اللسانيات.. ورحلة البحث عن فرادة النَّص
تاريخ النشر: 27/06/16 | 14:45شهد القرن العشرون حِراكاً معرفياً هائلاً دار حول النَّقد والنظرية الأدبية أسفر عن الحديث عن اتجاهين كبيرين، تمثل الأول في الـمناهج الخارجية التي تنطلق من مُسلَّماتٍ ورؤىً خارجيةٍ مثل: المنهج التاريخي، والاجتماعي، والأسطوري، والنَّفسي. أما الثاني فتمثل في المناهج الداخلية التي تنطلق من داخل النَّص معتمدةً في ذلك على الجانب اللغوي وعلى المضمون الفني.
لقد أدَّت مراجعة المناهج والفلسفات الشاملة، الـمتحقِّقة بفعل ثورة العلوم وصعود النزعة التجريبية، إلى انحسار مد الـمناهج النقدية السياقية التي تُعلي من شأن الأفكار والتصوّرات القَبْلِيَّة؛ ذلك أنها كانت تفترض تطابقاً بين النص الأدبي، وبين المبادئ التي تنطلق منها. مما أدى، في النِّهــاية إلى الـحديث عن تماثل بين الواقعة النَّصية، وبين الواقعة النظرية.
أمـَّا النظرية اللسانية فقُدِّر لها أنْ تتطور، سريعاً، نتيجةَ ما أحرزته من كفاية منهجية، فغدت قوانينها الدقيقة قادرة على مُقاربة النَّص، وتعيين شبكة علاقاته، ومفاهيمه الداخلية. ليس هذا فحسب، بل إنها راحت تنشُدُ الشمول؛ بتأسيسها الروابط الفكرية، والنقدية بين المعرفتين: اللغوية، والفلسفية، فأفادت من كشوفات العلوم الإنسانية والطبيعية.
ونجحت اللسانيات في الكشف عن ثوابتَ ومبادئ النص البنيوية. واستطاعت، بفعل مُراكمة تطبيقاتها ذات الطابع التَّجريبي والشمولي، أنْ تُجرِّدَ مفاهيمَ دالَّةً مثل: التّرابطات، والاستبدال، والحذف، والتقدير، والإضافة، والتحويل، فضلاً عن ركونها إلى القوانين التَّركيبية، والدلالية. وهذه المزايا كلها جعلت النَّقد يثق بعلمية اللسانيات ورصانة معاييرها فأخذ يستثمرُ مقولاتها في الرصد والتَّحليل.
اللسانيات البنيوية
يُحدِّد البنيوي لويس هيمسليف مفهوم اللسانيات البنيوية قائلاً: ”نقصد باللسانيات البنيوية مجموعة الأبحاث القائمة على فرضيةٍ مؤدَّاها أنه من المشروع علمياً أنْ نصف اللسان كأنه بالأساس كيانٌ مستقلٌّ من الترابطات الداخلية أو بكلمة
واحدة بنية”.
ويتصف منهج اللسانيات البنيوية بقطيعته مع معطيات فلسفة اللغة التي كانت تذهب إلى وجود قـَبْلِيَّاتٍ تتحكَّمُ بالظاهرة اللسانية. وعلى العكس من ذلك، فاللسانيات البنيوية لا تطمئن إلى الجماليات العائمة والعقيمة، كما أنها تقطع مع الذاتيـَّة، وتحذر من السقوط في تيه الإيديولوجيا، والتأمُّلات الميتافيزيقية التي ظلت تهيمن على الأنشطة اللسانية وممارساتها.
ويُعدُّ المشروع اللساني الذي تبلورت ملامحه الكليّة في محاضرات دي سوسير، فتحاً شمولياً في نظرية اللغة وما يقع حولها من مدارات، لدرجة يمكن فيها عدُّ هذا المشروع من أهم الإنجازات التي تحقَّقت في القرن العشرين. فقد ألقى الانفجار المعرفي، الذي تحقق بفضل تطور العلوم التجريبية، بظلاله على كافة الحقول المعرفية، مما أدّى إلى إعادة تنظيم الحقول تنظيماً منهجياً. وهكذا كانت بداية تأسيس المشروع اللساني التي انطلقت من إعادة الاستبصار في اللحظة المنهجية المتمثلة في رصد بنية النظام. وبعبارة أخرى، لقد تراجعت المنطلقات التي كانت تنظر إلى العالم بوصفه ”خليطاً مشوشاً من التفاصيل”، وحلَّت محلها منطلقات ”النظام” ومفاهيمه.
لقد استثمر اللِّسانيون، وبخاصة دي سوسير، الكشوفات التي قدمتها العلوم التطبيقية، وأصبحت جهودهم علماً أو كادت، فصارت اللسانيات ”في حقل البحوث الإنسانية مركز الاستقطاب بلا منازع، فكل تلك العلوم أصبحت تلتجئ في مناهج بحثها وفي تقدير حصيلتها العلمية إلى اللسانيات وإلى ما تتيحه من تقديرات علمية وطرائق في الاستخلاص. ولمّا كان للسانيات فضلُ السبق في هذا المخاض الثقافي والفكري والمعرفي الواسع، فقد غدت جسراً أمام بقية العلوم الإنسانية يعتليه الجميع بقصد اكتساب الأقصى من الموضوعية والصرامة”. وعلى الرغم من التحولات المتسارعة التي يشهدها البحث اللساني، إلاّ أنّه يظل محتاجاً، وبكيفية أبدية، إلى إعادة التأسيس، أي أن الدَّرس اللساني مُطالب بالعمل على تتميم قوانينه واستعارة أدواته من كافة الحقول المعرفية.
