قراءة نقدية في قصيدة:النهر والإنسان
تاريخ النشر: 07/11/13 | 9:52في المجتمعات الحضارية الكبرى، التي تكونت في أحضان الأنهار مثل حضارة ما بين النهرين في العراق وحضارتي الهند والصين، وبلاد ما ماوراء النهر، حيث تبدو علاقة الإنسان بالنهر علاقة شديدة العمق فهو مصدر الخير والنماء والحياة، لذا كان المصريون القدماء ينتقون أجمل الفتيات ويلقونها في النهر، ظنا منها أنها قربان للنيل حتى يهبهم المزيد من الماء والخير.
وفي هذا النص، نجد العنوان المعبر، فالشاعر من العنوان يهيئ المتلقي إلى طبيعة العلاقة بينه وبين النهر، ولأن الشاعر مصري، فإن هذه العلاقة تؤطر ضمن نهر النيل وكما قال المؤرخ اليوناني قديما: مصر هبة النيل، ويمكن بالطبع أن تتسع في الدلالة المكانية والزمانية والحضارية لتشمل كل حضارة نهرية في العالم. وهنا نجد العلاقة تتجاوز علاقة النهر بالأرض والإنسان، علاقة الشاعر والنهر، لتكون علاقة نفسية حيث نرى تبدلات النفس الشعرية وتقلباتها الانفعالية مع النهر والأرض، وأيضا علاقة مصاحبة مكانية من المنبع النهري إلى المصب، وعلاقة حضارية تمتد في أعماق التاريخ الذي نحمله على ظهورنا، ويُحمّلنا بأعبائه الممثلة في إعادة مجد حضارتنا.
ولنعرض النص أولا، ومن ثم تكون القراءة النقدية:
ما عادت تحلق فوق أوراقى الطيور
ما زلت فرخاً بامتداد النهر يرجف
والقارب الخشبى عند الضفة الأخرى يئن من السكون
محاورة بطول النهر للشاعر حاتم الكاتب
نهرٌ أشاركه المنابع
نمضى سوياً نبدر الوادى زهوراً من أمل
ونخوض معترك الطريق الصعب من بدء التوحد
ترسو على وجه الصخور الأمنيات
ونخط فى قلب الخرائط بلدةً ولدت على أيدى الصباح
نهرٌ أشاركه السكينة
همس الليالى المقمرات ورقة الحلم البرىء
قلبٌ تهدهده النسائم
والنجم يغفو فوق رأسى
والوقت طيرٌ يبتعد
ويغوص فى قلب الأفق
وأنا أغيب
نهرٌ أشاركه الغضب
خطواتنا متصادمة
وقلوبنا دوامةٌ للانفجار
جسدٌ تمزقه الرياح
ويدان ممسكتان بالشاطئ
وحطام أشجارٍ ينادى فى استماتة
لكننا لم نستمع
نهرٌ أشاركه السقوط
أشلائنا امتزجت واللون غاب من الوجوه
ما عدت أعرفنى
ما عدت أعرفه
وتشابكت كل الخيوط
نهرٌ أشاركه الظمأ
الأرض عطشى تنكفئ
والأغنيات الخاويات على الضفاف تمددت
جسدٌ تغطيه الحجارة
ماذا سيجدى الرجم أو يجدى السكوت
نهرٌ يشاركنى الشرود
نهرٌ أشاركه الأرق
غصنان ملتفان ..بعضٌ من وجوم
أوراقنا جفت
والوجه معتلٌ يذوب مع ارتحال الشمس ..فى لون الغسق
نهرٌ يشاركنى التشتت
نهرٌ أشاركه الغرق
أترى سيصمد بابنا فى وجه دقات العواصف
أم أننا عند المصب سنفترق
القراءة النقدية:
إننا أمام نص يقيم علاقة مباشرة مع النهر، ويتجاوز فيها المفهوم والدلالة التقليدية للنهر وهي الخير والنماء والفيضان إلى دلالات المصاحبة والملازمة في كافة أحوال الإنسان وهذه العلاقة تتخذ أبعادا نفسية معبرة عن تقلبات النفس الشاعرة، وقلقها، وأيضا عن تجذر الانتماء إلى الأرض المصرية التي كان النيل هبة لها، إنها قصيدة التلازم والثنائية والتلاقي وأيضا التحاور والأنسنة للنهر. فالشاعر يقول منذ المطلع :
