شرفة على الزمن الجميل في حضرة الديوان العُثماني
تاريخ النشر: 29/05/16 | 16:30يقتلني الحنين إلى الزمن الجميل
يسير العمر بسرعة البرق..فالعمر غفلة!
أمامنا الضوء الأحمر!
تفرمل العربة..فتصرخ صفارة الإنذار عاليًا!
أتوقف لحظة..وألتفت إلى وراء..أنعم النظر.. فيقتلني الحنين إلى الزمن الجميل!
ألمح صورًا من الماضي الجميل عصيّة على النسيان. ففي زحمة الهموم وتزاحم المسؤوليات والضغوطات اليومية وإيقاع الحياة العصرية الذي لا يرحم..تختبئ هذه الصور وتغوص عميقًا عميقًا في خبايا الذاكرة..فأمتطي صهوة الحنين لمعانقتها!
أحن شوقًا إلى ديار———— رأيت فيها خيال سلمى
فجأة..وفي لحظة رحمانية..تطل الذكريات برأسها وتتوثب..فتنتفض وتنفض عن ثيابها غبار السنين..وتنتصب واقفة تحت الأضواء لتقول لنا بحرارة وعنفوان: قف.. أنا هنا!
وتهرع إلينا قوافل الحنين فنأخذها في الأحضان..ونشبعها ضمًّا ولثمًا..ويكون عناق يختزن شوقًا كان سجينًا في غياهب ذاكرة قضى فيها أكثر من نصف قرن!
نصف قرن!؟
أنا لا أصدق!
كأنها أمس أو أول أمس..على أقصى حد!
ولو قلت غير ذلك..فلا تصدقوني!
أما أنها حدثت قبل أكثر من خمسين عامًا..فتلك لعمري “دعابة” ثقيلة تنضوي تحت لواء نقشت عليه عبارة قلبها من حديد..”العمر غفلة”!
فصدّق يا محترم.. أو لا تصدق!
* سقى الله أيامكم أيها الرجل الوطني
سقى الله أيامكم أيها الرجل الوطني الجليل خالد العُثمان عون الله (أبو عُثمان) (1907-1995).
هل تعرف الأجيال الصاعدة دور هذا الرجل في الحركة الوطنية الفلسطينية قبل عام النكبة؟ لقد كان سكرتيرًا للجنة القومية التي رأسها في حينه إبراهيم عبد المجيد فاهوم (والد الصديق وليد الفاهوم). في عام 1948 جمع الرجلان الوثائق والمستندات في برميل كبير وأضرما فيها النار لاحتوائها معلومات عن أشخاص جلبوا السلاح من ديار بني أمية..كما يروي بعض العالمين بأسرار النكبة وهم شهود على العصر. كان أبو عثمان أحد أعضاء الحزب العربي ومن المقربين للمفتي الحاج أمين الحسيني. وبعد قيام “الإمبراطورية العظمى” الفتية..انخرط في العمل الوطني وكان من نشيطي الجبهة الشعبية (العربية سابقًا) التي عقدت مؤتمرها الأول في مدينة عكا عام 1959.
وهو الضلع الرابع الذي يتعانق مع الأضلاع الثلاثة التي شكلت المربع العُثماني: صبيح العُثمان عون الله (أبو نزار) ومحمد العُثمان عون الله (أبو فايز) ورؤوف العُثمان عون الله (أبو ماهر) حارس الجنينة الناصرية..وهي ملتقى الأحبّة والخلان..من أصدقاء وكتاب وشعراء ومثقفين..وغلابى آخرين!
تتعانق الأضلاع الأربعة لتشكل بـ”عونِ الله” عائلة “عون الله” وهي المربع “العُثماني” الذي كان جزءًا من المشهد الاجتماعي في مدينة البشارة. وننبش في الملفات التاريخية..فنكتشف ضلعًا خامسًا..إنه صالح العُثمان (أبو عصام) الذي غاب في جبل النار.
**
ملاحظة لُغوية: عُثمان وعُسمان وعُصمان!
ولا بد من ملاحظة لغوية. لقد اعتاد أهل الناصرة في محكيّتهم أن يلفظوا الثاء سينًا أو صادًا. كقولهم “عُسمان” أو “عُصمان” بدل “عُثمان” فقالوا “خالد العُصمان”.
ومن طرائف المحكية ما سمعته من أصدقائي في عرابة البطوف حول لفظ الاسم “عُثمان”، فهؤلاء يلفظونها “عِثمان” بكسرة تحت العين.
كما يجعل أهل المدينة من “الأستاذ” ..”أستازًا”!
وجعلوا من القاف همزة، فقالوا “آل” بدلا من “قال”!
