بلاغية في كتاب "البلاغة والأدب"

تاريخ النشر: 24/10/13 | 7:04

يتناول كتاب "البلاغة والأدب، من صور اللغة إلى صور الخطاب" للباحث الأكاديمي والناقد محمد مشبال إشكالات نقدية أدبية تتعلق بعلاقة البلاغة بالأدب؛ وهو الإشكال الذي طالما شغله منذ كتابه الأول "مقولات بلاغية في نقد الشعر" وبلوره عبر كتبه الأخرى في سياقات متنوعة ومتعددة ارتبط بعضها بدراسة الأدب العربي القديم مثل النوادر والأخبار، أو تعلق بعضها الآخر بالأدب الحديث وخاصة الرواية، وقد جمعت هذه الأعمال بين النظر والتطبيق، وبين التحليل الدقيق والسجال النقدي الفعال. ويأتي كتابه الأخير في إطار هذا التراكم ليطرح قضايا على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للمشتغلين بالنقد الأدبي وخاصة لمن يهتم بالبلاغة ومجالات توسيعها في الدرس الأدبي. فما الجوانب التي تعرض لها في كتابه الجديد هذا؟ وهل للبلاغة مكان وحيز في الدرس النقدي/ الأدبي الحديث؟ وما النتائج التي توصل إليها الباحث في رحلته مع البلاغة كما طورتها بعض الاتجاهات النقدية الحديثة؟ وهل يمكن أن تحل المقاربة البلاغية محل المناهج النقدية الحديثة التي تبلورت في سياق العلوم الإنسانية بشتى مشاربها وسياقاتها المعرفية؟

هذه أسئلة ستكون نبراسا نهتدي به لقراءة هذا الكتاب والوقوف عند محاوره وفصوله. يتكون الكتاب من خمسة فصول تتناول الموضوعات الآتية:

1- عن تحولات البلاغة.

2- عن البلاغية: بين بلاغة الأدب وبلاغة الحجاج.

3- البلاغة العربية وصور الخطاب.

4- نحو بلاغة أدبية.

5- في نقد مقاربات بلاغية.

ومن خلال عناوين الفصول ندرك أن أهم ما تناوله الباحث من قضايا في كتابه ترتبط بقضية توسيع البلاغة لتشمل الخطاب في مختلف تجلياته الأسلوبية اللغوية والتداولية/الحجاجية، وقد ركز على معطيات نقدية تاريخية تبين كيف كانت البلاغة درسا جامعا للأمرين منذ القدم، لكن تحولاتها ضيقت من آفاقها وحصرتها إما في الصيغ اللغوية الأسلوبية أو في البعد التداولي. وفي هذا السياق أشار الكاتب إلى أن مؤرخي البلاغة ومنظريها أكدوا أن تحول البلاغة من المن

ظور الحجاجي إلى المنظور الجمالي كان تضييقا للبلاغة القديمة واختزالا لمفهوماتها وتقويضا لأساسها النظري، باعتبارها نظرية للخطاب الحجاجي من حيث المقاصد والبناء والأسلوب. والبلاغة في نظر هؤلاء المؤرخين ليست سوى دراسة للنص من وجهة وظيفته الحجاجية، وحتى دراسة الوجوه الأسلوبية في النص ينبغي أن تخضع لمبدأ التلازم بين الأسلوب والحجاج؛ فالمقاربة البلاغية للوجوه الأسلوبية معنية بما تحمله من أبعاد حجاجية. وإن التمسك بالبعد الحجاجي في تحديد البلاغة على نحو ما هو سائد في التصورات البلاغية الجديدة، لا يفضي بالضرورة إلى حصر عملها في مقاربة الخطابات التداولية دون الخطابات الأدبية. وفي هذا السياق يقول الناقد:

"والحق أن التفكير في توسيع النظرية البلاغية اليوم لتشمل مكونات العمل الأدبي وسماته، يستوجب بالضرورة التنبه إلى مختلف وجوه الاختزال الذي تعانيه، مما يحد من قدرتها على الرحابة والتوسع. ولعل أهم هذه الوجوه التي حصرت البلاغة في دائرة ضيقة وحالت بينها وبين استيعاب ثراء الخطابات، هو بناؤها على مبادئ كلية محدودة؛ فمفهومات "التحويل" و"التغيير" و "الاستبدال" و "الانزياح" و "الاختيار" التي استند إليها البلاغيون في تحديدهم ل"بلاغية الخطاب"، تعد مبادئ كلية لا تملك القدرة على تمثيل البلاغات النوعية التي تجسدها أنواع أدبية مختلفة؛ فالخطاب الروائي ببلاغته النوعية المخصوصة لا دور له في صياغة هذه المبادئ التجريدية العامة". (ص. 33- 34)

