الدفتر
تاريخ النشر: 07/05/16 | 9:07ريح باردة هبّت على وجهي عندما ترجّلتُ من السيارة وسلكتُ طريقي نحو مدخل البناية. منذ صباح البارحة لم أكن هنا. أفكارٌ كثيرة استولت على رأسي، صورٌ من الماضي غمرتني، أزعجتني، هدّدتني. تعابير وجه الطبيب لم تفارقني منذ البارحة وهو واقف أمامي، يهزّ وجهه، يغرز بي نظرة من الأسى ، معلنا لي أن المرض انتشر في كل جسدها، يأكلها من داخلها، يأكلها كلّها.
كم بقي لها؟
ليس أكثر من شهر.
لم أستطع رؤيتها.
السماء كانت رمادية، كئيبة، وشمس البارحة الدافئة لم يعُد لها وجود. دخلتُ إلى المصعد.
كانت هذه أول مرة أدخل فيها إلى هناك دون إذنها. كُتبها الكثيرة تزاحمتْ على الرفوف التي في غرفتها العلوية. كانت دائما تحبّ القراءة، وأنا عرفتُ كم تحبّ الانفراد بعالمها الخاص، وكنتُ حريصا على عدم إزعاجها ولا الصعود إلى هناك، إلا إذا دعتني بنفسها.
لم أفكّر بكل ذلك، البارحة، حين خرقتُ تلك العادة. فعلتُ ذلك من أجلها. فقد بحثتُ لها عن كتاب تحبّه كي آخذه معي إليها، على أمل أن يخفّف عنها قليلا. وفجأة… لمحتُ الدفتر؛ دفتر سميك، أزرق، راقد وحده هناك بين الكتب. في البداية، لم أنتبِه أنه دفتر. بدا لي كأنه كتاب بغلاف أزرق. لا أدري لماذا أخرجته هو بالذات، نظرتُ إلى غلافه الأزرق، تصفّحتُه قليلا. كان يبدو كأنه يوميات.
عرفتُ أنه شيء خاص جدا وأردتُ إرجاعه إلى مكانه، ولكنني لم أفعل. كان هناك شيءٌ ما أقوى مني بكثير.
****
«أحضرتَ لي شيئا؟» سألتني وهي تبذل جهدها لرفع ابتسامة على شفتيها.
«ماذا؟؟» تعجّبتُ.
«قلتَ إن لديك مفاجأة لي.»
«اهه… صحيح. سأحضرها لك في المساء. أنا آسف. كنتُ مستعجلا قليلا هذا الصباح و… نسيت.”
«لا داعي لأن تعود في المساء. أنا بخير.»
«لكنني أريد أن أعود.»
ارتسمت علامات الرضا على وجهها، وأنا تأمّلتُ في عينيها فرأيتُ أمام عينيّ تلك الفتاة ذات التسعة عشر عاما، شعرها أسود، طويل، متموّج، ابتسامتها ودودة، بريق مشاكس يلتمع في عينيها الخضراوين، ترقص، تقترب، تبتعد، تحلّق حولي كريشة في الهواء، نظرات الإعجاب تلوح من عينيها، ابتسامة الغموض على شفتيها… تأسر قلبي.
كل ما فيها كان ينبض بالحياة، تحبّ كل ما حولها، تجد سببا لتضحك من أصغر الأشياء. كنتُ أعلم بعلاقتها بشاب آخر قبلي، هي أخبرتني، ولكن دون أن تدخل في التفاصيل، وأنا لم أسألها عنه.
«لماذا عليّ أن أعرف؟ ذلك ليس مهما. المهم هو ما أعرف الآن وأحسّ به.» هكذا قلتُ لها في ذلك اليوم الربيعي، قبل عرسنا بأسبوع، حين جلسنا في المقهى وتعجّبتْ: لماذا لا أسألها عن علاقتها به؟
بدتْ على وجهها علامات الحيرة. «ألا يثير ذلك اهتمامك؟»
«لا.» أجبتُ. «فقط أنتِ تثيرين اهتمامي.» ثم أخذتُ يدها وتأمّلتُ وجهها عميقا. تلألأت الدموع في عينيها. ومنذ ذلك اليوم لم نتحدث عنه على الإطلاق.
****
«أنت بخير؟» سمعتُ صوتها يسأل، يلوح منه القلق.
«نعم.» أجبتُها ولم أضِف شيئا آخر. قمتُ من مكاني واقتربتُ من النافذة، وقفتُ، أطلّ على البحر. سحبٌ سوداء غطّت السماء، الريح صفّرت بقوة وأمواج البحر هاجت وتحطّمت على الشاطئ.
«تبدو متعبا.» قالتْ.
«أنا بخير.» أجبتُ دون النظر إليها.
ساعات طويلة جلستُ هناك، في غرفتها، حاملا الدفتر. الهدوء حولي كان مرعبا. لماذا تحتفظ بكل هذا؟ لماذا عليها أن تحتفظ بالذكريات إن كان كل شيء قد انتهى؟ أم أنه لم ينتهِ؟ أيُعقل أنها تريد أن تتذكّر؟ لم أسألها عنه أبدا. لم يخطر ببالي أنها تحتفظ.
هل استمرّت في حبّه؟ لماذا تزوّجتني؟ هل هي حقا تحبّني؟
«أنت تبعث في نفسي سعادة كبيرة.» همستْ في أذني في تلك الليلة الرّبيعية، الباردة قليلا، على متن السفينة، في طريقنا إلى رودوس. العرس من ورائنا، كل العالم بقي من ورائنا، فقط نحن الاثنان، وحدنا، والقمر الممتلئ فوقنا.
ريحٌ باردة هبّت على وجهينا، وأنا ضممتها إلى صدري وأحسستُ بموجات الدفء المتصاعدة في داخلي. «ربما تكتشفين مع الأيام أنني لستُ تماما ذلك الرجل الذي ظننتِه؟ ذلك الذي قلتِ عنه يوما ما إنه يبعث في نفسك سعادة كبيرة؟»
ضحكتْ. «كلّنا نكتشف مع الأيام أمورا ليست لطيفة جدا.»
وأنا ضحكتُ معها وحلّقتُ بها بعيدا عن هذا العالم. بعيدا جدا.
المطر بدأ يهطل وأخذ يطرق على زجاج النافذة.
«أريد أن أقول لك شيئا.» صوتها وصل إلى مسمعي خلال هواء الغرفة المشحون بالتوتر.
إلتفتُّ إليها، متعجّبا. خطوتُ إليها وجلستُ قربها على الكرسي.
قالت: «لديّ… دفتر… بين كتبي… إنه أزرق. كتبتُ فيه… أشياء خاصة.» أرختْ نظرتها وسكتتْ.
«نعم؟؟»
«لا تقرأه.»
«لماذا؟»
«لأنك… لن تفهم.»
لم أقُل شيئا.
نظرتْ إليّ طويلا. وفجأة… ارتعدتْ عيناها. «أنت قرأته؟؟»
لم أجرؤ على الالتقاء بعينيها. «لا.» قلتُ بعد تفكير. «لا يهم. ذلك ليس مهما أبدا.»
عندها، ابتسمتْ رغم كل شيء.
حوا بطواش -كفر كما