وقفات رمضانية
تاريخ النشر: 08/06/16 | 1:33إنَّ الحمد لله نَحْمدُه، ونستعينُه، ونستغفِرُه، ونعوذ بالله مِن شُرُور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه الله فلا مُضِل له، ومَن يُضْلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعدُ:
فمعاشِر المسلمين، إنَّ نِعَم الله علينا كثيرةٌ، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، والحمدُ لله الذي أَسْبَغَ علينا الأمْنَ والأمان، والحمدُ لله الذي بَلَّغنا شهر الصِّيام والقِيام، والحمدُ لله الذي أَلْبَسَنا لِباس الصِّحة والعافية.
معاشر المسلمين:
في هذا الموسم العَظيم شعورٌ، ومشاعر ربانيَّة، ونفحات وسَكِينة، وخُشُوع وإخبات، ولنا جميعًا وَقَفات مُتَعدِّدة، وقفات تربويَّة وسلوكيَّة، ووقفات تَتَعَلَّق بِعِبَادة الصائم، ودعائه، وقيامه، وطهارته.
الوقفة الأولى: تنوُّع العِبَادات:
وذلك مِن حكمة الله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83]، عباداتٌ قوليَّة، وعبادات فعليَّة، وعبادات قلبيَّة.
وفي ذلك مصالح عديدة:
زيادة اليقين بِعَظيم حكمة الله تعالى ومِن مصالح تنوُّع العبادات: نشاط العباد في تَأْدِية عباداتهم، فإنَّ العباد إذا لَزِموا عبادةً واحدة، ليس لهم إلاَّ هي، فقد يَعْتَرِيهم سآمةٌ ومَلَل، ولكن كان مِن حكمة الله تعالى أنْ نَوَّعَ لهم بين العبادات؛ ليَطْرُد السَّآمَة والمَلل عنِ النفوس، وليكونَ ذلك أكثر نَشَاطًا، ذلك لأنَّ تَغَيُّر هيئات العبادة يُهَيِّئ النَّفس لِتَكونَ أكثر استعدادًا، وتَقَبُّلاً، فصيام وقيام، وتلاوة، ودعاء، وصدقات، وغير ذلك، مما يُهَذِّب النُّفوس والقُلُوب.
معاشر المسلمين:
الوقفة الثانية: ما بين الرَّمضانَيْن:
رمضان السَّنة الماضية، ورمضان هذه السَّنة التي نَعِيشها الآن، عامٌ كامل بين الرَّمضانينِ، مَضَتْ أَيَّامُه، وتَقَطَّعَتْ أوصالُه، ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]، ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140].
بين الرَّمضانين أحداثٌ وعِظات، وعِبَر وعبارات، كان بين الرمضانينِ أمورٌ كثيرات، ووُلِد أناسٌ، ومات أناس، أناس صاموا معنا في رمضان المنسلِخ، وتَسَحَّروا معنا، وأَمَّنوا على دعاء أئمتنا، ثم شاركونا فَرْحة العيد، ثم ماذا كان شأنهم في هذا الوقت؟ سَأَلْنا أين فلان؟ فقالوا: تحتَ أطباق الثَّرَى، وأين فلان؟ قالوا: مات قبله، وأين فلان؟ قالوا: ماتَ بعدَه، وأين فلان؟ قالوا: حبسه فراش المَرَض، ونحن نلبس لباس الصِّحة والعافية، فلا إله إلا الله، ما أعظم تَدْبيره، وما أجل حكمته، يخلُق ما يشاء ويختار، ويفعل ما يشاء ويحكُم ما يريد.
