الشعب ما بين الدولة العميقة وأمريكا
تاريخ النشر: 14/05/16 | 0:00سأحدثكم عن الشعب المغربي وتأثير الدولة العميقة من جهة وأمريكا من جهة أخرى في قراراته واختياراته… المناسبة، تصريحات لقياديين بارزين في المعارضة حول تدخل جهات في الدولة لتقليص مشاركة حزب الاصالة والمعاصرة في الانتخابات السابقة لأوانها لسنة 2011، حتى يتمكن حزب العدالة والتنمية الإسلامي من احتلال المرتبة الأولى… وكذلك عن “قرار” أمريكا تمكين نفس التيار الإسلامي من لعب دور محوري على الصعيد الحكومي وتأكيد المعارضة على رغبة جهات داخل الإدارة الأمريكية لفسح المجال لنفس الحزب لقيادة الحكومة المقبلة…
المواطن المغربي العادي يجد نفسه في حيرة من أمره وهو يسمع ويقرأ عن دور الدولة العميقة وأمريكا في صنع الأحداث والتأثير في القرارات وهو ما جعله يطرح أسئلة مشروعة تتعلق بدوره في المجتمع ومدى جدوى مشاركته في العملية السياسية عبر صوته الانتخابي أو المعارك الاحتجاجية الميدانية أو الفيسبوكية… هذا المواطن، وهو يتعمق في هذه القضايا، يجد نفسه يطرح أسئلة أخرى جوهرية: هل فعلا تتدخل هذه الجهات في قرارات وطنه ؟ وهل فعلا دوره محدود ولا تأثير له على مجرى الأحداث؟
المواطن، عموما، يستقي معلوماته من محيطه ومن الإعلام، فهو لا يتوفر على معطيات دقيقة كما هو الشأن بالنسبة للقادة السياسيين نظرا لموقعهم وارتباطهم بمختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والأمنيين… لذا لا يفهم المواطن لماذا لا يتجرأ القادة على تقديم تحليل مفصل حول قضية تدخل الدولة العميقة وأمريكا في الانتخابات حتى يستطيع الحكم على المعطيات المقدمة ؟… المواطن لا يطالب بإفشاء أسرار الدولة، بل بدلائل تمكنه من فهم واستيعاب ما يقدم له من تصريحات، كما يفعل القادة السياسيين في الغرب…
المواطن يعرف أن جميع الدول، ديمقراطية كانت أم لا، تحاول دائما التدخل عبر أجهزة عديدة، لترجيح فكرة على أخرى وقرار على آخر… وأنه منذ زمن بعيد تتدخل الدول في أمور دول أخرى للتأثير في قراراتها ودفاعا عن مصالحها… انطلاقا من هذا يستحضر المواطن العديد من الأمثلة عن تدخل الدولة العميقة (ننعته، بالمغرب، أحيانا بالمخزن وأخرى بالحزب السري) في صنع الخريطة الانتخابية، بعيدا عن أعين المواطن وأحيانا بالتنسيق مع بعض قيادات الأحزاب…
هكذا، تدخل الحزب السري مرارا لتقليص تمثيلية حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حين كان هذا الحزب يمثل طموح المغاربة في التغيير كما تدخل لتزوير الانتخابات لصالح نفس الحزب كما هو الحال في الملف المعروف بقضية “محمد حفيظ”، كما لا يخفى على أحد تدخله أيضا لتقليص تمثيلية حزب الاستقلال أيام وزير الداخلية القوي، الراحل ادريس البصري، وكذلك فعل مع أحزاب عديدة منها حزب العدالة والتنمية حين بدأ هذا الأخير يزعج بعض دوائر القرار…
من الملاحظ أن الدولة العميقة تتدخل غالبا في اتجاه كسر أجنحة الأحزاب المزعجة، ونسمع اليوم أنها تدخلت لكي يقلص حزب معين من تمثيليته ليتمكن حزبا آخرا من الفوز… هل هذا ممكن ؟ نظريا نعم، ولكن تقبله يحتاج لمعطيات دقيقة وأدلة ثابتة لكي يتمكن المواطن من الاقتناع بهذا الأمر… المهم أن التدخل قائم، لكن غاياته غير واضحة….
