الأعرج والبيت
تاريخ النشر: 25/05/16 | 5:39امس التقيت بنادر الأعرج … كما فارقته آخر مرة ,كان واقفا على رجليه ..اللتين داهمهما الشلل في طفولته المبكرة .. ويتكئ براحتيه عاى مقابض عكازتيه ..تاركا لساعديه الاستعانة بانصاف الدائرتين اللتين تتوجانها ..لم التق به منذ ان التقينا في جنازة ام سرحان… رأيته مرات قلية من بعيد . في البنك اومكتب البريد .. كان واقفا امام بيته ينتظر شيئا ما , اوقفت السيرة بجانبه , فتحت شباكها , وتبادلنا تحيات مجاملة عادية .. ولكن هذا اللقاء الخاطف , أرجعني الى ذكريات ماض بعيد , لن أنساه .
ما زلت أذكر عينيه في جنازة ام سرحان , لقد كانتا كأنهما جمرتين, أخذتا من نار مستعرة ,ووضعتا تحت حاجبين كثيفين .. كتبت بالدم على صفحات بياضهما ,قصة بكائه على ام سرحان ,زادتها الدموع اشتعالا وتشظيا ..
تركته امه.. وراحت تبحث عن لقيمات لأولادها السبع, في مزارع الآخرين ..”فنسيته” يعيش على فتافيت مائدة ام سرحان ..فألف الحرمان والجوع والضياع ,فتح عينيه فلم يجدله ابا ..سال” أم سرحان” مرة :أين أبي..!؟ فأجابت وهي تشير بسبابتها الى أعلى :انه فوق ..!! أين ..!؟ ” في السماء ..!!أجابت بلهجة تفهمه بها انها لا تريد الخوض , في هذا الموضوع .. فسكت , ولم يسأل عنه ثانية .!
فكانت هي الحضن ,الذي لم يجد غيره , ليحميه من كي نيران طفولته الحارقة ,و الحب لم يجده عند أحد .. فبحث عن الشفقة فأدمنها في حضنها .. ولكن سرعان ما تحولت شفقتها عليه الى حب جارف . فبادلها حبا ملك كل كيانه , فعاشت في بلدنا وحيدة .. حتى دخل حياتها نادر , فخفف من وحدتها , واطلق فيض أحاسيسها المحبوسة .
وام سرحان .. لاجئة دخلت الى حياة بلدنا ,بعدان فقدت كل شيئ تملكه في بلدها ” ام الشوف ” .. ولم تنس حتى ذلك اليوم .. أعدت زوادة الثوار , وجلست بجانبها ,تنتظر أبا سرحان لينزل عن الجبل ,ليحملها لهم .. توضأ وصلى , وودعها وداعا لم تعهده من قبل ,ترك في نفسها سيل من أحاسيس الخوف من المجهول ,فجاءها الخبر .. لقد وجدوه مقتولا ومرميا في الوادي .. رماه اليهود بالرصاص ..وبدأوا بأكل زوادته .. كان هو ينزف .. وهم يأكلون ..! هو ينزف .. وهم يأكلون ..!! حتى مات ..!! فرموه بالواد وتركوه فيه .. هذا ما رواه الراعي ,الذي كان شاهدا على ما جرى , ولما ” سقطت ” أم الشوف ” , اختارت بلدنا كي تسكن فيها , اتخذت من بيت فارس العلي مأوى لها ,بعد ان ترك البلد, وتاه في بلاد الشتات , مستغلة معارفها فيها ,حيث كانت تاتي اليها في أيام الشتاء , التي لايوجد فيها “لازرع ولا قلع ” لتشد لنسائها الفرشات واللحف والوسائد والمساند .وأصبحت هذه مهنتها التي تيسر لها معيشتها .
حتى جاء يوم ..