وبهذا يلح الناقد على ضرورة الإنصات إلى النص الأدبي والانطلاق من بلاغة نوعية في التعامل معه دون الارتهان دائما إلى المبادئ الكلية والمقولات الجاهزة التي ضيقت أفق البلاغة. ولعل هذا الطرح النقدي هو الذي يُعد مدار هذا الكتاب وعلة وجوده، ولذلك أفرد له الناقد فصلا قائما بذاته أسماه "نحو بلاغة أدبية"، وفي هذا الفصل يشير إلى أن الدراسات البلاغية العربية الحديثة صدرت في بناء تصورها عن وجود أكثر من بلاغة في تراثنا يجب التنبه إليها ومن ثم تطوير الصالح منها، وهكذا أفرزت تلك الدراسات مصطلحات عدة لتوصيف بلاغات أخرى مقابل ما أُطلق عليه "البلاغة الأدبية" منها: البلاغة النظرية- البلاغة الكلامية- البلاغة الرسمية- البلاغة الاصطلاحية- البلاغة المدرسية- البلاغة المتفلسفة… ويصنف الناقد هذه البلاغات المرفوضة إلى صنفين:

– الصنف الأول: هو ما سُمي بالبلاغة النظرية، أي من حيث هي علم نظري ينزع إلى التقنين والتقعيد.

– الصنف الثاني: وهو ما يسمى بالبلاغة الحجاجية، أي البلاغة التي تنظر إلى النص من حيث فاعليته وتأثيره العملي في المتلقي.

ويؤكد الدكتور محمد مشبال أن دفاع هؤلاء الدارسين عن أدبية القرآن والشعر ودعوتهم إلى لل البلاغة في بيان سحرهما وأسرار جمالهما، كان يعني أن "البلاغة الأدبية" مطالبة بتقويض أسس "البلاغة النظرية" ومفهومات "البلاغة الحجاجية"؛ لكن ما سيتبين في الواقع العملي أن هذه الدراسات لم تكن بعيدة عن بلاغة الحجاج على الرغم من إعلانها الخصومة مع مفهوماتها. وفي هذا الإطار يقف الناقد في البداية عند محاولات أمين الخولي الذي لم يستطع التحرر من بلاغة الحجاج حينما تبنى التصور البلاغي الحجاجي لأجزاء الخطاب المتمثلة في الإيجاد والترتيب والتعبير في سياق حديثه عن ضرورة توسيع البلاغة خارج حدود الجملة، وهي المراحل الأساس المعتمدة في إنتاج الخطاب وتأويله وفق البلاغة اليونانية القديمة التي لا يبدو أن الخولي يمتح منها، ولكنها من آثار اطلاعه على الدراسات البلاغية الغربية الحديثة التي قامت أساسا على تحوير بلاغة أرسطو لخدمة الأدب. والباحث الثاني الذي يتناول محاولته هو سيد قطب الذي أدرك، بدوره، أن بلاغة القرآن الكريم لا يمكن مقاربتها بأدوات أدبية مستقلة عن البعد الحجاجي أثناء وضع اليد على "التصوير" في القرآن وفق تصورات جمالية وأدبية مشتقة من الآداب الحديثة والفنون الخالصة. ولقد شكل النظر في القرآن الكريم من حيث هو نص أدبي بليغ مناسبة لإعادة النقاش حول موضوع البلاغة وحدودها وأدواتها وإمكاناتها وغاياتها. إن السياق الأدبي الذي انطلق منه هذا النظر سياق مغاير يحتفي بالأدب من حيث هو نشاط جمالي منزه عن الأغراض العملية والنفعية؛ نشاط يعبر عن الإحساس الجمالي عند الإنسان.

هل تملك البلاغة القدرة على وصف الإحساس الجمالي عند الإنسان وتفسيره على نحو ما تمت ترجمته أو تجسيده في صور قرآنية بليغة؟

يرى الناقد محمد مشبال أن مثل هذا السؤال هو الذي حرك التفكير البلاغي الحديث نحو مشروع نقد البلاغة القديمة وتجديدها، وأن الأساس النظري الذي أقيم عليه هذا المشروع التجديدي هو تحويل البلاغة من علم وصفي تصنيفي إلى علم تفسيري تأويلي؛ فالنصوص الأدبية والبليغة العظيمة لا يجدي معها المنهج المنطقي النظري الذي يُعنى بالأدوات والقواعد على حساب التجربة الإنسانية المصوَّرة، من هنا قامت الحاجة إلى منهج أدبي قادر على تفسير هذه التجربة وتوصيلها. ولقد سعى أمين الخولي وتلامذته من بعده إلى خلق بلاغة تفسيرية قادرة على تأويل القيمة الجمالية في الأعمال الأدبية، بلاغة تكون أداة وليست غاية.

