الجوار الكنس: رؤية جديدة
تاريخ النشر: 10/05/16 | 1:15لنتأمل هذه الآية الكونية التي حدثنا الله تعالى عنها، بل وأقسم بها أن القرآن حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم على حق، ونتأمل الهدف من ذكر هذه الحقيقة في كتاب الله تعالى….
من الآيات العظيمة التي حدثنا الله تباركوتعالى عنها بل وأقسم بها (الخُنّس) يقول تبارك وتعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُرَسُولٍ كَرِيمٍ) [التكوير: 15-19]. هذه الآيات تحدثنا عن مخلوقات كونية سماها القرآن (الخُنّس)، ولكن ما هي هذه المخلوق اتوكيف فهم أجدادنا رحمهم الله تعالى هذه الآية؟ وكيف نفهمها نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين بعدما تطورت علوم الفلك؟ لكي نتخيل عظمة وثقل هذهالمخلوقات، نلجأ إلى التشبيه التالي: فلو أن أرضنا تلي يبلغ قطرها 12.5 ألف كيلومتر تحولت إلى ثقب أسود سيصبح قطرها أقل من سنتمتر واحد! هذا ما يؤكده علماء الفلكاليوم، ولكن ما هي قصة هذه الثقوب، وكيف تتكون، وأين توجد، وهل تحدث القرآن عنها؟
إذا ما تأملنا تفاسير القرآن نجد بأن معظم المفسرين يقولون: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) هي النجوم، تختفي بالنهار وتظهر في الليل، فكلمة (الخُنّس) جاءت من فعل (خنس) أي استتر وغاب واختفى، هذا في اللغة، ولذلك قالوا هذه النجوم تختفي أثناء النهار فهي خُنّس. و(الجوار) تعني تجري، هم يشاهدونها تجري أمامهم و(الكُنَّس) قالواإنها تكنس صفحة السماء عندما تغيب.
ولكن الذي يتأمل هذا التفسير يلاحظ أنه غير دقيق.. لماذا؟ إن الله تبارك وتعالى عندما قال (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) إنما يحدثنا عن مخلوقات كونية لا تُرى، ولذلك سمىا لله الشيطان ب(الخناس) فعندما نقرأ قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [سورة الناس] فكلمة (الخناس) تعني الذي لا يُرى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَاتَرَوْنَهُمْ..) [الأعراف: 27].
إذن كلمة (الخُنّس) لا تنطبق على النجوم، لأن الله تبارك وتعالى يعطينا حقائق يقينية مطلقة لا تتعلق فقط بأهل الأرض، ولكن هذا القرآن يصلح للكون بأكمله، يعني إذا خرجنا إلى أي مكان في الكون خارج الأرض، فإن هذا القرآنصالح لكل زمان ومكان، وبما أن الله تبارك وتعالى أقسم بهذه المخلوقات وقال (فلا أقسم بالخنس) فهذا يعني أن الله تبارك وتعالى يتحدث عن أجسام أو كائنات لا تُرى أبداً، أما (الجوارِ) فتعنيتجري من فعل “جرى” فهي جوارٍ تجري، و”كنّس” أي تجذب وتكنس أي شيء تصادفه في طريقها،هذه هي الصفات الثلاث لهذه المخلوقات التي حدثنا عنها القرآن.
عندماينفذ وقود النجم، عندما يُستهلك وقوده فإنه يشرف على الموت أو الهلاك، وهنا آيةعظيمة تتجلى عندما أقسم الله تعالى بهذه الظاهرة ظاهرة سقوط النجم على ذاته، يقولتبارك وتعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) [النجم: 1-2] فكل نجم في الكون لا بد أن يكون له نهاية، وهذهالآية (والنجم إذا هوى) ليست خاصة بنجم واحد، بلتنطبق على كل نجوم الكون.
إن هذه النجوم خانسة أي لا ترى، ومن هنا ندرك أن الله تبارك وتعالى عندما قال: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) فإنما هذه الكلمة صالحة لكل زمان ومكان وأن هذه الأجسام لا تُرى مطلقاً. وهذه الأجسام أيضاً يقول العلماء عنها أنها تجري مثلها مثل بقية النجوم (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 40] لا يوجد نجم واحد ساكن في الكون كل الأجسام في الكون بما فيها الغبار الكوني والدخان الكوني وغير ذلك جميعها تتحرك بنظام محكم.
