أين ذهب مثقفونا؟ ولماذا هذا التغيب عن الساحة الثقافية والأدبية؟!!
تاريخ النشر: 30/10/13 | 10:00يصادف في هذه الأيام حدث فريد ومميز يطل علينا من بين المشاغل والمهمات والأعمال اليومية ليضفي على حياتنا لمسة نوعية تنقلنا من الهموم اليومية إلى عالم أكثر رحابةً تلتقي فيه الأفكار، العلوم، النظريات والتجارب لنقرأها، نفهمها ونناقشها بعل مستنير حتى نصل إلى خلاصة هذه الأفكار توصلنا إلى نقاط واضحة يمكن أن نستثمرها لكي نرتقي بأنفسنا وبمجتمعاتنا إلى مراتب أعلى وأسمى تكون فيها الأفكار والتجارب هي لغة الحوار بيننا وبين أنفسنا قبل أن تكون بيننا وبين الآخرين، إنني بلا شك أتحدث عن الكتاب. خصوصاً وأننا في هذه الأيام نعايش فعاليات معرض الكتاب الذي يقيمه المركز الجماهيري والذي حقق نجاحاً مميزاً على مدار الأيام الماضية والذي يعد قفزة نوعية في مستوى الوعي حول أهمية الكتاب، المطالعة والقراءة في إثراء حياتنا بالخبرات التي تدفع بمجتمعنا نحو الرقي والتقدم.
ومن خلال تواجدي بالمعرض وطوافي بين زواياه المتنوعة استوقفتني العديد من المحطات طويلاً لأتأمل في بعض الكتب القيمة أقلبها وأفتش في صفحاتها التي كلما قرأت منها سطراً شدتك إلى أن تقرأ سطوراً إضافية، وكلما قرأت سطوراً شدتك إلى أن تغوص في صفحاتها كأنك ترى وتسمع الكاتب وهو يتحدث، وكأنك ترى الأحداث تجري أمامك وتتلمس المعاني التي تبدأ بالتطاير أمامك في أجواء المكان، وأحياناً تحملك هذه المعاني لتطير بك إلى عوالم اخرى تكون فيها الكلمة هي اللاعب الأساس على خشبة هذا المسرح الذي يتبلور في خيالك، فالكلمة تحملك، فمعها نرتفع إذا إرتفعت ومعها ننخفض إذا إنخفضت.
لقد حظيت خلال معرض الكتاب الذي اطلق عليه إسم "نحو جيل قارئ" بعدد كبير من الكتب التي إستوقفتني طويلاً أقلب في صفحاتها أقرأ بعض فصولها فحملتني بعيداً، فما كان مني إلا أن حملتها معي ليكون الكتاب منذ الآن فعلاً الرفيق المفضل الذي يملأ أوقات فراغي، فأوقات فراغي ستصبح أكثر ثراء وأكثر إثارة من أوقات الإنشغال وتسارع الخطوات وإزدياد المهمات والأعمال، إنه حقاً غريب، كيف يمكن للكتاب أن يقوم بالمعجزات والأمور الخارقة، كيف يمكن للكتاب أن يجعلك تصل إلى أماكن بعيدة في حين أنك جالس على كنبتك ولم تتحرك، يأخذك إلى أماكن ما كنت لتصل إليها حتى ولو سرت ركضاً على قدميك سنيناً من الدهر. فيا لروعة الكتاب، ويا لتألق الكلمات حينما تصطف جنباً إلى جنب لتختصر الزمن والمسافات، ولتختصر المراحل بين المشكلة والحل، بين الجهل والعلم، بين المنشود والموجود، إنها تتسارع لتأخذك هناك، حيث يصبو فكرك وتتطلع طموحاتك. فسلاماً عليك يا أيها الكتاب، كيف تجمع محبيك ليلتقوا حولك، يتسامرون، يتناقشون، يقلبون صفحاتك ويتبادلون آرائهم ووجهات نظرهم، ويتدارسون الدُر الكامن في طياتك.
