قراءة في قصة “قبطان في قلب العاصفة”
تاريخ النشر: 28/05/16 | 0:22الأستاذ سهيل عيساوي.. بات علما من أعلام قصة الأطفال في البلاد.. فهو غزير الإنتاج.. وقد أنتج حتى الآن ما يقارب العشرة إصدارات للأطفال بمختلف فئاتهم العمرية… إضافة إلى دراسة تحليلية لأدب الأطفال في محاولة منه لمتابعة وتحليل الموضوعات المطروحة والمعالجة في قصص الأطفال الصادرة في البلاد… مجتهدًا في تمحيصها، وإظهار غثها وسمينها…
وهو هنا .. في إصداره الجديد الذي نحن بصدد دراسته.. يفاجئنا بقصة رائعة… تحمل أبعادًا تربوية وعاطفية وتراثية وإنسانية..
ومما يميز هذه القصة أنّها جاءت ملائمة للفئة العمرية (12-14) عام.. وقليلة جداً هي القصة الملائمة لهذه الفئة العمرية من بين الكم الكبير من القصص الصادرة في البلاد..
• ملخص القصّة..
تحكي القصة عن بحار رحالة يدعى “القبطان ماجد”… يسكن في بلاد أطلق عليها الكاتب اسم “بلاد البيادر”، ووصفها بأنها:- “بلاد الفقر الجوع وندرة العمل، وهي عرضة لغزو الجراد…” (ص2).. أما الوضع السياسي فيها فيمثل له الكاتب بـ (حاكم مقيّد بمستشاريه، يحيط نفسه ببطانة السّوء، يثقلون كاهل الشّعب بالضّرائب، فهم لا يتقنون سوى ابتكار أسماء جديدة لهم، ما أنزل الله بها من سلطان” (ص2) حتى بات وضع البلاد اقتصاديًا واجتماعيًا: “كالغائص بالوحل”.(ص2)
يقرّر القبطان ماجد الرّحيل عن بلاد البيادر، بحثًا عن حياة أفضل، وهو البحّار المغامر العارف بالبحر وأسرار الجزر والعالم… ويختار جزيرة الموز العملاقة هدفا للرّحيل إليها…
يتسرب خبر قرار القبطان بالهجرة، وينتشر بين الناس.. فيجد له صدًى بينهم.. ويقرّر الكثيرون مرافقته في رحلته على متن سفينته العنقاء العظيمة (ص6)
في عمق اللّيل، وخوفًا من عيون العسس والجواسيس، وخوفا من الوقوع في قبضة قائد الشّرطة الذي لا يرحم، ولا يتورّع عن إختلاق التّهم لمن يقع في قبضته ليذيقه أصناف العذاب… يقلع القبطان ماجد وصحبه بدون حتى وداع الأهل والأحبة. (ص9-8)
وتبدأ الرحلة إلى المجهول.. في قلب البحر الذي لا يستقر على حال.. ولا يؤمن من تقلباته ومفاجآته… والقبطان ماجد خبر البحر ويعرف طبعه.. وهو الذي يمتلك صفات القبطان العظيم، يصمد وسط العاصفة، ويثبت للمحنة، ويصبّر من معه، حتى يبلغهم مأمنهم.. خلافا لمساعده سامي الذي تخلى عن واجبه.. وخان العهد والأمانة، ليفر بنفسه في قارب النّجاة تاركا قبطانه والرّكاب يواجهون المحنة ..(ص22)
يصل القبطان بأهله إلى بر الأمان.. إلى الفردوس المنشود.. إلى جزيرة الموز بأمان.. ليذرفوا دموع الفرح، ويتعانقون بسعادة؛ لا يعكرها سوى عثورهم على حطام قارب المساعد سامي الذي تركهم وغدر بهم لينجو بنفسه.. (28)
تبدأ مسيرة السعادة والعيش الرغيد، فالخير كثير، ومجالات العمل متعددة، ووسائل الكسب الحلال متوفرة ومبسوطة.. (ص32)
يمر على المستوطنين عامهم الأول بسعادة ورخاء، ويكسبون مالا وفيرًا، وينعمون برغد كبير.. ولكن القلوب والأرواح ما تلبث أن تبدأ بالحنين إلى الوطن الأم، إلى بلاد البيادر التي غادروها مرغمين، وتحت طائلة القهر والفقر.. إلى مسقط الراس الغالي. فيطلبون من القبطان أن يعود بهم إلى منبع الحنين، إلى بلاد الآباء والأجداد لأنها تبقى الأغلى والأحب…(ص33)
وهكذا تبدا رحلة العوة، والقلوب تفيض حبا.. والعقول تفيض خططاً لإعمار البلاد الأم.. بمعول الجد والاخلاص..(ص34) وكأني بالكاتب يتمثل قول إبي تمام :-
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنــــينه أبدا لأول منزل
الأبعاد والايحاءات الفكرية والتربوية
أ- تركز القصّة على نقد الواقع الذي تعيشه البلاد العربية من تسلط بطانة السّوء، وإثقال كاهل النّاس بالضرائب، وتنغيص عيش البسطاء بالملاحقات والمحاكمات الظّالمة بسبب وبغير سبب..
