الداخل الفلسطيني: مصيدة الانتخابات المحليّة
تاريخ النشر: 01/11/13 | 6:20هنا حيفا بعد منتصف الليل، أغلقت صناديق الاقتراع وبدأ فرز الأصوات في انتخابات المجالس البلديّة والمحليّة في إسرائيل، ومن ضمنها انتخابات في أكثر من 70 مجلساً محليّاً في المدن والقرى الفلسطينيّة في الأراضي المحتلة عام 1948. أكثر من عشرة شبّان يجلسون بباب المقهى. حاسوب ومكالمات هاتفيّة ونقاش متشابك ومستمر. المقهى فارغ والعامل ينتظر بفارغ الصبر أن نذهب إلى بيوتنا وتنتهي هذه الليلة.
أغلبيّة هؤلاء الشبّان ليسوا حيفاويي الأصل. كل واحدٍ منهم أتى إلى هذه المدينة من مكانٍ آخر في فلسطين، وهم الآن حول طاولةٍ واحدة يرمون قلقهم وآمالهم، نجاحاتهم وخيباتهم ومتابعتهم الدقيقة لما يحدث في الانتخابات البلديّة في حيفا التي يسكنون فيها، في الناصرة التي يلتفت إليها الجميع، وإلى الانتخابات في قراهم التي أتوا منها قبل سنوات طويلة.
«كأننا في ورشة عودة للجذور الريفية» يقول أحد الشبّان، وتوصيفه يضرب في جوهر المسألة: شبّان قضى بعضهم في المدينة أكثر من عقد أوعقدين، وبعضهم ولد في المدينة بعدما انتقل إليها والداه، تلقوا تعليمهم الأكاديمي ويعمل جزء كبير منهم فيما يسمّونها «مؤسسات المجتمع المدني»، وبعضهم منخرط بالعمل السياسي والحزبي، وهم يجلسون في المقاهي التي يُشار إليها كرمز لعقد التمدين في ثقافة فلسطينيي الداخل – لكنهم يتابعون بقلق وتيقّظ انتخابات قراهم، النتائج التي أحرزتها العائلة التي ينتمون إليها، الهزيمة التي ألحِقَت بهذه الطائفة أو تلك، وانتصار هذه الحارة على تلك، والأصوات التي أحرزها المرشح الحزبيّ الذي لا يمتّ للحزب بصلة.
يتابعون 70 انتخابات في آن واحد، وهي كلها بعيدة كل البعد عن الديموقراطيّة والسياسة. هذه هي الصورة إذن، مجتمع أسقط الاحتلال عليه منظومة حكم محليّ، في مكانٍ حكمته السلطة التقليديّة مدى سنوات.
احتلال أسقط بقوّة هذه المنظومة الحديثة بعد أن قتل وقوّض كل إمكانيّات التحديث والعصرنة والتطوير: يبلغ عدد المجالس المحليّة والبلدية الفلسطينية نسبة 30 في المئة من المجالس في إسرائيل، رغم أن عدد الفلسطينيين لا يتجاوز نسبة 20 في المئة. لكن هذه النسبة العالية من المجالس لا تملك، أو لا تسيطر إلا على 2.4 في المئة من الأراضي في الدولة، والوضع متشابه بما يتعلّق بالميزانيّات والموارد المختلفة.
تخلق الفجوة الهائلة بين عدد المجالس وانعدام الموارد فوضى عارمة، يتحوّل فيها الفشل في التغيير إلى معطى مفهوم ضمناً، يفرغ المجلس من قيمته السياسيّة والسلطويّة كحكمٍ محليّ ويحوّله إلى إدارة مشلولة، كما يشير الباحثان مهند مصطفى ويوسف تيسير جبارين. يتحوّل المجلس البلديّ والقروي إلى الانشغال في الصغائر والمحسوبيّات وحل المشاكل البسيطة، والأهم: تعيين الموظفين في القرية.
