغيرها بحاجة ماسّة إلى قراءة هذه الرواية، لأنّها تعلمهم أهمّيّة التمسّك بالوطن وبروح النضال الحقيقيّ من أجل إحقاق الحقّ، فحتى ذلك الحين لك الحياة أيّها الصديق!
العريف عفيف شليوط: الكاتبُ المُحتفى به مصطفى عبد الفتاح عشقَ الأدبَ وعملَهُ في إدارة المكتبة العامّة في قريتِهِ وأخلصَ له، ممّا دفعَ وزارة الثقافة إلى منحِهِ جائزة تقديريّة عام 2011، تُمنحُ مرّة كلّ سنتين لأفضل مدير مكتبة من قِبل وزارة الثقافة والرياضة قسم المكتبات، وتقديرًا لعملهِ الدؤوب، وعطائهِ المستمرّ في بناء المكتبة العامّة، وترسيخ أهدافها ورسالتها بين الأهالي، فقام خلال عمله على مدار عشرين عامًا بتأسيس المكتبة وتطويرها، وأدخل عليها كلّ جديد في عالم الكتب والمعلوماتيّة، حتى أصبحت من أجمل المكتبات وأنجحها وأكثرها نشاطا في الوسط العربيّ. بالإضافةِ إلى عمله في المكتبة العامة، فقد نشط في داخل مجتمعه في الأعمال التطوعيّة والثقافيّة، ووقفَ دائمًا إلى جانب تطلعات شعبه بكلّ أمانة وإخلاص، كما قام بكتابة العشرات من المقالات الثقافيّة والفكريّة والسياسيّة، ونشرها في الصحف وصفحات الشبكة العنكبوتيّة، وقام بتأليف وإصدار كتابيْن هامّيْن، الأوّل عن الزجل والتراث الشعبي تحت عنوان مهرجان الزجل القطريّ الأوّل، والثاني عن تاريخ كوكب في العصر الحديث، تطرّق فيه إلى الدور الرياديّ والمسؤول لجبهة كوكب في تطوير وبناء القرية العصريّة، تحت عنوان “جبهة كوكب الديمقراطيّة تاريخ وعراقة”. كما أسهم إسهامًا كبيرًا في إعداد وتحضير وكتابة موادّ كتاب “كوكب أبو الهيجاء جذرها في الأرض وفرعها في السماء” .
يقول عبد الفتاح عن الجائزة إنّها ذات قيمة معنويّة عالية بالنسبة لي، وهي رسالة شكر وعرفان لي من قِبل المسؤولين عن العمل، والدور الذي قمت به خلال عملي المتواصل في المكتبة العامّة، وأنا بدوْري أعتبر أنّ الجائزة هي هدية جميلة، أقدّمها بدوْري لكلّ أبناء شعبي ولجميع أهالي قريتي كوكب، وهي رسالة شكر وامتنان لكل من ساهم وساعد وقدّم في العمل، وفي مقدّمتهم أفراد أسرتي، زوجتي المعلمة الرائعة التي قدّمت كلّ طاقاتها في تربية الأجيال وما زالت، وأبنائي جميعا الذين لم يخذلوني أبدا في تعليمهم الجامعيّ، كي يخدموا شعبَهم ومجتمعَهم، ويقدّموا له ما لم أستطعه أنا، ويكونوا قدوة ومثالًا لمجتمع راق ومتعلم ومعطاء، وإلى كلّ القرّاء وروّاد المكتبة الذين أحبّوا المكتبة ودعموها، واعتبروا المكتبة بيتهم الدافئ، وملاذهم في ساعات الفراغ، وصديقهم في ساعات الوحدة والتأمل في كنوز ومكنونات البشريّة من العلم والمعرفة .
كوكب أبو الهيجاء قرية مميّزة بموقعها وسكّانها، بتاريخها وهوائها، وهذا انعكسَ إيجابًا على أخلاق ومزاج سكّانها، فيتميّزون بهدوئهم وطول بالهم، بمزاجهم الهادئ، وخلال عملي في مكتبتِها العامّة، تعرّفت على أهلها الطيّبين المحافظين على هُويّتهم وانتمائهم، والمنفتحين على الآخرين، ويُكرمون الضيف والزائر، فيشعر من يدخل هذه القرية بالراحة والطمأنينة، فتعمل بكلّ طاقتك كي لا تفقد تلك العلاقة المميزة معهم، ذلك الكنز الذي لا يُقدّر بثمن. فشكرًا لكم على حسن استقبالكم ومحبّتكم، شكرًا لكم على سماحتكم لأنكم قدّمتم لنا الكاتبَ المُبدع مصطفى عبد الفتاح، لينضمّ إلى قافلة الأدباء والشعراء الفلسطينيين الذين ساهموا ويساهمون في دعم مسيرة أدبنا الفلسطينيّ في هذه الديار.