نهرٌ أشاركه المنابع
نمضى سوياً نبدر الوادى زهوراً من أمل
ونخوض معترك الطريق الصعب من بدء التوحد
هذه علاقة مؤنسنة، فالشاعر والنهر متلازمان من المنبع إلى المصب، وهو تلازم يبدر الورود، ويحيي الأمل، ويواجه الصعاب، فالنهر يعبر عن العلاقة الأبدية بين المصري / الشاعر، ونهر النيل الذي يضرب في أعماق وجداننا مكانيا وزمانيا، ويضرب في تربتنا زرعا وغرسا، فالقصيدة تعبر عن تعمق النهر في أعماق المصري، ويأتي الشاعر معبرا عن هذا التعمق الحضاري ثم يزيده إبداعا وشعرا وتألقا، فهل يمكن أن نتخيل الإنسان المصري دون النيل، أو نتخيل النيل دون المصري الذي عاش على ضفافه، وصنع من مائه حضارة كانت منها أولى الإبجديات في العالم، ومن ثم تدوين العلوم، وتطويرها، فالنيل سبب في جذب الإنسان المصري من هيامه في الصحراء إلى الاستقرار على ضفاف النهر، ليعايش النهر في انخفاضه وفيضانه: معايشة المحب الوله الممتن.
كما يظهر التلازم والتحاور في قول شاعرنا:
نهرٌ أشاركه السكينة
همس الليالى المقمرات ورقة الحلم البرىء
قلبٌ تهدهده النسائم
والنجم يغفو فوق رأسى
هنا تلازم السكينة والتأمل، لتتحول الدلالة إلى دلالة مصادقة الإنسان للنهر، ورغم بساطة التعبير ( الليالي المقمرات ) وتكراريته، فهو يقف عند المستوى الدلالي الأولي، ولكنه معبر عن أبرز علاقة السكينة بين المصري والنيل حيث السهر والليالي والقمر والحلم البسيط للإنسان المصري البسيط، إنه حلم الاستقرار والأمان والرضا بالقليل.
وتزداد العلاقة أيضا حيث تبدو واضحة في علاقة الشرود التي تصيب شاعرنا، ليكون النص هنا معبرا عن منحنيات النفس البشرية ما بين حب وقلق وسكينة وشرود، فيقول:
ماذا سيجدى الرجم أو يجدى السكوت
نهرٌ يشاركنى الشرود
نهرٌ أشاركه الأرق
غصنان ملتفان ..بعضٌ من وجوم
وتأتي دلالة الغصنان، لتكون رمزا للثنائية النصية: بين الشاعر والنهر، والمصري والنيل، وقد رأينا هنا الشرود من الشاعر والأرق من النهر، وكلاهما وجهان للزيغ، وأيضا دلالتان على غربة الإنسان عن وطنه، وغضب النهر من أرضه التي كوّنها على امتداد آلاف السنين، وهذا وجه غير مباشر لحال مصر وشعبها في زماننا.
وهذا أيضا ما يمهد لخاتمة النص، حيث يبدو التلازم الثنائي في قول الشاعر:
نهرٌ يشاركنى التشتت
نهرٌ أشاركه الغرق
أترى سيصمد بابنا فى وجه دقات العواصف
أم أننا عند المصب سنفترق
فالتشتت معبر عن عمق الأزمة التي يعانيها المصري، وهي تعادل فقدان الهوية والانتماء للأرض والنهر، بفعل قوى الاستبداد، ويكون التلاصق فيما يقدمه النهر وهو الغرق، ليصبح النهر سببا للموت ومكانا للقبر مثلما هو مصدر نماء وخير، ويكون السؤال عن الافتراق عند المصب، ليدهشنا هذا التلازم ما بين المكان من المنبع إلى المصب، وما بين النفس في تقلباتها وفكرها وهدوئها وتشتتها وقلقها.
إنها قصيدة معبرة عن ثنائية المكان والنهر والإنسان في مصر، ويحاول الشاعر هنا أن يقدم بنية نصية ترتكز على أحد عناصر المكان (النيل) في علاقة مؤنسنة، انطلقت من العنوان الذي حمل محاورة، وانتهى بنا إلى تلازم يصعب معه الافتراق.