منصب رئاسة المجلس تحوّل في صلبه إلى معبِّر عن مكانة اجتماعيّة للعائلة أو المجموعة التي دعمت الرئيس للوصول إليه. في هذه الأيّام، الأغلبيّة الساحقة من الفلسطينيين مقتنعة بأن ما يريدونه من المجلس هو أن يهتم بألا تنقطع الماء وبأن يجمع عمال النظافة القمامة في الوقت، وأن تعبّد الشوارع المؤدية إلى بيوتهم. للتذكير: بيوتهم المبنيّة، غالباً، من دون رخصة بناء.
مقتل الصوت
على طاولة المقهى معلومات متضاربة ومشاعر متضاربة. معظمها يتمحور حول النتائج: هذا يفرح لفوز ذاك، ثم يُحبَط آخر عند خسارة مرشحه. يفرحون معاً لهزيمة أحد المرشحين في بلدة ما، ثم يعلو النقاش الحاد بينهم عند سماع نتائج من مكان آخر. لكن نتائج التصويت ليست الأخبار الوحيدة: إطلاق نار في هذه البلدة، محاولة قتل مرشح في بلدة أخرى، إحراق مقر في هذه البلدة، أما العراك بالأيدي فلم يعد خبراً: «ذهبت لأدلي بصوتي، وخلال عشرين دقيقة شاهدت ثلاث اشتباكات مختلفة بالأيدي».
بين كل هذه الأنباء وصل خبر إطلاق نار وإصابة شاب في منطقة المثلّث. بصراحة؟ لم نكترث، شتمنا البلد كما نشتمها دائماً وتابعنا نترقب النتائج. كان الأمر طبيعياً وعادياً، الانتخابات حرب مشتعلة. بعد نصف ساعة تقريباً عرفنا أن الشاب الذي جاء الخبر عنه إنما هو نجم الأغنية الشعبيّة الفلسطينية، شفيق كبها، وأن إصابته قاتلة. صدمة مربكة وصفعة قويّة. كيف يموت هذا الصوت الذي كبرنا عليه؟ الصوت الذي يلازم كل فرحة قرويّة، كل حلقة دبكة، وكل زفة عريس؟
«لكنه لم يُقتل على خلفيّة الانتخابات»، قالت الصديقة التي أبلغتني بالخبر المؤسف.
«بلا، قتل على خلفيّة الانتخابات». هذا السلاح الذي يحكم المجتمع الفلسطيني في الداخل، صراع الديوك المهول على الفخر والمكانة والنفوذ والشأن والمال، الذي هو العنوان الواحد والوحيد لمعركة الانتخابات المحليّة، هذا التراجع المأساوي والتآكل الداخلي الذي يحكم قرانا ومدننا، هو ذاته الذي يحوّل الاقتراع والإدلاء بالصوت الى عمليّة مفصولة عن صوت العقل والرأي والجدل. هذا الوضع الاجتماعيّ هو ذاته الذي أدى إلى مقتل صوت شعبيّ راسخ في ذاكرة جميع الفلسطينيين على اختلاف مواقعهم الاجتماعيّة. هذا التشابه بتعبير «قُتل الصوت» هو ما يشدد على أن الجريمة المستشرسة في مجتمعنا ليست نتيجة الفقر فقط، ولا نتيجة انتشار عائلات الإجرام، لكنها نتيجة انهيار البنية الاجتماعيّة وتآكلها على أثر النكبة.