كنا نجلس على مقاعدنا في غرفة الصف .. واذا بام سرحان تقتحمه فجأة , وتنزل من بين يديها , طفلا نعرفه جميعا , انه نادر “الأعرج” , هذا الولد بدو “يقرأ” مثله مثل غيره .. !! هو مش خلقة الله ..!!؟ ” صرخت بالمعلمة, بعد ان ناولتها كيسا من القماش, كان يحتوي على دفتر وقلم , وقطعة من الخبز مدهونة بالزيت , وغادرت غرفة الصف , تاركة المعلمة غارقة في دوامة من الجمود والذهول..اما نحن – طلاب صف الأول – فقد انصبت عيوننا على نادر , تحاول ان تغرف شيئا منه ,كي تخفف من هذا العطش الجارف, لمحاولة تفسير هذا الحدث الغريب , الذي يحدث أمامنا , ولما عجزنا ,انتقلت عيوننا الى المعلمة , منتظرين منها ,ان تفسر لنا الغاز ما يحدث أمامنا .!
كنا نجلس ثلاثة على المقعد الواحد .. فطلبت منا الالتصاق ببعضنا ,حتى نخلي له مكانا يجلس فيه .. فحبا على رجليه ويديه ,حتى وصل المقعد وجلس بجانبنا .. كان يكبرنا بثلاث سنوات , ولكن لم ” يفطن ” له احد كي يلحقه بالمدرسة .. انقسمنا – نحن طلاب الصف- الى قسمين : قسم له يحاول مساعدته وحمايته من المعتدين .. ام الآخرون فعليه , فقد حاولوا مضايقته والاعتداء عليه ..في البداية تلقى ” الضربات ” بصمت , واعتمد علينا – نحن جماعته – في الدفاع عنه , ولكنه سرعان ما خرج من ثوب ضعفه .. وبدأ يرد الصاع صاعين, لكل من يحاول ان يعتدي عليه .. كانت له طريقة غريبة, في معاقبة من يعتدون عليه .. كان يتلقى أهاناتهم وضرباتهم بصمت , ويتصرف كأنها ليست موجهه له , ولكنه كان ينتظر لحظة عدم انتباههم او نسيانهم , فيحبو بخفة باتجاههم حتئ تطول يده احدى أرجلهم , فيشدها باتجاهه , فيقع الولد على ظهره , فينقض سابحا عليه , وعندما يصبح فوقه , يجمع يداه في يده الكبيرة , وبيده الأخرى يبدأ بكيل الضربات لوجه الولد ,حتى يعتقد انه كال له من العقاب ما يستحقه ,فيقوم عنه ويطلق سراحه .. كان يقوم بهذا العمل في ساحة المدرسة .. في الطريق التي تربطها بالبيت .. في أزقة القرية .
ولم تمض سوى أسابيع قليله, حتى أصبح نادرا مسيطرا على طلاب الصف بلا منازع , يخافه الجميع بعد رأوا بأم عينهم , ما سيحدث لكل ما تسول له نفسه ,فها أن يعتدي عليه, او حتى يعصي أوامره , فكنا نتقاتل على ” شرف ” من سيحمل له كيسه من والى المدرسة ,ومن يكتب له الوظيفة البيتية في ساحة المدرسة,
ومن يعطيه شيئا لذيذا من زوادته ..او من يطيع أوامره, في مشاركته سرقة ثمار حواكير القرية .. انتقى له جنودا من بيننا , كنا رهن اشارته , اعتدنا ان
نكون حوله ,يأمر فنطيعه , يطلب فيجاب .وكلما مرت السنون ازداد قوة وسيطرة , والغريب في الامر, انه كان يسير على أربع , ونقطع المسافات الطويلة , فيسبقنا , فيصيبنا التعب الشديد فتنهار أجسامنا , اما هو فلا يكل ولا يمل .لم نترك مزرعة او بستانا او متجرا ,الا وأصابها منا جانبا من الأذى والخراب , كل شيئ كان بتخطيطه وأوامره ,وكان دائما يسير في أول “جيشه “, وكان احيانا لا تسعفه رجلاه, فيقبض عليه من قبل ضحاياه ,ولكنه كان يخلص نفسه دون أذى ,كما تسحب الشعرة من العجين , مستخدما لسانه الذي كان كالحرباة ,يتلون طبقا للظروف والمواقف التي يقع بها ,فهو يتشكل من أقصى حالات المسكنة
والانكسار , الى حالات التهديد والوعيد ..