مداخلة الكاتب مصطفى عبد الفتاح: الإخوة والأخوات السيدات والسادة الأفاضل، أحيّيكم أجمل تحية، وأشكر حضورَكم اللافت في هذه الأمسية الأدبيّةِ الاحتفاليّة فردًا فردًا، فحضورُكم يَزيدني فخرًا واعتزازا بكم، وهو وسامُ شرفٍ لكوكب وأهلها. اسمحوا لي أوّلًا أن أشكرَ كلّ مَن بادر ورعى ودعا لهذه الأمسيةِ الجميلة، رئيس المجلس المحلي السيد زاهر صالح، وهل أروع مِن أن يعطي رئيس المجلس المحليّ اهتمامَهُ للعلم والأدب والثقافة والتراث، وشعارُهُ بناءُ الإنسان قبلَ بناء المكان، هذا هو طريقُ أيّ شعب نحو العُلا، كما وأشكرُ مديرَ قسم المعارف في المجلس السيد مصطفى خليل، على جُهدِهِ المتواصل من أجل إخراج هذه الأمسية إلى حيّز التنفيذ، وأشكرُ مديرَ المدرسة الشاملة الأستاذ يوسف منصور على استضافته لنا في هذا الصرح العلميّ الجميل والجديد. الشكرُ والامتنانُ لاتّحاد الكرمل للكتاب والأدباءِ الفلسطينيّين، وأخصّ الأستاذ الشاعر على هيبي الذي رافقني في تصحيح الرواية في مراحل إصدارها الأخيرة، وأشكرُ مكتبة كلّ شيء بإدارة الأستاذ الرائع صالح عباسي، على جهوده المباركةِ في نشر الرواية وإيصالها إلى العالم العربيّ، فهو سفيرُنا الثقافيّ في العالم العربيّ، وأشكر الفنان ابن قريتنا الأخ فوزي حاج، الذي رسم لوحة الغلاف المعبّرة، وأشكر د. عدنان أبو الهيجاء الذي نقش انطباعاتِهِ كمهنيّ على صفحةِ الغلاف، وأشكرُ شاعرَنا الأستاذ أحمد طه على كلمتِهِ الرقيقة المُعبّرة، وبكلّ فخرٍ واعتزازٍ أشكرُ ابنَ صفورية الذي أضاف اسمَ قريتهِ إلى اسم عائلته، فأصبحتْ عائلتُهُ قريتَهُ وقريتُهُ عائلتَهُ، الناقد والباحث د. محمّد صفوري، الذي تفضّل مشكورًا في نقدِ وتحليل الرواية بشكلٍ مهنيّ، وشكر خاصّ لأستاذي ومعلمي الناقد د. بطرس دلّه، الذي علّمني أبجديّة حبّ الوطن والأرض والإنسان، علّمني التاريخ كما أحبّ أن نعرفه رغم أنف السلطة. فدرست التاريخ وأحببت الوطن. وتحيّة لعريف الحفل الكاتب والمسرحيّ الأستاذ عفيف شليوط، الذي أكِنُّ له كلّ التقدير والمحبّة، وتحيّة أخرى للكاتبة والأديبة أسمهان خلايلة التي كتبت انطباعاتِها عن الرواية.
أشكرُ كلّ مَن فاتني ذكرُ اسمِهِ، وأشكرُ جميعَكم وكلّ مَن ساهمَ وعملَ لإخراج هذه الأمسيةِ إلى النور، فحضورُكم شرفٌ كبيرٌ لي. كم جميلٌ أن تقامَ هذه الندوة في آذار، آذار الثقافةِ والفكر، آذار يوم المرأة العالميّ، والرواية بطلتُها امرأةٌ مناضلة شجاعة، شقت طريقَ عودتِها في الواقع وفي الخيال، وهنا أودُّ أن أذكرَ، أنّها قليلة هي الرواياتُ التي خُصّتْ وأعطتِ المرأةَ الفلسطينيّة حقّها، في إبرازِ دوْرِها النضاليّ الذي لا يقلُّ عن دوْرِ الرجُلِ في النضالِ والتّحمُّلِ والصّمودِ في هذا الوطن، فكلُّ آذار والمرأة بألف بخير، وآذار الأرض والتاريخ والتراث والثقافة والأدب، آذار الخير والمَحبّة والعطاء، فكلّ اذار وأنتم بألف خير.
