الربا والأزمات الاقتصادية
تاريخ النشر: 29/10/13 | 4:15لا يخفى على أحد ما يتعرض له الاقتصاد العالمي باستمرار من أزمات مالية، تهزه هزّا عنيفا، وتمتد لتعمّ معظم دول العالم شرقيِّه وغربيّه، شماله وجنوبه، بل وتمتد هذه الأزمات من الاقتصاد المالي، لتشمل الاقتصاد الحقيقي برمّته، مما يحدث ذعرا في أرجاء العالم، وتُفقد الثقة في كثير من المتعاملين في الأسواق المالية. كما وتسفر هذه الأزمات عن إفلاس عدد من أكابر البنوك وأعرقها وعدد من بيوتات المال.
كما وتحدث كثير من الخبراء والمحللين عن أسباب تلك الأزمات، من هذه الأسباب: التمويل الربوي، والمضاربات المالية، والاستهلاك البذخي والترفي، وغير ذلك..
وقد تحدث عديد من علماء الاقتصاد عن الأضرار والمفاسد الاقتصادية للربا، وبيّنوا آثاره على الاقتصاد، وذكروا بأن الربا هو وراء الكثير من العواصف الاقتصادية التي تعصف بين الحين والآخر، وأنه سبب من أسباب حدوث الأزمات المالية العالمية. ومن العجيب أن بعض الناس ظنوا أن الربا يُحدث خيرا للناس، وأنه ضرورة اقتصادية ولا غنى عنه بتاتا، وإذا منعناه سينهار الاقتصاد، وبل وفُتن بهذا الدعوى كثير من رجال الفكر، بل ومن العلماء الذين في فترة من الفترات ظنوا أن الربا ضرورة، وهو- في الحقيقة- لم يكن كذلك يوما من الأيام، بل وثبت أن الربا هو وراء كل الشرور التي تصيب الاقتصاد، وتفتك به.
الأضرار الاقتصادية للتمويل الربوي:
1- تعطيل الطاقة البشرية:
الربا يعطل الطاقات البشرية المنتجة، ويرغِّب في الكسل وإهمال العمل، والحياة الإنسانية إنما ترقى وتتقدم إذا بذل الجميع طاقاتهم الفكرية والبدنية في التنمية والإعمار، والمرابي الذي يجد المجال رحبا لإنماء عمله بالربا يسهل عليه الكسب الذي يؤمّن له العيش، فيألف الكسل ويمقت العمل، ولا يشتغل بشيء من الحرف، والصناعات.
ثمّ إنَّ تعطيل الربا للطاقات المنتجة لا يتوقف على تعطيل طاقة المرابي، بل إن كثيرا من طاقات العمل ورجال الأعمال قد تقل أو تتوقف؛ ذلك أن الربا يوقع العمال في مشكلات اقتصادية صعبة، فالذين تصيبهم المصائب في البلاد الرأسمالية لا يجدون إلا المرابي الذي يقرضهم المال بفوائد عالية تعتصر ثمرة أتعابهم، فإذا أحاطت هذه المشكلات بالعمال أثرت في إنتاجهم.
2- التضخم:
إن إضافة الفوائد على تكلفة الأصول أو تكلفة البضاعة يؤدى إلى ارتفاع الأسعار، وهذا يقود إلى التضخم، ولقد قيل: إن الفائدة هي وقود التضخم ، فكلما ارتفع سعر الفائدة كلما زاد معدل التضخم.
ويوضح الدكتور عبد الجبار السبهاني ذلك بقوله: "إن التمويل الربوي يحِّمل الإنتاج تكاليف عقدية باهظة، وهذه التكاليف التي يدفعها المنظم للممول بناء على عقد الربا، يعود فيرحّلها إلى المستهلكين عبر الأسعار، وإذا عرفنا أن التمويل مُدخل لا تستغني عنه أي عملية إنتاجية، فهذا يعني أن الربا مصدر رئيس من مصادر التضخم الذي ينعت بتضخم دفع الكلفة، ولن تستطيع السلطات النقدية الحد من هذا التضخم وإن استخدمت سعر الفائدة كأداة لتحقيق الاستقرار السعري".