فلله في خلقه وفي لغته شؤون!
وهو موضوع يطول شرحه ونتركه إلى فضاء آخر.
إن الرجل تطبّ في المطرح الذي تحبّ!
سقى الله أيامكم أيها الأحبة!
إسمع يا عبد الله!
أنا أعرف مَن دليلك!
أنت في الطريق إلى سوق الروم. ومعك دليلك المختبئ داخل الأضلاع.. فقد جاء في التراث..أن الرِجل تطبّ في المطرح الذي تحبّ!
ألم يعلمنا هذا التراث..أن قلب الإنسان دليله
وقبل وصولك إلى السيباط..تستوقفك البناية الكلاسيكية التي تقع على يسار القلب. تصعد اثنتين وثلاثين درجة..خطوة خطوة..وفي منتهاها يمينًا تجد أمامك الديوان/الصالون/غرفة الاستقبال..وهو “المضافة” التي تفتح صدرها لاستقبال الضيوف الكرام. هذه “المضافة” تشكل “دولة مستقلة” تجلس وحدها بمعزل عن البيت الكبير..وتحتضن الأصدقاء والأحبّة ورفاق الدرب الواحد.. هذه “المضافة” احتضنت العديد من الشخصيات الأدبية والثقافية والوطنية التي ساهمت في الحراك الأدبي والثقافي والاجتماعي والسياسي والوطني في هذا الوطن.
بين يديّ “سجل التشريفات” الذي يزخر بأسماء رُوّاد هذه “المضافة”..أسماء لامعة ورموز شكلت الهُوية الثقافية والوطنية والسياسية لشعبنا. ولن يتسع الفضاء المتاح لذكر الشخصيات التي تركت تواقيعها في هذا السجل. هؤلاء هم المريدون الذين احتضنتهم هذه “المضافة العثمانية”.
المضيف وعمدة البيت هو الرجل الجليل أبو عُثمان عامود الخيمة ورب البيت ورب العائلة الكريمة. أما حصتنا المباشرة ورفيقة دربنا الأدبية..وتوأم روحنا من هذه “المَضافة” واسعة الصدر..فصديقنا ورفيق دربنا الأدبي الشاعر طارق بن خالد بن عُثمان آغا بن عون الله..والمعروف بطارق عون الله..وهو الشاعر الذي أدار ظهره لمسقط رأسه ومدارج الطفولة في مدينة البشارة واستبدلها بعاصمة الضباب المختبئة وراء البحار..
هذه “المضافة” شاهدة على تاريخ..وعلى مشاهد ولقطات لها في القلب ذكرى وحنين.
في لُجّة البحر ما يُغني عن الوَشَل. هكذا جاء في الأمثال. ونقطة صغيرة من مياه البحر تختزل جميع صفات التي يخبئها محيط بلا شواطئ.
اللوحة الصغيرة تطل علينا من عالم المشهد الكبير الذي يزخر بالمئات من الحكايا التي تشكل فسيفساء الزمن الجميل. وكل لمسة ريشة وكل حكاية عالم قائم بذاته يفيض شلالا من الذكريات والحنين.
تطل الظبية الخجولة من وراء الباب
ذات أمسية مميزة..وفي “المضافة العثمانية” يجتمع الأحبّة: محمود درويش وسميح القاسم ووليد الفاهوم وحسين أبو ركن ونبيل سعد وإبراهيم الزعبي وفتحي فوراني.
ويكون الحديث عن الشعر والشعراء..فيطول السهر ليشرف أحيانًا على ساعات الفجر الأولى..وعلى رباعيات الخيام!
فما أطال النوم عمرًا ولا ————- قصّر في الأعمار طول السهر
تطل الظبية الخجولة من وراء الباب..حاملة صينية تعطرها فناجين القهوة الشذيّة القادمة لتوّها من ورشة “بن فاهوم”..وتزينها تشكيلة من المكسّرات..ومن فواكه الجنّة وفيها ما لذّ وطاب..
فيُغضّ الطرفُ حياءً..ويَرتبك الأصحاب!
حماك الله أيتها الظبية..وأبقاك “حلال” الباسمة دائمة الربيع والشباب!
جدران البناية التراثية ترشح بعبق التاريخ
ألطريق من “الدولة المستقلة” وصولا إلى البيت الكبير العامر بأناسه الطيبين..مفروش بالأزهار الضاحكة والكثير من الحنين..تخطو خطوة خطوتين ثلاث خطوات..فإذا بك أمام البوابة الكبيرة. تحيطها الحارسات اليعربيات..أصص الورد الجوري مرتديات أزياءهن الحمراء والبيضاء والصفراء والبنفسجية..وأصص الفل والياسمين “المكبّس” ومن حولها النباتات الخضراء المرصعة بالنجوم الزاهرة. تتعانق خيوط اللوحة لتتسلق جدرانًا تخبئ حجارتها في عبّها أسرار تاريخ يعود إلى عام 1902.