إن مشهد الزوار الذين قدموا لمعرض الكتاب لهو مشهد يثلج الصدر ويبين إلى أي مدى يتمتع أبنائنا وشبابنا بهذا الوعي لأهمية الكتاب في حياتنا، وإلى أي مدى يتشوق أبنائنا لحمل الكتاب والمطالعة. هكذا تنهض الأمم وهكذا تتقدم، عندما نحقق أمر الله سبحانه وتعالى عندما أنزل الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فكان أول ما يأمره الله عز وجل هو "إقرأ"، وكم هو رائع أن ترى كل هذا الحضور جاء ليقرأ، جاء ليبحث في بستان من العلوم والأفكار ليجد ما يثري به عقله ويطور من خلاله علمه ومهارته. ففعلاً يمكنني أن أقول بأن مدينة أم الفحم إستطاعت أن تحتفي بالكتاب بصورة رائعة ومشرقة تبشر بالخير الذي يحمله هذا الجيل الواعد الذي نبني عليه الآمال ونعول عليه كثيراً في النهوض بأمتنا وشعبنا. ولكني في نفس الوقت أود تسجيل بعض نقاط العتب التي أتمنى أن يعيها أبناء مدينتنا من المثقفين، المتعلمين وأصحاب القلم من شعراء وأدباء وكُتاب، لماذا نفتقدكم في هذه المواضع ولماذا أنتم غائبون عن تلك الساحات التي من المفروض أن تكونوا أنتم من أوائل طلائعها وأوائل المتواجدين فيها، فلطالما نادت ساحات المعارك فلبى فرسانها: "نحن لها"، فلماذا تُترك ساحة الأدب والكتب من فرسانها وروادها الذين لطالما كانوا ينادون بالإرتقاء بالمشهد الثقافي بالمدينة، ويدعون إلى نشر الوعي الثقافي والنهوض به فأين هم الآن؟ إنه سؤال تردد كثيراً على السنة كم كبير من الناس الذين ينتظرون هذه المناسبات ويتوقعون أن يجدوا شعراءنا، كُتابنا ومثقفينا يصطفون لإثراء المشهد بحضورهم وآرائهم وكتاباتهم ودراساتهم التي خلصوا إليها نتيجة مشاركتهم في هذا الحدث الثقافي الجليل والذي سجل فيه المواطن العادي (من جميع الأعمار والشرائح) حضوراً مشرفاً يدل على وعيه وفهمه الذي سبق به النخبة من المثقفين الذين تغيبوا.
سؤال سمعناه يتردد في مشاهد اخرى عديدة، فأين هم؟ ولماذا لم نسمع أو نرى لهم مساهمة في مسيرة الرقي والإرتقاء الثقافي بالمدينة؟ فمتى نراهم يقفون لأخذ دورهم الأساسي الذي لا ينبغي لأي أحد آخر (ولا يستطيع) أن يعوض مكانهم.
فالبارحة صادف أيضاً ذكرى مجزرة كفر قاسم، وتم تنظيم ندوة دراسية بهذه الذكرى قدمها أناس أدلوا بشهاداتهم الحية حول ما جرى في تلك المجزرة، وحضرها عدد كبير من أبناء المدينة ولوحظ غياب المثقفين، ليس هذا فحسب، فهناك العديد من الفعاليات الثقافية، الندوات والأيام الدراسية التي لوحظ تغيبهم الأمر الذي يعد تقصيراً فادحاً بواجبهم تجاه مجتمعهم وأبناء مدينتهم.
أنا أعتقد بأنه من اليوم فصاعداً من الصعب على هذه النخبة أن تستمر بالتنظير من برجها العاجي دون أن تبدأ بالمساهمة في دفع المسيرة إلى الأمام والنزول إلى الناس ومخاطبتهم مباشرة ووجهاً لوجه عن طريق مشاركة الجماهير بالجهد الذي يروه ضرورياً للنهوض بمجتمعنا، وبعد اليوم لا يمكن أن نتفهم أي منهم عندما يبدأ بتعداد النواقص التي تعاني منها مدينتنا في حين أنه لا يقدم أقل الواجب الذي يمكنه أن يساهم من خلاله بدور إيجابي وفعال.