3- زيادة حدة التفاوت بين الناس:
وبحساب رياضي ينتقل المال كليا من أناس إلى آخرين كما يذكر الاقتصادي الألماني دكتور شاخت مدير بنك الرايخ الألماني سابقا في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه "بعملية رياضية (غير متناهية) يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين؛ لأن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية بينما المدين معرض للربح والخسارة، ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بدّ أن يصير إلى الذي يربح دائما، وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل بحيث أن بضعة ألوف سيملكون رؤوس الأموال (المصارف)، ويستدين منهم باقي الملاك وأصحاب المصانع والعمال ويصبحون بمثابة أجراء يعملون لحسابهم".
4- تخفيض الإنتاج والاستثمار:
إن رفع سعر الفائدة يؤدي إلى تثبيط همم المستثمرين عن القيام بأية مشاريع جديدة، أما خفض سعر الفائدة فإنه يشجع على زيادة الاستثمار وبالتالي زيادة الإنتاج. ومن باب أولى أن إلغاء سعر الفائدة سوف يشجع بشكل أكبر على زيادة الاستثمار والإنتاج.
يتبين مما تقدم بأن الربا له آثار جسيمة على الاقتصاد تطال كل متغيراته، لذلك وجب على المسلمين تجنب التعامل الربوي التزاما بالمنقول من الشريعة بهذا الخصوص، وإدراكاً للمعقول، لأن في ذلك درء مفاسد كثيرة وجلب مصالح واقعية وملموسة.
أثر التمويل الربوي في إحداث الأزمات المالية:
للربا أثر ودور في إحداث الأزمات المالية التي تعصف بالاقتصاد بين الحين والآخر، والتي أصبحت سمة أساسية من سمات النظام الرأسمالي، فقد أشار الدكتور عبد الحميد الغزالي إلى أن الفائدة الربوية هي أساس التقلّـبات الحادثة في الاقتصاد الرأسمالي، مُـبيِّـنًا أن "منظري الاقتصاد الرأسمالي يؤكِّـدون أن التقلُّـبات الاقتصادية، ترجع بالأساس إلى التمويل عن طريق سِـعر الفائدة".
كما أن العديد من المفكرين الغربيين، وبعضهم من منظري الفكر الاقتصادي الرأسمالي، أكدوا على أن الربا هو الذي يسبب الأزمات المالية، وأن الحل والمخرج هو باتباع النظام الاقتصادي الإسلامي، ومن هذه الأقوال ما ذكره الاقتصادي الأمريكي "سيمونز"، بعد سنوات من دراسة أسباب الكساد العالمي، حيث يقول: "إن السبب الرئيسي في الكساد، يرجع إلى التمويل عن طريق الاقتراض قصير الأجل بفائدة"، ويوضِّـح أن "المخرَج من وجهة نظري، هو الأخذ بنظام التمويل الذّاتي من خلال الأرباح غير الموزّعة أو المشاركة بالحِـصص أو الأسهم"، وها هو "فينيسكي" وهو اقتصادي أمريكي أيضًا، يؤكِّـد استنتاج "سيمونز" ويُـضيف أن "التقلّـبات الاقتصادية من انكِـماش وتضخُّـم، ترجِـع إلى التمويل عن طريق الاقتراض بفائدة".
ويذكر الدكتور عطية فياض أن من أهم أسباب الأزمة المالية العالمية هي "تفشي الربا"، حيث يقول تحت هذا العنوان:" أطلق دهاقنة النظام الرأسمالي مقولة سارت بها الركبان أنه "لا اقتصاد بلا بنوك ولا بنوك بلا فوائد"، وتلقف هذه المقولة المتأثرون بالفكر الرأسمالي والمخدوعون به فروجوا لها، وجادلوا من أجل صحتها وجدواها، وألصقوا التهم بمن عارضها مرة بالسذاجة الفكرية وأخرى بالظلامية والرجعية ، وثالثة بالشيوعية ، ورابعة بالإرهاب …..