الموضوعية العلمية
كان سعي اللسانيات البنيوية منصبَّاً على مقاربة اللغة في ذاتها ولذاتها، الأمر الذي أدَّى بدُعاتها إلى عزل اللغة عن السياقات التي تنتمي إليها ظنَّاً أن هذه السياقات سوف تؤدي إلى عرقلة الشغل اللساني وتعطيل المسعى العلمي الذي تقوم عليه المبادئ البنيوية، إضافة إلى موقف البنيويين الـمُعلن من الإيديولوجيا؛ فقد ارتأوا أنَّ الوعي اللساني، عبر مسيرته الطويلة، كان يعاني من استلاب مطلق للأيديولوجيات السائدة مما أدى إلى سقوط الممارسات اللغوية في فخ الحقول والمعارف التي ذهبت لإثبات قوانينها مُتذرِّعة باللغة، وهكذا كانت اللغة وسيلة برهنة على المعطى الأ يديولوجي.
وسوف تأخذ اللسانيات مدىً آخر مختلفاً عن الأنظمة الأولى، ويتعيَّن السؤال مع دي سوسير الذي مضى يتساءل عن إمكانية دراسة اللغة دراسة سرمدية، بمعنى هل يمكن إيجادُ قوانين، في اللغة، قارةٍ وثابتة مثل قوانين الفيزياء والرياضيات؟ يُجيب ”سوسير” قائلاً بإمكانية التَّوصُّل إلى هذه النتيجة مع أنها مطلب عسير وشاق، فإذا كان الصوت يُمثـِّل أحد تجليات قوانين اللغة الكلية، ومظهراً من مظاهر تعاليها الثابت، فإنه يصعب الحديث عن استقرار الصوت واستقلاله في الزمان والمكان،”، فكلُّ تغير صوتي مهما كان امتداده مقيَّدٌ بزمانٍ وبمكان معلومين و لا يمكن لأي منهما أنْ يحدثَ في جميع الأزمنة وفي جميع الأمكنة”. ويشدِّد سوسير على أنَّ قواعد اللغة وقوانينها تظلُّ مبادئ عامة لا تصمد أمام فتح الدائرة على الدوائر الأخرى، ويكشف هذا التصوُّر عن إدراك دقيق لطبيعة مستويات اللغة، وضرورة التمييز بين هذه المستويات، فالمستوى الذي تتيحه بنية اللغة يختلف عن المستوى الذي تقدمه وظيفة اللغة.
إذن، فالنقد يستثمر مبادئ اللسانيات لأنها مُعدَّة إعداداً علمياً جيداً، من جهة ولأنها تتيح له التحقق من دقة التحليل والبرهنة عليه من جهة أخرى. بيد أنَّ هناك نقطة يختلفان فيها؛ وتحديداً الغاية التي يسعى كلٌّ منهما لإحرازها؛ فاللسانيات كانت، في مراحلها المبكرة، تكتفي بالكشف عن مدلول النَّص مستعينة في ذلك بقوانين الجملة والدلالة والتركيب، في حين يتطلّع النقد إلى تفسير معاني النَّص ودلالته تبعاً لقواعده اللسانية. وذلك بهدف الكشف عن النزعة الأدبية المجرَّدة تلك التي تصنع فرادة النَّص وتحققها.
إنَّ التَّشديد على النزعة الأدبية يعني التركيز على أهم عنصر من عناصر التواصل الكلامي، وهو الرسالة اللغوية، وصرف النظر عن عناصر التواصل الكلامي الأخرى؛ فالرسالة اللغوية هي الرقعة التي تتموضع فيها هذه النزعة ”من حيث هي نظام متكامل تتحدُ فيه العناصر المكونة للخطاب وذلك بناءً على علاقات ثابتة ومتبادلة بين هذه العناصر”.
وبما أنّ اللسانيات تختص بدراسة النَّص بوصفه بنية لغوية من دون العوامل والعناصر الواقعة خارجه، فقد اطمأنَّ النقد لمسلَّماتها الساعية للكشف عن وظيفة النَّص الجمالية أو الأدبية التي تمثِّلُ مركز التواصل الكلامي.
مدلول النص
كانت اللسانيات في مراحلها المبكِّرة تكتفي بالكشف عن مدلول النَّص مستعينةً في ذلك بقوانين الجملة والدلالة والتركيب في حين يتطلَّع النَّقد إلى تفسير معاني النَّص ودلالته تبعاً لقواعده اللسانية.
البنيوية واللغة
كان سعي اللسانيات البنيوية منصبَّاً على مقاربة اللغة في ذاتها ولذاتها، الأمر الذي أدَّى بدُعاتها إلى عزل اللغة عن السياقات التي تنتمي إليها ظنَّاً أن هذه السياقات سوف تؤدي إلى عرقلة الشغل اللساني وتعطيل المسعى العلمي الذي تقوم عليه المبادئ البنيوية.
د. هيثم سرحان