التخلّف ثغرة الصهيونيّة، أو ربما بوابتها
أحد الانقسامات داخل القرى وقت الانتخابات هو الانقسام بين أبناء القرية الأصليين وبين من هربوا من قرى أخرى إليهم وسكنوا عندهم على إثر النكبة. نجد قوائم عضويّة خاصّة باللاجئين أو حتى مرشحين للرئاسة. لنقرأ بعض ما جاء في المنشور الذي أصدره مجهولون في قرية أبو سنان الجليليّة: «هل يعقل أن يسود العبد سيده؟ ويسود الوضيع على الحر الذي عاش وأجداده سلالة بعد سلالة؟ (…) أن يحكم هذا البلد لاجئ من عمقا أو كويكات أو عكا أو البروة؟ نحن من آويناكم أيها القطعان من العلوج، يا من تباعون وتشترون. (…) أبو سنان ستبقى إلى أبد الدهر لا يسودها لاجئ ضيف ليتحكم في رقابنا، نحن أصحاب البلد الأصليين»! في بلدة أخرى يقول أحدهم على سبيل النكتة إن ما حدث بين لاجئي البروة وأهالي قريتَي الجديدة والمكر هو استعمار. كيف ذلك؟ «أهالي البروة حلت بهم النكبة مصيبة مثل التي حلّت باليهود في أوروبا، فهربوا إلينا واستضفناهم بطيبة قلب وكرم، لكنهم صاروا أغلبية وأستلموا الحكم في المجلس، وصرنا نحن أقليّة أصلانيّة في بلدنا، تماماً مثل كل فلسطينيي الداخل في إسرائيل». هذه النكتة تقول بلغةٍ مهذبةٍ خفيفة ما يشعر به الكثيرون من حساسيّة وبغض في مجتمعاتنا المتآكلة.
أسباب الانقسام كثيرة، لكن العائليّة تبقى دافع الانقسام الأقوى، والعشيرة هي الحلقة المركزية في هذه المعركة. إلى أيّ حد؟ في الكثير من القرى وصل الأمر لأن تجري انتخابات داخليّة للعائلة: يجتمع رجال العائلة أو يتجوّل كبار العائلة على بيوتها، ويصوّتون لاختيار مرشّح العائلة في الانتخابات! كل رجل (صاحب بيت) يصوّت بعدد المصوتين في بيته، يعني إذا كان يعيش في البيت هو وابنتاه البالغتان وزوجته، فهو يصوّت في الانتخابات الداخليّة أربع مرّات… هذه أيضاً ديموقراطية.
ولا يكون الانقسام والتمييز على خلفيّة واحدة. جديدة والمكر الرازخات تحت الاستعمار (بحسب نكتة صديقنا) هما قريتان يجمعهما مجلس واحد، وفي القرية انقسام بين اللاجئين وأهالي القريتين، وهناك انقسام بين أهالي القريتين أنفسهم، وهناك انقسام بين المسلمين والمسيحيين. أين يبدأ التعقيد؟ ماذا يعني ذلك؟ يعني أن كل إنسان في هذا المكان الضيّق تتركب هويّته من ثلاثة مركبات: طائفته، أين يسكن، وإن كان لاجئاً أم «أصلانياً»… في البلد الواحدة هناك تسعة احتمالات لهويّتك، واحتمالات الهوية هذه تترجم لقوى «سياسيّة»، مرشحين للرئاسة ومرشحين للعضويّة وتوجّهات مصوّتين، لا بل وتبريرات أيديولوجيّة وعلميّة.
خلّي صوتك مدفوع
هذه الانقسامات الاجتماعيّة كلها، التي تكرّس الانتماءات التقليدية، إنما تدق مساميرها في نعش العمل الحزبي. فالجمهور يهجر السياسة لمصلحة قوائم ومرشحين تمثل هذه الهويّات الرجعيّة، لكن الأهم أن الأحزاب السياسيّة خضعت كاملة لهذه اللعبة. الأحزاب الوطنيّة السياسيّة تدعم مرشحين عائليين، وقوائم طائفيّة، بل وتنقسم داخلياً على هذه القضايا. الأخطر أن هذه الانتماءات والشروخ تتحوّل إلى مدخل لأذيال السلطة وعملاء الاحتلال للفوز برئاسة المجالس. حين يصبح الصوت الوطني والسياسي والعقلاني ثانوياً، يظهر العملاء والمتأسرلون بقوّة.
كذلك في المدن المختلطة، التي يترشّح فيها الفلسطينيّون لعضويّة المجلس بقوائم سياسيّة، تصبح مثل هذه الظواهر مدخلاً للأحزاب الصهيونيّة لكسب الأصوات وشرائها، إضافةً إلى مدخل لرجال الجريمة المنظمة إلى هذه المناصب.