إن المتأمل في هذه الأزمة يجد أن بدايتها هي الحثّ والتشجيع على الاقتراض بالربا وإثقال كاهل الناس بالقروض الربوية سواء لتأمين احتياجات أساسية كالمنازل ونحوها أو لغيرها من الكماليات والترفيهيات، بل كانت سعادة مجلس الاحتياطي الفيدرالي وبيوت المال والسماسرة والمقترضين غامرة بهذه التسهيلات الربوية حيث وجدوا فيها محركا للاقتصاد ومن ثم استمرار النمو، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن وعجز المدينون عن السداد ومن ثم إشهار الإفلاس.
إن الإسلام إذ يحرم الربا ويجرمه ويعدّه من السبع الموبقات أي المهلكات فإنه لا يمكن تصور الهلاك والدمار والخراب كجزاء أخروي فقط إنما هو جزاء وعقوبة دنيوية، وإن الحرب التي يشنها الله ورسوله على الاقتصاديات الربوية هي حرب شاملة لا تقف عند حدود البنوك والبورصات بل هي أعم من ذلك ، وها هو العالم يشهد آثار هذه الحرب ويعانيها لكن : هل هناك من له قلب أو يلقي السمع وهو شهيد .
لقد كذبت هذه الأزمة (أي الأزمة الاقتصادية العالمية 2008) تلك النصيحة الاقتصادية التي كثيرا ما تتكرر على ألسنة الاقتصاديين وهي أن الاستثمار العقاري، والاستثمار في السندات الربوية هو آمن الحقول الاستثمارية من حيث حجم المخاطر والعائد وهي نصيحة يمكن أن تكون صادقة لو خلت هذه الاستثمارات من آفة الربا والمقامرات .
إن بعضا من عقلاء مفكري الغرب أدركوا أخيرا هذه الحقيقة من زاوية اقتصادية بحتة مجردة عن الجانب العقدي والإيماني، ومن ذلك ما ذكرته الباحثة الإيطالية " لووريتا نابليوني " في كتاب صدر لها مؤخرا: "أن المصارف الإسلامية يمكن أن تصبح البديل المناسب للبنوك الغربية، فمع انهيار البورصات في هذه الأيام وأزمة القروض في الولايات المتحدة فإن النظام المصرفي التقليدي بدأ يظهر تصدعا ويحتاج إلى حلول جذرية عميقة "
إننا إذ نسجل هذه الشهادات لا نعني حاجة الشريعة على شهادة كفاءة أو صلاحية من مفكري الغرب ورجالاته لكننا نقدمها لبني جلدتنا الذين لا يزالون يعتبرون أن النظام المصرفي الربوي هو الأمثل بل والأقرب إلى روح الإسلام ومقاصده كما يزعمون" ا.هـ
كما كتب "موريس آلي" الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1988 كتابا بعنوان "الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق: من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد"، ذكر فيه شرطين من أجل إعادة التوازن للأسواق والاقتصاد، وهما: الشرط الأول أن يكون معدل الضريبة في حدود دنيا لا تتجاوز 2 في المائة، وأن يكون معدل سعر الفائدة في حدود الصفر، وهذا ما يتطابق وينسجم تماما مع مبادئ الاقتصاد الإسلامي".
وهكذا يتبيّن لنا مما سبق أثر الربا في إحداث الأزمات المالية من خلال ما قاله علماء اقتصاد غربيون، حيث أثبتت النظرية والتطبيق أن الربا وراء وسبب لكل العواصف المالية والشرور الاقتصادية، مما يدل على أنه ما من شيء حرمته الشريعة إلا وفيه من المفاسد والأضرار والشرور ما فيه، علمه من علمه وجهله من جهله، وها هي الأيام تجلي مزيدا من حِكَم الله في تشريعاته من خلال الهزات التي تعصف بالنظم الاقتصادية التي لم تراعِ أية حرمة، والتي تزخر بالمخالفات الشرعية، في مقدمتها الربا الذي له بالغ الأثر في إحداث هذه الهزات الاقتصادية والأزمات المالية، كما تبيّن سابقا..