الى ان جاء يوم ..
رجعنا من ” سرحة ” نحمل كيسا من حبات اللوز أنهكنا حمله , فما ان وصلنا أول الحارة ,حتى سمعنا صراخا وزعيقا وصيحات .. وكان كلما اقتربنا من بيت ام سرحان ,علا الصوت في آذاننا .. وأذا بنادر يصيح : هذا صوت ام سرحان .. !! ” ويطير مسرعا على أربع رجليه , بحيث لم نستطع اللحاق به ..
وعندما وصلنا رأينا منظرا رهيبا , حطم صوابنا .. رأينا اثنين من رجال الشرطة , يجرون ام سرحان على الارض , لا يهمهم ما ستصاب من أذى , من جراء هذا الجر , كانوا يقومون بأخلائها من البيت التي تسكن فيه , بذريعة انه مال غائب , وهوالآن ملك للدولة ..!! وما ان اصطدمت عينا نادر بهذا المشهد ,حتى تقدم من رجلي الشرطة , وأمسك برجله وسحبها الى الامام.. كما كان يفعل دائما , فسقط الشرطي على الأرض , مفلتا يد ام سرحان ,فاعتلاه وقبض على يديه بيده , وبدأ يكيل له الضربات الموجعة بكل قوته على وجهه , وصار الجندي يصيح من تحته : انقذوني .. دخيلكم انقذوني .. سيقتلني هذا الوحش ..!! فأفلت الشرطي الثاني يد ام سرحان ,وتوجه لأنقاذ صاحبه من قبضة نادر , فلما اقترب منهم , مسك نادر رجله وسحبها باتجاهه ,فوقع الشرطي اللآخر على الأرض ,فقفز نادر من فوق الشرطي الأول ,الى الشرطي الثاني , وبدأ يعطيه نصيبه من الضربات القاتلة , وصار كلما حاول الواحد منهم , رفع ظهره محاولا الوقوف , كان نادر يقفز فوقه تاركا الآخر ..حتى حولهم الى أشباه جثث ..!!كان كل هذا المشهد ,على مشهد ومسمع من أهل البلد جميعهم .. بدأ وسط ذهولهم, وماهي الا لحظات, حتى بدأوا شيئا فشيئا يفيقون من ذهولهم , وشرعوا بأطلاق صيحات الأعجاب والتشجيع والهتاف والتصفيق لنادر ألأعرج ..!!ولم يتركهم الا بعد ان قدمت سيارة أخرى من الشرطة ..ولم انتبه الى قدوم سيارة الشرطة ,انتحى جانبا ,وبدأ يبكي بكاء مرا , ولما وصلوا, حبا باتجاههم, وعندما اقترب منهم, مد يده باتجاههم, طالبا الصدقة منهم .. فلم يلتفتوا اليه ..وبعد تحقيقات دامت مدة طويلة ,قيدت القضية تحت بند ” الفاعل مجهول ” , أذ لم يصدق أحد الشرطيين , ان نادر هذا الفتى الأعرج,هو الذي أعتدى عليهم, وسبب لهم كل هذا الأذى ..!!حتى هم أنفسهم بدأوا يتشككون فيما حدث لهم ..!!
وأقسمت ام سرحان قبل وفاتها, من جراء الضربات التي تلقتها ,عندما جروها ليخرجونها من بيتها .. ان فارس العلي قال لها قبل ان يغادر بيته لاجئا الى الأردن :”الدار الك اسكني فيها ..ان ارجعنا هي النا .. وان ما ارجعنا هي الك ..! ” .
وبعد الجنازة, نزل نادر الأعرج من المقبرة , ودخل الى بيت ام سرحان .. ومازال يسكن هناك .. !
قصة بقلم :يوسف جمّال — عرعرة