معاشر المسلمين:
الوقفة الثالثة: ينقَسِم الناس في رمضان إلى أقسام متعددة:
فبعضهم يستقبل رمضان بِشَغَف وشَوْق وهِمَّة عالية، فإذا جاء رمضان شَمَّرُوا عن ساعِد الجِدّ، واجتهدوا في العبادات المتنوعة، مِن صيام، وصدقة، وصلاة، وبِرٍّ، وتِلاوة، وهذا الصِّنف منَ الناس همُ الذين كانوا على منهج النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: “كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود بالخَيْر منَ الرِّيح المُرْسَلة، وكان أجود ما يكون في رمضان”.
معاشر المسلمين:
وقسمٌ آخر، يَتَأَثَّرون بِسَكينة الصيام والقيام، فإذا انسلخَ رمضان، رجعوا إلى ما كانوا عليه، لم تَتَهَذَّب نفوسُهم بعد رمضان، ولم يستفيدوا بعدَ سكينة الصِّيام والقيام.
وقِسْم منَ الناس يدخُل عليهم رمضانُ، ثم يخرجُ ولِسَان حالِهم: كأنَّك لم تسمع ولم يقل، ما زالوا على معاصِيهم، تَثَاقَلوا الصيام والقيام، فالله تعالى نسألُ أن يَرُدَّهم إلى الصَّواب ردًّا جميلاً، وأن يأخذَ بِأَيْديهم للحَقِّ، وإلى الطريق المستقيم.
معاشِر المسلمينَ:
الوقفة الرَّابعة: تَتَعَلَّق بِتَلْبِيسٍ من تَلْبيس الشيطان على بعضِ المُصَلِّين في رمضان:
ذلك أنَّ بعض المُصَلِّين في صلاة التَّراويح، يَعْمَدُون إلى أن يقصدوا إمامًا مُعَيَّنًا لِحُسْنِ صوتِه؛ فيَتَوَافَدُون على مَسْجدِه آحادًا، ومثنى، وثلاث، ورباع، وليس الشأن في هذا، إنَّما الشأن فيما يكون من تضييع صلاة العِشاء، فبعض أولئكَ الذين يذهبون لإدراك التراويح كامِلة، ترى بعضهم يَتَجَاوَز عددًا منَ المساجد، وقد يسمع إقامة صلاة العشاء؛ بل قد يسمع بعض الأئمة قد شرع في الرَّكعة الأولى، أو قدِ انتهى منها، ولا يزال بعض أولئك مستمرِّين في سَيْرهم إلى تلك المساجد التي يَقْصُدونها، ولو ذَكَّرتهم بِوُجوب صلاة العشاء، وأنها قد أُقِيمت لكان لسان حالهم ومقالهم: أنَّهم يَحْرصون على إدراك صلاة التراويح كامِلة مع الإمام، حتى يُكْتبَ لهم قيامُ ليلة، تَأَسِيًّا بِقَول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قام مع الإمام حتى ينصرفَ، كُتِبَ له قيام ليلة))، ولكن أولئكَ غفلوا أنَّ صلاة الفرض واجبة، وأن صلاة التراويح تَطَوُّع، ولو لم يصلِّ التراويح لن يُؤَثِّمَهُ أحد، ومَن أثَّمَهُ فهو آثِم، أمَّا تضييع صلاة العشاء على حساب إدراك صلاة التَّراويح، فذلك منَ الجهالة بِمَكان.
والأَدْهَى والأَمَرّ أنَّه قد يعلم أنَّ إمامَه ذاك، قد شرع في صلاة التراويح، وقد فرغ من ركعة أو ركعتين، ولكن حِرْصه على إدراكِ التراويح جَعَلَه يستمرُّ في سَيْره، وهذا مِن تلبيس إبليس كما سَلَف.
فإن كان ولا بدَّ ذاهبًا، فإمَّا أن يُبَكِّرَ إلى الذهاب حتى يدركَ العشاء والتراويح، أو أن يصلِّيَ العشاء ثم يسلُكُ سبيلَه حيث شاء، اللهَ نسأل أن يهدينا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلاَّ هو، وأن يصرفَ عنا سَيِّئها، لا يصرفُ عنَّا سيئها إلاَّ هو.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.