ب- تحاول القصة إلقاء الضّوء على أسباب هجرة الشّعوب.. والتي يلخصها الكاتب هنا.. بالفرار من قسوة العيش، في ظل الفقر والكبت والظّلم المتمثّل بالضّرائب الطّائلة وسياسة التّضييق على المواطن في كل نواحي حياته.
ت- يهاجر الناس بحثاً عن الحرّيّة.. وبحثاً عن اللّقمة الطّيّبة، الهنيّة، غير المغموسة بالذّل والمهانة والقهر..
ث- تنبَّه الكاتب للتّأكيد على أن هجرة المواطن من بلاده تحت طائلة الظّروف القاسية لا تعني أبدا نسيانه لبلاده حال تمتعه بخيرات المهجر.. بل على العكس، يزداد حنينه لبلده وموطنه.. وأمنياته بأن يعم الخير والسّلام بلده وأهله .
ج- الناس يحبون المخلص الأمين… ويسلّمون له قيادهم بكل اطمئنان وثقة.. (القبطان ماجد نموذجا)..
ح- الخائن والغادر والأناني الذي لا يفكر إلا بنفسه… عاقبته وخيمة دائماً.. (المساعد سامي نموذجًا
خ- الفكرة المركزية.. والأمل المنشود.. والعبرة السّامية في القصة… “العودة”.. لا بد للمهاجر أن يعود إلى بلاده مهما طالت به الغيبة.. ومها تغيّرت به الظروف، وتبدلت الأحوال.. فالحنين شعور قوي لا يضعف مع الزّمن، ومع تغير الأحوال، بل يشتد ويقوى.. وهكذا عاد المهاجرون تاركين العز والرّخاء الذي أصابوه في بلاد الغربة.. لأنّ الحنين أقوى من كل شيء.. ولأنهم شعروا، بل أيقنوا أنّ بلادهم أولى بهم وبجهدهم وإخلاصهم.
االرّموز التّراثية في القصة:
1- القبطان ماجد:
يذكرنا بالبحارة المغربي العربي أحمد بن ماجد، الذي قاد ماجلان إلى طريق الهند.. وعرفه على ما توصل إليه العرب من وسائل متطورة في عالم الابحار.. وأهداه خرائط دقيقة لم يكن الأوروبيون يعرفونها أبدا..
2- السفينة العنقاء:
تعود بنا إلى رحلات السندباد.. ومغامرات البحارة العرب.. وتنقلاتهم بين الجزر العجيبة.. ذات الثراء والنعيم الوافر ..
3- مملكة البيادر:
البيدر، وما يحمل من دلالات تراثية.. من أيام الحصاد والعمل الزراعي وتراث الأجداد من خلاله… وهو كذلك يمثل هنا في الاصطلاح الذي اختاره الكاتب كرمز مكاني يحتضن تراث حقبة زمنية غالية وثرية بالتراث في بلادنا (مملكة البيادر) ليجعلها رمزًا للبلاد العربية التي سودها نمط الحياة الزّراعية، وخاصة قرانا العربية الفلسطينية.. حيث كانت الزراعة مصدر معيشة السّكان .. والبيادر سمتها البارزة وطابعها العام المسيطر..
ملامح رامزة في القصّة، تستحق الوقوف عندها:
أ- اتبع الكاتب أسلوب التقّية، والنقد الحذر، سياسيًا واجتمعاياً.. فقد أشار إلى أن حاكم البلاد: “على الرغم من معدنه الطّيب، إلا أنّ بطانته من وزراء وعمّال كبار فاسدة وعابثة” (ص2) علماً بأن الحاكم هو من يعين الوزراء.. ويقرب البطانة.. ويمنحها السلطة والنّفوذ ..
ب- الايحاء بأن بلادنا العربية تحكَمُ وتدار من خلال العسس وعيون الجواسيس، حيث يتم إجهاض طموحات النّاس من خلال ممارسة سياسة القهر والكبت والاضطهاد.. والمحاكمات العبثية الظالمة.. (ص8)
ت- اتباع السرّية والحذر في تحقيق الأهداف والمخططات.. واجب وضرورة.. (وكأني بالكاتب يستحضر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود”
ث- ضرورة الاستعداد والتهيّؤ للسفر.. والتأكد من صلاحية كل شيء.. ومن توفر الجو المناسب والظرف الملائم.. كما فعل القبطان ماجد.. الذي قام بتجديد سفينته والتاكد من صلاحيتها. واحتيار الوقت والظرف الملائم للسفر.
ج- من طلب النّجاة دون غيره، نال العكس.. (المساعد سامي نموذجًا).