ألبناية تحفة أثرية ترشح من بين عروق جدرانها العتيقة أعشاب خضراء وعبق تاريخي يوحي بـ”أمجاد” الأيام العثمانية.
تطأ العتبة..فتفتح البوابة صدرها..وتضم إليها ضيوفها..فينشرح صدرها!
نزلتم أهلا..ووطئتم سهلا!
أنت داخل إيوان تكاد جدرانه تتكلم..تزينها نقوش وزخارف ومنمنمات تاريخية تشي بأيام العزّ الغابرة..وتريد أن تنطق..فتكاد تسمعها شهقتها.
فكيف أنساكم أيها الأحبة!؟
في الظهيرة..يتعانق العقربان..ثم يسرع العقرب الكبير فيتجاوز أخاه الصغير بدورة دائرية كاملة.
مائدة الغداء تنتظر الأحبة!
يقول طارق.
يتردد الفتى عبد الله..حياءً!
فيأتي رب العائلة الرجل النحيف والجليل أبو عثمان ببذلته الأنيقة..معتمرًا كوفيته الفلسطينية..تزين قميصه ربطة عنق سَنيّة..وعلى شفتيه ابتسامة أبويّة..
يتقدم نحو الفتى ويمسك بيده..بلطف أبويّ:
عمّي فتحي..نحن أهل..أنت منّا وفينا..فلماذا الحياء؟ هيّا إلى المشاركة مع إخوتك وأخواتك عثمان وزهير وطارق ونوال وسهاد وحلال..هيا إلى لقمة العيش والملح!
لقمة؟
إنها مائدة ملوكية عامرة بما لذّ وطاب..تخرّجت من بين يدي سيدة الجميع وتاج رأس العائلة والأصدقاء..وفيها الخير كل “الخير”..أم عُثمان..وأمّنا جميعًا!
فكيف أنساكم أيها الأحبة!؟
غلابى ثلاثة..أدركتهم حرفة الأدب
في هذه “المضافة”..وذات أمسية ثقافية..يجتمع غلابى ثلاثة: محمود درويش وطارق عون الله والفقير إليه تعالى..ثلاثة أدركتهم حرفة الأدب ولهم عشيقة واحدة..تكون الأحاديث عن العشق والعشاق..والطرائف والحكايات عن غزل الشعراء العذريين وغير العذريين..وعن مغامراتهم وبطولاتهم..وتفرش المائدة الأدبية بأطايب الأشعار وأجمل الأبيات لجميل بثينة وعمر بن أبي ربيعة وأبي نواس وديك الجن الحمصي ونزار قباني وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) وعمر أبي ريشة وعلي محمود طه..
نخوض البحار الشعرية..ثم ننزل على الشاطئ..
ثم نمشي في الحقول الملغومة..فتكون لنا إطلالة على حكايات “الفاكهة المحرّمة” التي تحفل بمطاردة الظباء في حقول الكتب السماوية المقدسة!
ويرتوي المساء ويكتظ بالقصص والنوادر الطريفة..وتفتح الملفات الشخصية!
هذه الملفات تختبئ في عبّها قصص العشق المثيرة..والتي تنتظر في الدور للدخول إلى سجل العشق الذهبي!
“لغتنا الجميلة” عروس السهرة
قلب الشاعر الفتى يتوثب عشقًا وشعرًا!
يجلس قبالتي على كنبة دمشقية..فيتمثل أمامي ظلًّا لفاروق شوشة حاملًا في جعبته مفردات يقطفها من حدائق “لغتنا الجميلة”!
فشاعرنا النصراوي طارق من عشاق فاروق شوشة..ويتباهى بصوته الإذاعي الخارج من ورشة اللغة العربية في “البرنامج الثاني” من إذاعة البرنامج العام من القاهرة.
أين كانت هذه الموهبة مختبئة؟
لقد أطربتنا أيها الفتى الغرّ..
فهات فكّ الحصار وأطلق الأسرار الشعرية النائمة في حقيبتك الثقافية!
يخرج الشاعر من الحقيبة أسرارها..فيتألق في إلقائها..بصوته الإذاعي العذب.
إلهي إلهي..لماذا تركتني؟
من عاصمة الضباب..تأتي رسالة العتاب..
لماذا غبتَ عني؟ لقد طال الغياب..
يقتلني الشوق للقاء الأصدقاء والأحباب.