وهكذا تتجلى أمامنا أهم صفات الثقب الأسود وهي أنه لا يرى وأنه يجري بسرعات كبيرة وأنه يكنس ويجذب أي شيء يجده في طريقه وهذه الصفات الثلاثة هي ما حدثنا عنه القرآن فيثلاث كلمات عندما قال تبارك وتعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ،الْجَوَارِ الْكُنَّسِ).
يقول العلماء إن جاذبية الثقب الأسود كبيرة جداً ولكنها تؤثر فقط علىالأجسام القريبة، وهكذا تعمل هذه الثقوب مثل المكنسة حيث تجذب وتبتلع كل ما يقترب منها، ولذلك ومن رحمة الله تعالى بنا أن هذه الثقوب لا تعمل على المسافات الطويلة،وإلا لكانت أرضنا قد اختفت منذ زمن بعيد لأن مجرتنا تحوي ملايين الثقوب السوداء! يقول العلماء إن هذه الثقوب تعمل عمل المقابر الكونية لأنها تمثل المرحلة الأخيرة من موت النجوم! تصوروا حتى النجوم تموت ولا يبقى إلا الله تعالى! إن وزن هذا الثقبيمكن أن يكون عشرة أضعاف وزن الشمس أي واحد وبجانبه 31 صفراً من الكيلو غرامات. ونصف قطره 30 كيلو متر فقط.
القرآن يتفوق دائماً
ينبغي أن نعلم أن الكلمات القرآنية أدق من الكلمات التي يستخدمها علماء الغرب، فهم يسمونه ثقباً أسوداً، وهذهالتسمية جاءت قبل سنوات على لسان أحد العلماء ظنّ بأن هنالك فجوات في السماء أوثقوب سوداء (يعني هي أماكن فارغة) فأطلق هذا الاسم، لكن تبين أن هذه الثقوب وزنها كبير جداً يعني بلايين وبلايين وبلايين من الأطنان تتركز ضمن دائرة ضيقة هي الثقب الأسود، ولذلك فإن القرآن لم يسمها ثقباً أو أسود، لأنالثقب يعني الفراغ، وهذه الأجسام على العكس ليس فيها فراغ أبداً بل قمة الوزن والكتلة والجاذبية موجودة فيها.
وهم يسمون هذا النجم أسود، مع العلم أنالتسمية الصحيحة ينبغي أن تكون أنه(لا يرى) وهذا ما يصرحبه كبار علماء الفلك في الغرب يقولون، بل يتساءلون في مقالاتهم الصادرة حديثاًيقولون: هل الثقب الأسود هل هو أسود فعلاً، ويتبين بنتيجة أبحاثهم أن هذا الثقب لالون له لأنه غير مرئي لا يرى أبداً.
عندما يتشكل هذا الثقب الأسود وينضغط على نفسه يصبح حجمه صغيراً جداً، لأ نالمادة تنضغط بشكل كبير وهائل، وترتفع درجة حرارته إلى درجات قصوى، وتزداد جاذبيته بصورة لا يتصورها عقل لدرجة أن الضوء الذي يصدره هذا النجم أو هذا الثقب الأسود يعود فيرتد إليه الأسود من شدة الجاذبية يجذب الضوء إليه، لا يدع شيئاً ينفلت منه،ولذلك يقول العلماء إن أهم صفة تميّز هذه الثقوب السوداء أنها لا ترى، ولا يمكن رؤيتها مهما تطورت الأجهزة وحتى لو خرجنا خارج الأرض إلى الفضاء الخارجي لن نستطيعرؤية هذه الأجسام.
ومن هنا ندرك أن القرآن عندما أطلق لفظ (الخُنّس) بالجمع إنما كانت هذه الكلمة صحيحة مائة بالمائةودقيقة علمياً، بينما العلماء يطلقون المصطلحات وبعد فترة من الزمن يحاولون تغييرهذه المصطلحات فلا يستطيعون ويبقى المصطلح العلمي على الرغم من أنه مصطلح خاطئ وغيردقيق يبقى مستخدماً، وهذه ميزة يتميز بها كتاب الله تبارك وتعالى أنه يعطينا التعبير الدقيق مباشرة، يعني قبل ألف وأربعمائة عام أطلق القرآن لفظ الخنس في زمن لم يكن أحد يتخيل ما هي هذه الثقوب وما هي هذه الأجسام.
