قصص لسعيد فائق بلغة موليير
تاريخ النشر: 21/10/13 | 8:32في مقدمته لديوان "المقهى المجاور" للكاتب التركي سعيد فائق (1906-1954)، الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً، كتب مواطنه الشاعر أنيس باتور يقول: "من النادر أن نعثر في الأدب العالمي على كاتب تمكن من رسم الواقع اليومي بهذا القدر من الدهاء والرهافة".
ويعتبر الديوان أحد أفضل الدواوين التي كتبها فائق في المرحلة الأخيرة من حياته سواء على مستوى مزاوجته فيه بين أحلام يقظة مثيرة ومغامرات بؤساء عاشرهم خلال تنقله الدائم بين إسطنبول وجزيرة بورغاز، أو على مستوى التبسيط النموذجي لأسلوبه وتصفيته من أي تجميل، أو على مستوى الطرافة الكئيبة التي تعبر نصوصه مرفقةً بحسٍّ عبثي عال وحرية كاملة في التعبير تجعل من فائق أول مَن ثوّر النثر التركي شكلاً ومضموناً.
وتبدو قصص الديوان بعيدة كل البعد عن السرد المشوّق، كرسوم إعدادية أو بورتريهات غير منجزة للكاتب في وضعيات تأملية مثيرة ولكن أيضاً لطفل مصاب بالجرب يشحذ لقمة العيش في الشارع، ولندّاف مسنّ يتوفى حزيناً تحت أعيننا، ولبائع كستناء غير محظوظ في عمله، ولبائع جرائد يعاني من تنكّر ابنه الطبيب له، ولجدّة بائسة تسعى جاهدةً لشراء تذكرة سفر إلى إزمير، وطبعاً لكثير من الصيادين.
مراحل
ورغم أن القصص لا يحدث داخلها أي تطوّر ولا تحمل أي رسالة، فإنها مع ذلك تهزّ كياننا بطريقة كتابتها الفريدة، أي على شكل أفلام قصيرة مصوّرة بالصدفة، كما لو أن ثمة آلة تصوير مثبّتة على جبين الكاتب وتلتقط المشاهد من دون علمه.
هذه الطريقة في الكتابة لم تكن جاهزة منذ البداية لدى فائق، بل أتت نتيجة نضج على مراحل متعددة، علماً أن جميع دواوينه تحمل آثار الظرف التاريخي والمحيط الجغرافي الذي نشأ فيه، أي انهيار الإمبراطورية العثمانية وتشييد الجمهورية التركية العلمانية، من دون أن ننسى أجواء موطن طفولته في مدينة أدابازاري الحاضرة في أربع قصص داخل هذا الديوان والتي تفسّر التعددية العرقية والثقافية فيها نفور الكاتب من النزعة القومية وتقرّبه من الأقليات والهامشيين في وطنه.
وموهبة فائق الكتابية ظهرت أولاً مع قصة "منديل الحرير" (1925) التي كتبها كفرض مدرسي وفتنت أستاذه إلى حد دفعه إلى المثابرة على الكتابة. وعلى أثر قراءته لأندريه جيد وجان جينيه ولوتريامون وبروست في فرنسا حيث أمضى أربع سنوات (1930-1934)، وتطورت هذه الموهبة، كما يتجلى ذلك في القصص التي كتبها آنذاك ونشرها في صحف تركية ثم في مجلة "فارليك" الأدبية الشهيرة.
ومنذ دواوينه الأولى: "غلاية الشاي" (1936) و"الصهريج" (1939) و"المطرقة الآلية" (1940)، تمكن فائق من إسماعنا موسيقى فريدة، حديثة في تركيبتها ومضمونها، وإن لم يكن قد لجأ بعد إلى اللغة الشفهية التي تميز قصصه اللاحقة.
ولا تنبع حداثته من التزام أو من تأثر بتيارات غربية محدّثة، بل من نصوص تشكّل مرآة لحياته وشخصيته الفريدة ولا يروي فيها قصصاً بل حالات، ويعود فيها إلى أماكن طفولته وصباه متحدثاً عن نفسه بصيغتي المتكلم والمجهول، وأحياناً من خلال شخصيات متواضعة تتمتع بحسّ إنساني كبير، كقرويين وعمّال وأطفال وهامشيين ورحالة ونُدُل وموظفين.
حلم وسخرية
ومن خلال هذه الدواوين، يظهر فائق كرجل يحلم باستمرار ويسخر من نفسه ومن محيطه ويعاني من اضطراب وألم سببهما كآبة عميقة. أما الجانب الثوري في هذه الدواوين فيكمن في تيه صاحبها الثابت داخلها وحرية تعبيره عن أناه الحميمة وتمايزه عن الكتّاب الأتراك المعاصرين له بجُمله البسيطة واستخدامه فن الإضمار ورفضه السرد الخطوطي لعدم قدرته على ترجمة الحياة.
ومع ديوان "رجل بلا جدوى" (1948)، سجّل فائق قطيعة مع أسلوبه ومواضيعه السابقة، فتخلى عن اللغة التركية المكتوبة لصالح لغة محكية طيّعة، واختزل إطاره الجغرافي وأسقط من قصصه ذكريات طفولته وأهمل الماضي والمستقبل لصالح الحاضر مبرّزاً في هذا السياق أناه من خلال شخصيات تترجم ضيقه داخل المجتمع وعزلته ويأسه وميوله الانتحارية.
ورغم وضعه النفسي الصعب، تشكل الفترة اللاحقة من حياته (1948-1952) أكثر مراحل مساره خصوبةً. فخلالها أصدر خمسة دواوين قصصية: "المقهى المجاور" (1950) الذي نُقل حديثاً إلى الفرنسية، و"غيمة في السماء" (1951) و"قرب البركة" (1951) اللذان نزع فيهما قناعه الأخير لكشف هويته الجنسية الملتبسة، و"الطيور الأخيرة" (1952) الذي فضح فيه أضرار المجتمع الاستهلاكي ليس فقط على الأفراد، بل على الطبيعة أيضاً وأسف لتواري المحلات والمقاهي الشعبية مع العصافير والنباتات.
لكن ثورة فائق الكتابية لم تتوقف عند هذا الحد، فقبل أسابيع من وفاته أصدر ديواناً قصصياً أخيراً بعنوان "ثعبان على قمة العالم" أخضع أسلوبه فيه لتحولات جديدة تستحضر في الشكل والمناخ الكتابة السورّيالية، مستعيناً في ذلك بلغة جدّ عامية تتراوح بين هذيان وصراخ. ديوان سبّب هزة جديدة داخل الأدب التركي ما زالت انعكاساتها فاعلة إلى حد اليوم.
المصدر:الجزيرة