أيّها الإخوةُ والأخوات في الحفلِ الكريم: النقدُ هو مرآةُ الأدب وبوصلةُ الأديب، أيًّا كان موقفُ النقّادِ مِن نصوصِهِ، على الناقد أن يُسلّط الأضواءَ على النصوص الأدبيّة بالتحليل والتأويل، سيكون نقدهم هو بوصلتي في كتاباتي القادمة، السلبي منها والايجابي، فالنقد لا يعني أبدًا أن نبرز السلبيّات فقط في الأعمال الأدبيّة، وإنّما وبالأساس هو استعراض مدروس لخفايا وخبايا النصوص الجميلة، والإيحاءات العميقة في العمل الأدبيّ. عندما يسطر التاريخ أصعب لحظاته وأقساها، فإنّه يكتب نفسه بالخط العريض وبعناوين كبيرة، تاركا خلفه كلّ التفاصيل الصغيرة ليهتمّ بالكبيرة, وتبقى تفاصيله الصغيرة في عداد الغيب أو التغييب، وكأنّه لا وقت لكتابتها، وربّما تأبى الذاكرة أن تسرد تاريخ الأشياء الصغيرة في حجمها عميقة الأثر في النفس البشريّة، حتى تكتشف أنّ هذه الأشياء الصغيرة المهمَلة هي أجزاء الوطن المتناثر في كلّ مكان، والتاريخ الحقيقيّ الذي يأبى النسيان، والذاكرة الأصيلة التي تتبوّأ عرش المكان، ومع الأيّام تمحى كلّ الصور الكبيرة، لأنّها تحاول أن تصبح مألوفة وتبقى في الذاكرة أحداث لم يخطها إنسان، فأنت تكتب روايتك من الهمّ الفلسطينيّ وقلب المعاناة، من الجرح النازف عبر الأيّام والسنين، الجرح الذي يعيش فينا ولا يقبل أن يندمل، ولا نريده أن يندمل، بل نريده أن يشفى تماما كما نريد.
أن تكون مُهجّرًا من أرضك ووطنك، فهذا ظلم لا يمكن احتماله، وأن تكون حاضرًا غائبًا ومُشرّدًا في وطنك وعلى مرمى حجر من بيتك وقريتك وأرضك، فهذا الكارثة بعينها والألم الحقيقيّ والنكبة بكلّ أبعادها. لم أكتب روايتي عن أحداث النكبة والتهجير والممارسات الإجراميّة اللّا إنسانيّة، بقدر ما كتبت عن الإنسان الفلسطينيّ المقتلَع من بيته، المُهجّر المنكوب في أرضه ووطنه، وعن أحاسيسه والصّراع في نفسه، عن المرارة والألم والظلم والقساوة في التعامل من القريب قبل الغريب، وعن عُمق المشاعر والأحاسيس التي يعيشها اللاجئ، لا يعرفها إلّا اللاجئ، فكان لي شرف ان أعيش مع رفيقة دربي وملهمتي التي وفرت لي كلّ الظروف لكتابة هذا النصّ الأدبيّ، والذي رافقتني فكرته لسنوات طويلة حتى أخرجته إلى الحياة، لعله يخفف من الآلام ويستطيع أن يضع الإصبع على الجرح، وربّما ليزيل غبار الغربة عن جرح لا يندمل.
بدأت رحلتي مع الرواية منذ سنوات طويلة لا أذكر عددها، وبالتحديد عندما أعلمتي زوجتي أنه كان لها جدة جميلة، رفضت فكرة التهجير وأن تكون مُهجّرة في وطنها، وغضبت من كلّ مَن اختصر اسمَها باسم قريتها ليُميّزها، وليُشعرَها أنّها غريبة، وبقدر حبّها واعتزازها بقريتها وأرضها، هذه الجدة عاشت الغربة والتهجير في الوطن بكلّ دقائقه وتفاصيله، ولكنها لم تتكلم أبدًا عن عُمق معاناتها، فكان كبرياؤها وعزة نفسها ورغبتها الجامحة في استمرار الحياة بشكل طبيعيّ يَمنعانها أن تبدي ألمها، فحملت قصّتها في قلبها إلى أن فقدت ذاكرتها بحُكم السن، ولم يبقَ من الذاكرة إلّا تلك التفاصيل الصغيرة التي نسيها التاريخ وكتبتها الرواية، وعودتها الحقيقيّة المتخيّلة إلى الوطن. إنّها رواية ستي مدللة أيّها الأفاضل، هي جدّتنا جميعا، هي أمّي وأمّك، هي أختي واختك. هي روايتنا جميعا، رواية شعب يأبى النسيان.
آمال عوّاد رضوان