ح- تحمُّل المسؤولية بإخلاص وأمانة صفة الأقوياء والنّبلاء، وهي صفة العظماء الذين يكسبون ثقة الآخرين بهم بقوة وحق (القبطان ماجد نموذجًا)
ملاحظات لا بدّ منها:
* جاء الكتاب في حلة راقية.. وقد جاءت لوحات الفنّانة ريتا تنيئيل ملائمة لجو النّص.. سواء لوحة الغلاف، أو اللّوحات الدّاخليّة.. فاضفت على القّصة رونقاً إيجابياً..
* اعتمد الكاتب خاصِّيَّة البطولة المطلقة.. فجعل من القبطان ماجد، بطلا، منقذًا، مخلّصًا، قائدًا، ورمزًا.. وكان بإمكانه أن يخلق عناصر أخرى تشاركه البطولة.. وتساهم في خلق لوحات مجتمعية فكرية.. وإنسانية في القصة من خلال إبراز شخوص أخرى وطاقات متنوعة، وفي مجالات متنوعة..
* اتكأ الكاتب على عنصر المفاجأة في القصة.. ليشكل مفصلاً زمنياً وحدثيّاً يمهِّد للأحداث.. قصة العاصفة المفاجئة.. والسّفينة المنقذة التي ظهرت فجأة لتخلصهم.. وبالصدفة يتضح أن القبطان ماجد صديق قديم لربانها… هذا الاتكاء على عنصر المصادفة، يتيح للكاتب وسيلة سهلة طيعة للتّخلص من موقف وصولاً إلى الحل المنشود بخلق موقف مغاير تماماً.. وهنا أحسن الكاتب استخدامها.. ولكن كون القصة ملائمة لسن واعية نسبيًا كما أشرنا (12-14) قد يجعل منها حيلة مكشوفة.. وساذجة.
* عنصر الحنين.. هذا الشّعور العظيم الذي يتحكم بمصائر البشر.. هذا الشّعور النّبيل الأصيل.. الذي أحسن الكاتب توظيفة للإيصال رسالته الأساسية وفكرته المركزية في القصة (برأيي) وهي العودة… نعم أراد الكاتب أن يؤكد أن لا شيء يمكنه أن يتغلب على شعور الحنين إلى الوطن.. لا المال ولا السعادة ولا الراحة والا الرفاهية ولا أي شيء.. الحنين للوطن يبقى أقوى من كل شيء.. وأعظم من أي شعور آخر..
* عنصر الطّيبة، مقابل عنصر الأنانية والخبث:
جاء في النّص (ص28): “لم يعكر فرحتهم سوى عثورهم على قارب سامي (مساعد القبطان) لفظته أمواج البحر الغاضب، أراد أن يسبقهم إلى الجزيرة أولا، لكنه ضلَ الطريق ووصل إلى جزيرة أخرى فقيرة”
مؤكّدا طيبة القوم، مقابل خبث القبطان.. فالطّيبة أوصلت أهلها إلى بر الأمان، والهدف المنشود بسلام، ليغمرهم جو الفرح والسّعادة.. والمكر أوصل صاحبه إلى الهلاك.. وفي هذا لفتة رامزة قوية ومعبّرة..
ولكن ما أثار اهتمامي هنا: كيف عرف القوم أنّه وصل إلى جزيرة أخرى!.. وأنها فقيرة! بينما وجدوا حطام قاربه عند جزيرة الموز؟!
ملاحظة كهذه.. كان يجب أن لا تغيب عن وعي الكاتب.. وبقليل من المراجعة والتأمل كان سيجد مخرجًا منها.. أكثر حكمة.. وأكثر واقعية.
الخاتمة:
– نحن أمام قصة راقية… زاخرة بالقيم التربوية ، والأبعاد التّربوية والفكرية.. تثري ثقافة القارئ (الناشئ) وتذكي تفكيره وتوسه آفاقه الفكرية والمعرفية
– جاءت بلغة سلسة وتعبير مرن ملائم للفئة العمرية الموجهة إليها..
– فتحت باباً للاتكاء على التّراث من أجل إثراء القصة.. بدلا من الأخذ عن التراث بحذافيره.. بمعنى إثراء النص بملامح ورموز من التّراث . ما يثير التّداعيات الفكرية في ذهن المتلقي.. وبطابع من الحداثة .
– استخدام الرّمز الشّفاف لغويًا وتعبيريّاً.. للإشارة بتكثيف فكري رامز إلى أفكار ومواقف وأخلاقيات .. يريد الكاتب للقارئ أن يتمعن بها.. وأن يتوقف عندها محللا ومستنبطًا… لكي يدرك المقصود منها..
– لم يرد الكاتب هنا ان يقدم للقارئ قصة سهلة.. وأفكار جاهزة.. بل أراد أن يجعله يفكر ويدقق ليكتشف أسرار النّص وخباياه بنفسه.. بمعنى آخر: يريد الكاتب أن يجعل من القارئ محلّلا وناقدًا.. لا مجدر متلقٍ.
– نشكر للأخ الكاتب سهيل عيساوي جهده… ونبارك عطاءه.. ونتمنى له ومنه مزيدا من العطاء المثمر المبارك.
بقلم: صالح أحمد (كناعنة)