وماذا عن تدخل أمريكا؟ المواطن يعرف بالتجربة أنها تتدخل في كل مناحي الحياة في العالم، والمتتبع السياسي لديه أمثلة لا تعد ولا تحصى، خاصة الثابت منها بالوثائق الرسمية… يعلم الجميع أن أمريكا تدخلت للإطاحة بحكومة “سالفادور أليندي” اليسارية بالشيلي سنة 1972 عبر انقلاب عسكري، وأنها خططت وقدمت معطيات مفبركة للتدخل في العراق والإطاحة بنظام حزب البعث وقائده “صدام حسين” وتنصيب رجالاتها في الرئاسة والحكومة والبرلمان… كما يكاد الجميع يتفق على “سكوت” أمريكا إن لم نقل “تزكيتها” للانقلاب العسكري بمصر الذي أطاح بحكم الرئيس “محمد مرسي”، المنتخب ديمقراطيا بعد ثورة 25 يناير، والمنتمي لجماعة الإخوان المسلمين… إذن أمريكا تتدخل ضد اليساريين والقوميين والإسلاميين، وأحيانا لصالح هذا أو ذلك حسب الرهان والمصلحة… لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة… أمريكا تؤمن سوى بمقولة “business is business”…
هنا، يقف المواطن المغربي ليسائل نفسه مرة أخرى، هل الحكومة الحالية من تخطيط الدولة العميقة وأمريكا كما يدعي بعض قادة المعارضة ؟… بحسه البديهي يعرف المواطن، أن الدولة العميقة تراقب تحركاته وتتدخل في شؤونه إن اقتضى الأمر… ويعرف أيضا أن تدخل أمريكا، غالبا، ما يكون ضد مصلحة الشعب ومطالبه… وهو يعمق التفكير في هذه الأمور يستحضر معطيات أخرى أساسية. الأولي، كون انتفاضة الشعب المغربي التي بدأت بمسيرات ضخمة، يوم 20 فبراير 2011، فاجأت الدولة العميقة وأمريكا والشعب نفسه الذي لم يكن يتوقع ذالك الحجم والكثافة في المشاركة وسقف المطالب… الثانية، لا أحد توقع، ليس الفوز، بل الفوز الساحق لحزب العدالة والتنمية، حيث لاحظ الجميع كيف رفعت، حينها، الدولة العميقة يدها عن الانتخابات… الأمر الثالث، غياب أي دليل مادي على تدخل جهاز ما لترجيح كفة حزب معين وتوجيه تصويت الناخبين إلا ما سلف ذكره من تصريحات المعارضة…
المواطن المغربي، يعي أن حركة 20 فبراير خلقت الحدث وما زالت ترددات انتفاضة الشعب والشباب تؤثث المشهد السياسي إلى يومنا هذا، وأن شعب الانتخابات خلق المفاجأة أيضا خلال الانتخابات المحلية والجهوية لرابع شتنبر 2015، مما أدى إلى تعميق التناقضات والدفع بحزب الاستقلال إلى تقديم نقد ذاتي ومراجعة مواقفه التي أغضبت جهات بالدولة العميقة وأن هذه الأخيرة “تفعفعت” بفعل النتائج ولربما “ساهمت” بطريقة أو بأخرى في انتخابات الكبار لإعادة نوع من التوازن… أما أمريكا فالغالب أنها تابعت عن قرب نتائج الانتخابات و”تدخلت” بطريقتها حتى لا يقع ارتداد غير مضبوط العواقب وذلك من خلال بلاغها الصادر ليلة الانتخابات…
هكذا، يتضح جليا للمواطن المغربي أنه هو الذي يصنع الحدث منذ سنة 2011، وأنه بفطرته وبفضل ما يسميه أهل الاقتصاد ب “اليد الخفية” استطاع أن يتقاسم الأدوار داخل صفوفه ما بين الشعب المشارك في الانتخابات الذي، من خلال صوته، يعمق التناقضات ويكشف عن الوجه الحقيقي لهذا وذاك، والشعب المنخرط في الاحتجاجات، التي تطفو على السطح كل مرة، ليؤكد من خلالها عن حيويته واستعداده لكل الاحتمالات (سكان طنجة، الطلبة الأطباء، الطلبة الأساتذة، النقابات…) وشعب الفايسبوك الذي ظهر بقوة أول مرة في قضية “كلفان” وما زال نشيطا ومؤثرا… هو شعب واحد، ولكن يظهر تارة بهذا الوجه وتارة أخرى بوجه آخر لكنه يعرف بالفطرة ما يريد وما هي حدود مطالبه حفاظا على الاستقرار العام وتفاديا لإعطاء الفرصة لأطراف عديدة تتربص للتدخل دفاعا عن مصالحها وليس مصالح الشعب.
المغرب يوجد اليوم، في مرحلة دقيقة سمتها الترقب؛ شعب الانتخابات، على ما يظهر، يعرف لمن سيمنح صوته في الانتخابات القادمة، الدولة العميقة واعية أن الوضع لا يسمح لها بتدخلات مكشوفة وأن أقصى ما يمكن أن تفعله هو ضبط إيقاع التغيير حتى لا تنفلت الأمور… وأمريكا تتابع عن كثب ما يقع، ويمكن أن تتدخل في أي وقت للدفاع عن مصالحها… الشعب يراقب في نفس الوقت الدولة العميقة وأمريكا، والأخيرتين تراقبان الشعب، وكلاهما يراقبان بعضهما البعض… وهذا عادي وطبيعي وهو مجسد أحسن تجسيد في المسلسل الذائع الصيت عالميا، “صراع العروش” (Game of Thrones)…
المواطن المغربي لا بد أن يستخلص بعض الدروس من تصريحات قادة المعارضة، مع حرصه مستقبلا على المزيد من الحيطة والحذر… فإن كان هذا المواطن من شعب الانتخابات فسيحتاط من كل الأشياء والأشخاص القادمين من الدولة العميقة وأمريكا، وحين وضعه الورقة الانتخابية في الصندوق سيتأكد أن قراره مغربي حر ديمقراطي ومستقل نابع من قناعته الشخصية ووطنيته الصادقة… أما المواطن المنتمي لشعب الاحتجاجات فسيكون حذرا من كل جهة تريد استغلال حركته لأغراض بعيدة عن مطالبه العادلة، أما شعب الفايسبوك فسوف يراقب و”يحدف” كل “المندسين” داخل صفوفه…
عبدالحق الريكي /الرباط