إلهي إلهي..لماذا تركتني؟ لماذا أشحت بوجهك عني؟
لماذا تركت يوليسيز وحيدًا يهيم على وجهه في بحار الغربة؟
عبر الضباب ومن وراء البحار..تطل من شرفتها لوحة يحتل مركزها الشاعر وحوله ملاكان صغيران من ملائكة الجنّة..جنّة الله عن يمينه وسماء الله عن يساره.
تطير رسالة من حيفا عروس الكرمل إلى شاعر بين الجنّة والسماء..في عاصمة الضباب.
فيها يقف الراوي مستمتعًا باللوحة ويكتب تحتها بريشة مغموسة من دم القلب:
إنها لوحة إبداعية نادرة رسمتها ريشة خالق مبدع. دمتَ “سماء” تحيطها الجنّة والشعر والكثير من الحب. ودمت “جنّة” تخيم عليها سماء مرصّعة بالنجوم الزاهرة. ودمتَ “طارقًا” أبواب مدينة الضباب وفي قلبك حنين قاتل للعودة إلى سهرة مع الأحبّة في مدينة البشارة وفي الوطن الجميل.
ولا تبقى الرسالة بلا جواب.
من بعيد..وعبر الرياح المسافرة من لندن عاصمة الضباب..يأتي صوت الشاعر النصراوي فيحلق عاليًا ثم يحط في خيمة “المتنبي” في عروس الكرمل:
أخي فتحي، لو كنت أدري أنك ستجود علينا بهذا الكلام العذب..لكنت نشرت الصورة قبل هذا التاريخ. عيناك الثاقبتان رأتا ما لم يره غيرك، ولذا فكلماتك الشاعرية تحتاج إطارًا يضمها للذكرى. أشكرك أخي وصديق عمري، ولنا لقاء قريب في بيتنا وبيت أهلك في مدينة البشارة
أخي فتحي
كلامُكَ خمرٌ لا توازيه خمرةٌ
وللكأسِ من عذبِ الكلامِ بريقُ
سأعطيكَ عهدًا خُطَّ بين جوارحي
وثيقًا وعهدُ المخلصينَ وثيقُ
سأثملُ في صهبائِكَ العمرَ مطلقًا
وأبقى حبورًا لا أكاد أفيقُ
واللهِ يا فتحي، لو لم تكن كاتبًا مبدعًا، لكنت شاعرًا يشار إليه بالبنان. دمت يا أخي ورفيق الشباب، عاشقًا بين مدينتين. لك الشكر والمحبة الدائمة.
عزيزي طارق
عروسان في انتظارك
عروس الكرمل وعروس الجليل
تحملان باقة ورد جورية..والكثير من الشوق
سماء الله وجنة الله
فلا تتأخر علينا
فتحي
إنما الأيام مثل السحاب
هذه برقيات سريعة..يحملها قطار العمر..ويطلقها حنينًا إلى الزمن الجميل.
فـ”هل تستعاد أيامنا في الخليج وليالينا”؟
يطل الخيام برباعياته..فيرمينا بواحدة من عِشقيّاته
أولى بهذا القلب أن يخفق وفي ضرام الحب أن يحرقا
ما أضيع اليوم الذي مرّ بي من غير أن أهوى وأن أعشقا
ثم يتابع حاملا معه “إطفائيته”
أطفئ لظى القلب بشهد الرضاب فإنما الأيام مثل السحاب
هذا هو النشيد الخيّامي الذي طالما أنشدناه في أول الطريق نحو بحار العشق..والنزول في جزرها والتنزه في حدائقها الغنّاء.
ومن “كرمة ابن هانئ” يطل علينا أمير الشعراء معاتبًا:
اتقوا الله في قلوب العذارى فالعذارى قلوبهن هواءُ
فهل نشدّ الأيام من شعرها لنعيدها إلى أحضاننا..ونقف على العتبة الأولى من السجل الذهبي؟
لا يلبث التاريخ أن يمد لنا لسانه ساخرًا!
أمس الذي قضى على قُربه يعجز أهل الأرض عن ردّه
هكذا قال أعمى المعرة.
ألليل ليل..والصباح رباح
ألليل ليل!
والساعة الثانية بعد منتصف الليل
العيون ذبلى أنهكها السهر..
أيها الأحبة..فرسان العشق الثلاثة!
الليل يدعوكم!
فقد جعلنا الليل فراشًا..والنهار معاشا
تصبحون على شعر..
الملتقى غدًا..
زقزقات العصافير في ساعات الصباح..في انتظاركم..الصباح رباح!
فإلى يوم آخر..وصباح آخر.
25-5-2016
حيفا
(من كتاب “جداريات نصراوية”)
فتحي فوراني