روائع من التاريخ(28)..ذكاء أعرابي
تاريخ النشر: 19/05/16 | 6:27يُحكى أنّ أعرابياً فقيراً كان يعيشُ في خيمةٍ من الخيام في الصّحراء ، ويقتاتُ من الكفاف الذّي تُقدّمه له الأيّام الجافّة في عالمٍ من الحرّ والعطش والبرد . ورغم ذلك ، فقد كان ذلك الأعرابي سعيدًا بحياته مع زوجته التّي تعيش بقربه ، وفيّةً له ومهتمّةً به .
وفي يومٍ من الأيّام ، وبينما كان الأعرابي جالساً أمام خيمته يتأمّل هذه السّهول الرّحبة ويسامر زوجته في هذا اللّيل الصّافي ، مرّ به رجلان على ظهر حصانين ، يُسمَعُ لِهَمْهَمَتِهِمَا صدًى في أرجاء الصّحراء وقد تلمّس هذان الرجلان الطريق إلى خيمة الأعرابي بواسطة تلك النار التي يشعلها العرب عادةً في اللّيل ليهتدي بها الضال والجائع .
رحّب الأعرابي هو وزوجته بالرّجلين ، وفكّر في أن يقدّم لهما طعامًا . إلاّ أنه لا يملك إلاّ شاةً يتغذّى بلبنها . حدّثته زوجته بالأمر ، فطلب إليها أن تهيّئ نارًا لإعداد الطّعام ، فسيذبح الشاة للضّيفين اللّذين حلاّ هذه الليلة عليه . وعرف الرجلان أنه ليس لهذا ألأعرابي غير هذه الشاة . حاولا أن يقنعاهُ بعدم ذبحها ، إلاّ أنه رفض طلبهما . وكان بعد ذلك أن هيّأت امرأته الطعام للضيفين ، فأكلا ما لذ ّ لهما ثمّ أمضيا عنده الليل . وفي الصّباح الباكر، ودّعاه بعد أن طلبا إليه أن يقصدهما في المدينة حيث يلتقي بهما في المسجد .
ولم يعرف الأعرابي أن هذين الرجلين هما والي المدينة وقاضيها . وبعد أيّام قصد الأعرابي المدينة ، وذهب إلى المسجد فوجدهما بين المُصلين يرفعان أيديهما ويصلّيان . فقال في نفسه : ” أنا ألتجئ إلى إثنين يلتجئان بدورهما إلى الله ، فلألتجئ إليه فهو وحده الكريم القدير ” .
وكان أن قفل عائدًا إلى خيمته ، وأخبر امرأته بما حدث معه ، فسُرّت امرأته بإيمانه وفضّلت أن يعانيا ما هما عليه من فقرٍ من أن يستعينا بأحدٍ .
غير أنّ ريحا هوجاء هبّت في تلك الليلة وذهبت بالخيمة المضروبة في عمق تلك الصحراء ، فقام الأعرابي وامرأته وباتا ينتظران شروق الشمس وهما يتّقيان رشاش الرمل بثيابهما . وعند الفجر حمل الأعرابي خيمته وسارت امرأته وراءه ، ورحلا حتى وصلا إلى مكانٍ وجد فيه الأعرابي أمانًا له ولامرأته .
وبينما كان الأعرابي يضرب في الرّمل ، إذ وجد حلْقةً أمام عينيه فأخذها بجماع يديه وراح يشدّ ويشدّ حتى خرجت من الرّمل جرّةٌ حمراء ، ساعدته امرأته في إخراجها . وما إن فتحاها حتّى وجدا فيها كنزًا ثمينًا . فسُرّ الأعرابي وامرأته بذلك ، وقرّرا أن يبنيا قصرًا جميلاً في ظاهر المدينة . وهكذا كان .
وبين ليلةٍ وضحاها ، راح يرى أهل المدينة قصراً جميلاً يرتفع في ظاهر المدينة . وكان الأعرابي قد أنفق على بناء القصر مالاً كثيرًا ، فجاء آيةً من آيات فنّ البناء . وبات حديث الغادي والرائح .
عَلِم الوالي أنّ قصرًا يُبنى في ظاهر المدينة ، فطلب إلى الحرّاس أن يتبيّنوا له أمر باني هذا القصر . فأخبروه إن أعرابيًا جاء من الصّحراء وبنى هذا القصر ، ذلك بعد أن وجد كنزًا في مكانٍ ما من الصّحراء بدّل مرارة أيامه حلاوةً وفقره غنًى .
شاء والي المدينة أن يرى ذلك القصر ، فجاء إليه هو والقاضي . وما إن وصلا إليه والتقيا بصاحبه حتّى عرفا فيه ذلك الأعرابي الفقير الذي أكرمهما تلك الليلة التي أمضياها في كوخه . غير أن القاضي دبّ فيه الحسد ، فقال للوالي : ” سأطلب إليك أن تفعل شيئًا تتبيّن فيه حسن أخلاق هذا الأعرابي من جديدٍ ، إذ إنّ الغنى بعد الفقر يبدّل غالبًا من أخلاق صاحبه ” . وتابَع : ” ما رأيك يا سيدي الوالي أن تذهب إلى قصر الأعرابي وتلتقي به هناك ، وأن تخبره أنك رأيت في ما يرى النّائم أنك وجدت نفسك تصرخ : عو عو عو. فإذا قال لك إن هذا الذي رأيت في حلمك كلب ، اقتصصت منه ” .
رضي الوالي بما عرضه القاضي عليه ، ثم ذهب إلى القصر والتقى الأعرابي . فاستقبله استقبال الكريم ، ودعاه إلى تناول الطعام ، فأجابه الوالي إلى ذلك . وبينما هما يتناولان الطّعام ، قال الوالي للأعرابي : ” لقد رأيت في ما يرى النّائم رجلاً يصرخُ : عو عو عو . وأحبّ أن تفسّر لي ذلك ” . فقال الأعرابي : ” أمّا عوّ لأولى ، فمعناها أنه سبحان من رَزَق الطّير في الجوّ . وأمّا عو الثانية ، فمعناها أنه سبحان من أنار الطريق أمام التّجارة في النور . وأمّا عوّ الثالثة فمعناها لعن الله جار السّوء ” .
سُرّ الوالي بتفسير الأعرابي وعرف ما كان القاضي يرمي إليه ، وكان أن قرّب الوالي الأعرابي إليه وأقصى القاضي عن القضاء بين الناس .
بقلم : محمود عبد السلام ياسين