أما شراء الأصوات وبيع الذمم فهي قضيّة بحدّ ذاتها. المبالغ التي نسمعها مرعبة، والمشكلة أننا لا نستطيع تمييز الصادق منها والكاذب، فهذه ليست أموراً رسميّة، وكثيراً ما يبالغ الناس فيها، ولكن مع هذا فإن مستوى المبالغ مريع. في بلدةٍ صغيرةٍ في الجليل عدد الأصوات فيها لا يتجاوز الـ5000 صوت، قيل إن المبلغ الذي صُرف على شراء الأصوات من قبل المرشّحين كان يقارب الستة ملايين دولار.
في بلدةٍ أخرى أشير إلى أن سعر الأصوات وصل في الساعات الأخيرة للتصويت الى 1,700 دولار أميركي. في قريةٍ أخرى أفاد نشطاء أن داعمي أحد المرشّحين اشتروا اصوات حيّ بأكمله ليلتين قبل الانتخابات. الأحزاب السياسية الوطنيّة انجرت تماماً إلى هذه الدوامة، بينما كان شراء الأصوات قبل سنوات طويلة من شغل الأحزاب الصهيونية والعملاء فقط. قبل سنوات، كانت النقاشات بين نشطاء الأحزاب السياسيّة عبارة عن تبادل الاتهامات حول من يشتري أو لا يشتري أصواتاً. أما اليوم فهناك اعتراف من الجميع بشراء الأصوات، وأصبح النقاش وتبادل الاتهامات حول «من أدخل ثقافة الدفع؟». انزلاق تحول معه بيع الذمم إلى عملٍ سياسي طبيعيّ. إسألوا الفقر الذي ينهش المجتمع. سيّدة طيّبة من حيّنا، منهكة ومسحوقة ومسنة تربّي خمسة أولاد، قالت بابتسامة على باب صندوق الناخبين: «انتخابات المجلس البلدي أفضل بكثير من انتخابات البرلمان.
في البلديّة نستطيع أن نكمّل الشهر، فنحن ننتفع من المرشّح للرئاسة وننتفع من مرشّح عضويّة المجلس، في البرلمان التصويت بورقة واحدة». وقد طور العاملون في هذه الانتخابات تكتيكات خبيثة وذكيّة للتأكد من أن الناخب الذي تم شراء صوته أدلى فعلاً بالصوت وفق الاتفاق.
الحزب السياسي يُظهر تراجعه. التيّار القومي حافظ على قوّته أما الحزب الشيوعي فخسر معاقل هامّة، لكنّ الجميع خسر في التنافس على أخلاقيّات العمل السياسي والتمسّك بمبادئ التنوّر ودحر الطائفيّة والعائليّة. سلّم الجميع بالوضع القائم. أجمَع الشبّان حول الطاولة أن شيئاً، على كل الأحوال، لن يتغيّر: «كل ما زادت شعارات التغيير، اعرف أن الأمور ستبقى على نصابها وقتاً أطول». الصديق أمام شاشة الحاسوب يقول: «يجعلنا الإسرائيليّون نتوهّم أننا نحكم أنفسنا، فندخل المعترك الانتخابي ونزيد من تدمير بنيتنا الاجتماعيّة. هذه مصيدة».
نلتف هنا حول طاولة المقهى وسط المدينة التي نفتخر بها، وسط وهْم حياة سياسيّة ديموقراطيّة، وكذبة التعددية والتسامح وتداول «الحكم» المحلي، من دون أن نعترف أننا أمام ممارسات شكليّة للديموقراطية، تتحوّل إلى كوارث في ظل الاستعمار الذي يحطّم المجتمع. الصديق أمام الحاسوب ينادي العامل في المقهى: «غيّر الموسيقى يا أستاذ، خلّصنا من فرانك سيناترا هذا، حُطلنا شفيق كبها».