الثقب الأسود يتكلم!
وجد العلماء أن هذهالمخلوقات تصدر ترددات صوتية باستمرار أثناء عملها، وكأنها تسبح الله تعالى! ومنهنا أقول دائماً قد تكون هذه الأصوات هذه الترددات الصوتية الخفية التي لا نستطيعأن نسمعها ولكن الأجهزة الدقيقة ترصدها بدقة كاملة، قد تكون هذه الأصوات هي أصواتتسبيح لله تبارك وتعالى لأن كل المخلوقات تسبح الله عز وجل، يقول تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّوَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء: 44].
لقدزود الله هذه النجم بمجال جذب قوي جداً ولكنه محدود يحيط بالنجم مشكلاً حزاماً يسمىأفق الحدث، خارج هذا المجال لا يستطيع الثقب الأسود فعل شيء، ولكن أي جسم يدخل هذاالأفق فإنه يتلاشى ويتحول إلى فوتونات ضوئية ويُبتلع ولا نعود نرى منه شيئاً. ولولا هذا الأفق لابتلعت هذه النجوم كل شيء في الكون!
ما هو الهدف من هذه الحقيقة الكونية؟
والآن نأتي إلىالهدف من ذكر هذه الحقائق: ما الذي يريده الله منا أن نتعلمه أو ندركه من هذه الحقائق؟ هل مجرد أن ندرك أن هنالك أجساماً في السماء هي ثقوب سوداء، أو أن الهدفمجرد أن القرآن سبق علماء الغرب.. لا.. إنها أهداف ولكن الهدف الرئيسي عندما نقرأهذا النص الكريم (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) وهكذا.. آيات كونية يسوقها الله تبارك وتعالى يختمها بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) وهنا ندرك الهدف أن الله تبارك وتعالى كأنه يريد أن يقول لنا: كما أنكم أدركتم وجود هذهالأجسام التي لا ترى، والله تعالى يرى كل شيء وقد حدثكم عنها، وكما أنكم بأجهزتكم وقياساتكم أدركتم أن القرآن حدثكم عن اكتشافات استغرقت عشرات السنين والقرآن نزلقبل ألف وأربعمائة سنة في زمن لم يكن أحدٌ على وجه الأرض يتخيل شيئاً عن هذهالمخلوقات الكونية، وكما أنكم تدركون أن هذه الأجسام موجودة لا شك فيها ينبغي عليكمأن تدركوا أن هذا القرآن هو قول رسول كريم ليس كلام بشر، ليس بقول شاعر، أو كاهن،ليس من تعليم بشر!
من الأشياء العظيمة أيها الأحبة في هذه الأجسام أن العلماء يقولون: إنها من أعظم الظواهر الكونية، يعني ظاهرة الثقب الأسود ظاهرة عظيمة ومخيفة ومرعبة وتتجلى فيهاقدرة الخالق عز وجل، في إتقانه لهذه الصناعة (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل: 88]، وبسبب عظمة هذه الأجسام فقد أقسم الله تعالى بها، والله لا يقسم إلا بعظيم،طبعاً الله تبارك وتعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته، ولكن هذه المخلوقات بما أنهاعظيمة ومهمّة أقسم الله تبارك وتعالى بها أن القرآن حق.
ولذلك عندما تعرض الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وانتقدوه (وَقَالُوا أَسَاطِيرُالْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الفرقان: 5] أمر الله تبارك وتعالى نبيه أن يرد عليهم: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَغَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 6] أي أن الله تبارك وتعالى هو من أنزل هذا القرآن وهو أعلم بأسرار السماوات والأرض فإذا أردتم أن تدركوا وتستيقنوا صدق هذا الكتاب فعليكم أن تتعمقوا في أسرار الكون.
بقلم عبد الدائم الكحيل
انه كان غفورا رحيما