ويؤكد الناقد أن من حق القراء المعاصرين أن يخوضوا في تأويل الصور الشعرية والقرآنية التي وقف عندها البلاغيون القدامى في تأويلاتهم الشكلية أو الحجاجية، وذلك قصد اكتشاف أبعاد أخرى لم يتأت للقدماء إدراكها لأن القراءة والتأويل في المحصلة النهائية لا يرتبطان بالكفاية الذاتية للقارئ والمؤول فقط، بل يرتبطان بالسياق التاريخي والثقافي الذي يسهم في تشكيل أفق القراءة أو التأويل، وعلى هذا النحو ندرك السر في جملة من الصور الشعرية والقرآنية الحسية التي تكشفت عن أبعاد إنسانية ووجدانية غنية في التأويلات البلاغية الحديثة. ولقد كان الدافع الحقيقي الذي حمل الشيخ أمين الخولي وتلامذته على المغامرة في الدعوة إلى تجديد البلاغة هي القناعة بأن النظرية البلاغية القديمة قامت على أسس لا تسمح لها –بصورتها التي انتهت إلينا- بأن تساعدنا عى تذوق الأدب وفهمه فهما ملائما لطبيعته الجمالية. ومن ثم يستنتج الناقد ويؤكد أن هذه الدعوة الحديثة إلى تجديد أسس النظرية البلاغية القديمة استندت إلى مبدأ الدفاع عن الأدبية وعن القيم الجمالية والروحية في النصوص البليغة، وهي دعوة إلى وصل البلاغة بالأدب خدمة لقيمه الجمالية، وليس خدمة للبلاغة من حيث هي علم مستقل بذاته. تجديد البلاغة إذن ليس القصد منه خدمة العلم والدراسة بل الأدب والأعمال الأدبية.

بعد هذه الرحلة الوجيزة والمكثفة مع أهم قضايا الكتاب يمكن أن نعود إلى الأسئلة التي أثرناها في بداية هذه القراءة، ومنها:

– هل للبلاغة مكان وحيز في الدرس النقدي/ الأدبي الحديث؟

الجواب بالإيجاب مع الإصرار ثم الإصرار الذي يعبر عنه الكاتب في إلحاح. إن النقد الأدبي الحديث لا يمكن أن ينفك من البلاغة ومن إمكاناتها الرحبة. والدرس النقدي/ الأدبي الحديث في الغرب والشرق لم يكن له من منطلقات ومدارات سوى البلاغة في طابعها الحجاجي أو الأسلوبي أو في إنصاتها للنصوص حسب أجناسها ونوعيتها.

– وما النتائج التي توصل إليها الباحث في رحلته مع البلاغة كما طورتها بعض الاتجاهات النقدية الحديثة؟

الخلاصة التي ينتهي إليها الناقد من خلال دراسته لتطور درس البلاغة وعلاقته بالنقد الأدبي الحديث في اتجاهاته المختلفة أن البلاغة تقع في صلب النقد الأدبي ومن ثم، فإن ثنائية :البلاغة والأدب تصبح لاغية ما دامت البلاغة الأدبية لا تنفصل عن النص الأدبي ذاته، وما دامت النصوص تصنع بلاغتها النوعية المخصوصة، ومن هنا كان لا بد من تطوير وسائل البلاغة والانطلاق من النصوص للكشف عن أدبيتها وبلاغتها.

– وهل يمكن أن تحل المقاربة البلاغية محل المناهج النقدية الحديثة التي تبلورت في سياق العلوم الإنسانية بشتى مشاربها وسياقاتها المعرفية؟

ما يمكن أن نستنتجه من قراءة الكتاب أن الناقد يرى أن البلاغة لا يمكن أن يستغنى عنها في دراسة النص الأدبي والكشف عن قيمه الجمالية والإنسانية، ومن ثم، فإن المناهج النقدية الأدبية بمختلف مشاربها وسياقاتها تستثمر معطيات البلاغة شاءت أم أبت، ولعل هذا الحضور اللافت للبلاغة هو الذي قد يجعل منها "مقاربة" قائمة بذاتها في تناول النص الأدبي وكشف خصوصياته الفنية حتى دون اللجوء إلى المناهج التي ذهبت بعيدا عن الإبداع واهتمت بالتنظير والتقعيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة