تونس: الفصل والديموقراطية، التبعية وقصة الحاج علي
تاريخ النشر: 28/06/16 | 16:27قد لا يكون أكثر تعبيرا عن الأزمة التونسية، وهي واحدة من أزمات، مثل تلك اللحظة التي اعلنت بها رئيسة الجلسة في البرلمان التونسي، ان الجلسة مرفوعة لأنه حان موعد آذان المغرب، مباشرة بعد تصويت البرلمان التونسي على نسبة الضريبة التي يجب ان تفرض على مشروبات الكحول، وهذه والشيء بالشيء يذكر تشبه قصة الحاج علي.
تقول القصة، وهي منقولة من شمال افريقيا (مجرد مفارقات)، ان الحج علي وهو جزائري قرر الهجرة الى فرنسا بعد ان ضاقت عليه الدنيا للبحث عن لقمة عيشه.
بعد فترة قام اثنان من اصدقائه القدامى بزيارة للمدينة الفرنسية التي يعيش بها الحاج علي، وبحثا عنه حتى وصلا المكان، فوصلوا الى نادي ليلي، وهناك كانت سيدة في استقبالهما، “اين الحاج علي؟؟” سأل احدهم، “الحاج علي الان في الصلاة وانا زوجته هل بإمكاني مساعدتكما؟”، “نحن اصدقاء قدامى من الجزائر وبودنا أن نلتقيه”، “حسنا اهلا بكم على الرحب والسعة”، “بامكانكما التوجه عبر هذا السرداب وفي اخره ستجدونه”.
بين مصلى الحاج علي والنادي الليلي كان هناك سرداب، “ماذا تفعل هنا يا حاج؟”، سال احدهما، “اتعبد طبعا الان وقت الصلاة وهذا هو المصلى؟”، “كيف يكون مثل هذا؟”، سال أحدهم باستغراب، “مكان عبادة هنا ومكان لبيع الخمر هناك؟”، سال احدهما باستغراب، “وما المشكلة؟”، سال الحاج علي.
لم تكن هناك مشكلة بالنسبة لمن نجح بالتوفيق بين بار ومسجد يربط بينهما سرداب، وظيفته نقل الحاج علي من حالة الى حالة، بالضبط مثل اللحظة التي خرج بها البرلمان التونسي لاستراحة بسبب اذان المغرب، مباشرة او اثناء التصويت على “قانون نسبة الضريبة المفروضة على الخمر”.
هذه المقدمة قد تقرب من الحالة التونسية التي كان اخرها اعلان حزب النهضة التونسي الذي يقف على راسه الشيخ راشد الغنوشي، بفصل “الدعوي” عن “السياسي” مؤكدا نهاية “الاسلام السياسي”، دون ان تكون هناك تفسيرات مقنعة ومنطقية لمثل هذا الفصل، والتي قد تبدو منطقية للغاية من وجهة نظر اخرى، لكن لا يمكن الهروب منها، دون المطالبة بشرح تفاصيل هذه الخطوة، فمؤخرا تم استحضار الكثير من المعادلات والخلطات السياسية الغريبة باسم الواقع، لكنها تركت خلفها أرضا محروقة احيانا، وبدلا من تقييمها تم الهروب من هناك الى مكان اخرى، مرة اخرى باسم الواقع.
نحن نذكر ونتذكر للغاية ما قيل في حينه بشان العملية الديموقراطية، مباشرة بعد “ثورات الوهم” التي اجتاحت العالم العربي(لا اقصد بالوهم هنا التقليل من شأن ما حدث، ولا الدفاع عن أي نظام دكتاتوري منحط ونذل وعميل طبعا)،وكيف تحولت الديموقراطية الى ديانة يتعبد بها، تقريبا لم يخلو أي مقال او أي تصور واستشراف من ذكر الديمقراطية كحجر اساس، بل وحجر الزاوية للخروج من كل الازمات، ولم يكن مثل الشيخ راشد الغنوشي تأكيدا على هذا المفهوم، واعتبر مشروع الحريات الذي كان في صلب مشروعه، الجانب الثاني الاهم في مشروعه.
الوصول الى استنتاج على النحو الذي وصل اليه حزب النهضة في الفصل بين السياسي والدعوي، هي التعبير الاقوى عن ازمة اخرى، هي نتاج تبني العملية الديموقراطية، كمفتاح مركزي للحل او على الاقل لتحقيق اكبر قدر من المصالح التي تم الحديث عنها في حينه.
وترتبط الحالة التونسية بالعموم في الاسئلة العامة التي طرحتها الحالة العربية ما بعد “الثورات الوهمية”، التي وضعت الاسلاميين تحت مساءلات وتساؤلات، فهي من جهة اشغلتهم بالواقع الجديد في سياق ماذا يمكن ان نفعل؟، فيما من الناحية الاخرى ظلوا مطالبين كل الوقت بإثبات حسن النوايا، امام الواقع الجديد وتحديدا تجاه العملية الديموقراطية.
لم يكن الاسلاميون يحملون موقفا موحدا من العملية الديموقراطية، اهدافها ومالاتها، وهو ما جعل من الانخراط بها اشكالي للغاية، ورغم ذلك اختار الاسلاميون بالعموم الذهاب الى التجربة الديموقراطية، التي كانت تحمل في ثناياها مخاطر كبيرة وجدية، اهمها انهم ذاهبون الى ساحة لا يستطيعون اللعب بها دون ان يمس هذا بثوابتهم، فيما تكمن الثانية وهي الاهم ان الذهاب للديموقراطية لم يكن المشكلة الاساسية التي يواجهها العالم العربي، وعليه لم يكن بإمكان الديموقراطية تحقيق اهداف هي اهم بكثير من مجرد وجود السلطة، فيما لم يكن من المؤكد ان الوصول الى السلطة قادرة عل تحقيق الاهداف.
أما جوهر الازمة التي غابت عن البت، والتي كان من المفترض انها احد اهداف الثورة ،هي التبعية، وسيادة الدولة، الديموقراطية لا تضمن ولن تضمن سيادة دولة ولا تخليصها من التبعية، ولا حاجة هنا للحديث عن النموذج التركي الذي لا علاقة له بتاتا بواقع العالم العربي، والفوارق الاخرى الكثير ة التي ترتبط في السياق التاريخي لنشأة الحالتين، العرب وتركيا، وهو ليس موضوعنا.
في استنتاج احد قيادات الاسلاميين من مصر ان: “ثورة 25 يناير لم تكن ثورة وان الجيش المصري خدعنا”، في هذه المقولة هناك اعتراف ضمني وصريح بفشل ذريع في قراءة الواقع والمعطيات التي حدثت بها الحالة المصرية مثلا، وهي صحيحة للغاية بالمناسبة(هذا كلام سبق واكدنا عليه في حينه أي عند انطلاق الثورة وليس عند نهاياتها)،وهذا لا يقلل بطبيعة الحال من ما حققته التجربة من اسقاط مبارك مرورا بانتخاب الدكتور محمد مرسي عطفا على انقلاب الدم الذي قادته عصابة الجيش في مصر.
في العودة الى تونس وبكونها تمثل نموذجا اخرا هو نموذج “شمال افريقا”، الذي يرتكز في جوهر مشروعه على الحريات وحقوق الانسان، والتعددية، فان الفصل بين الدعوي والسياسي كما في حالة النهضة هي مسالة مركبة، فالفصل وعدا عن انه يعبر عن فشل النموذج الديموقراطي الذي تم التعويل عليه، فانه يعيد طرح الاسئلة مجددا حول ما هي الحدود بين الدين والسياسة، وهل عملية الفصل هذه حتى وان تم تفسيرها وتبريرها (للأسف، كالعادة)،لا تعني بالضرورة الفصل بين مفهوم الدين والدولة، وهو ما يثبت ادعاء التيارات الاخرى التي كانت تؤكد كل الوقت على “ضرورة الفصل بين الدين والسياسة”، وهنا المسالة في غاية الوضوح!!
الفصل بين السياسي والدعوي بغض النظر عن كل المبررات التي ستقال، والتي قد تبدو مقنعة من وجهة نظر اصحابها، وسبق لأصحابها ان قالوا كلاما “مقنعا” في الديموقراطية والتعددية، والنتيجة كما نرى، هذا الفصل يؤكد نتيجة واحدة فقط، انه لا مكان للقاء بين الدين والسياسة، وهذا الفصل هو بالضبط ما قصدناه في حينه حول “الاسلام العلماني” الذي يتبناه الشيخ الغنوشي وحركة النهضة، وهو قريب من نموذج شمال افريقيا بالعموم، وقد يكون مرد ذلك الى تجربة شمال افريقيا الخاصة مع الاستعمار الفرنسي ذي الطابع الاحلالي، وقد يكون جزءا من تجربة الجزائر في العام 199،عندما انقلبت الطغمة العسكرية المتفرنسة على نتائج انتخابات “ديموقراطية”(وبعد ذلك في مصر،)، لكن الدروس والعبر والواقع (وهو كله يؤخذ بعين الاعتبار ولا بد من فهمه بالضرورة)،هذا كله لا يجعل من الأخطاء مبررة، الواقع لا يبرر الاخطاء، بضمنه يمكن فهمها، الواقع لا يغير القيم، ولا يجعلها تحت طائلة العرض والطلب، الواقع الذي تم التغني به على امتداد سنوات طويلة، هو الواقع بما له وما عليه، لكن اليوم نحن امام حالة جديدة، الدعوة للفصل هي التي تمنح السياسي مساحة اكبر للعمل، بدون ان يكون الدعوي عبئا عليه، او مكبلا له، وهذا في راينا نقطة تحول جديدة في مشروع او اجتهاد، يفضي على المدى البعيد الى فك الارتباط بالكلية بين الطرفين، الديني والسياسي، ويصبح من الصعب معه أصلا الحديث عن ترابط بين الاثنين.
سؤال التبعية
سؤال التبعية سيبقى السؤال الاهم في اية عملية تخص السيادة، وسيادة الدولة، اما ان تكون او لا تكون، وليس هناك اية فائدة ترجى من دولة تعتاش على قروض ومنح، ولا يهم بأي شكل ستحكم، وهذا هو الجوهر الذي تم تحييده بشكل منهجي، وتم اشغال الناس والحركات بملهاة الديموقراطية، ديموقراطية العبيد.
ما الذي تغير في تونس؟، أي نخب تحكم البلد، هل طرأ تغيير عن ايام زين العابدين بن علي وليلى الطرابلسي؟ وعصابة اللصوص التي كانت تحكم البلد؟
لا شئ تغير في الجوهر، بالعكس تماما، الحالة التونسية الان اسوأ بكثير مما كانت عليه، ومثلها المصرية، جاءت الديموقراطية وبقيت معها النخب، وظلت الدول تحت عبء التبعية، بل غرقت بها، وصارت اسوأ من حقبة الدكتاتورية التي قامت “الثورات” لأجلها.
ملاحظة عن الكلام وطوله
على راي البعض الناس ما بتقدر تقرا، زهقانة، والمقالات طويلة، قصروا، ما بنفع هيك.
اعرف تبعات شبكات التواصل، وعدد الكلمات، واعرف كلاما مثل: “لا تطولوا الكتابة ما حد بقرا”.
بودي ان اقول هنا بعض الملاحظات، عندما تكون هناك حاجة للكتابة يجب ان نكتب، بالإمكان عرض المادة بأسلوب شيق، في المنتجة وأمور اخرى، لكن ما يحتاجه الموضوع يجب ان يكتب.
الذي يعتقد ان كتابة “الفيسبوك” هي مصدر معرفة وثقافة، انصحه ان يغير رايه، بعد سنوات عندما سيعود المؤرخون ليؤرخوا لن يعتمدوا شبكات التواصل بتاتا، لأسباب مهمة، منها انه ليست مصدرا علميا، وانها لا تقع تحت اية رقابة، ولعل الاهم انها لا تستطيع ان توثق الا جلسات المقاهي وحفلات عيد الميلاد وشمات الهوى وحفلات توزيع شهادات الصف البستان.
من يربي جيلا على قراءة سطحية ويعتقد ان هذا الجيل سيفهم ما يدور حوله من خلال بعض الجمل والوشايات ومقاطع الفيديو، المؤثرة والمفسرة، عليه ان يعرف انه يشارك في اكبر عملية تجهيل عبر التاريخ الانساني، وهي كذلك.
لا اعرف لماذا فقط الكتابة والكتب والصحف الكبيرة لا فائدة لها عند العرب، وتتحول معارض الكتب رويدا رويدا لمعارض للأدوات المنزلية، فيما لم تتراجع الصحافة المكتوبة من حيث المضمون عند الاسرائيليين وفي الغرب، وظلت محافظة على حجم التغطية والمضامين بعمق؟؟،,هو امر يلقى اعجاب عندنا.
شبكات التواصل اليوم هي اداة التجهيل الاكثر انتشارا(فحص علمي عشان ما تقولوا معقد)، لكنها تهيمن على المشهد، وتزيد من حجم الجهل وقلة المعرفة والسطحية، الشعوب التي لا تقرا لا تكتب طبعا، وتلك التي تعتاش على المفرقعات في الاعراس تعشق المفرقعات الكتابية، الفيسبوك مثلا هو المصدر الاهم للمفرقعات الكتابية.
انا منتبه للغاية لعقد الاعجاب، هذه في الحقيقة ان كانت سببا مركزيا لدى البعض في الكتابة، فان صاحبها يحتاج الى علاج.
الفضائيات العربية كانت الاداة التي عبرها تم تدجين الوعي السياسي والكذب والتضليل وهيأت اجيالا كاملة لـ “ثورات الوهم”، وكانت النتيجة على ما كانت عليه، شبكات التواصل وعلى رأسها “الفيسبوك” عدا عن انه ينشر ثقافة سطحية وكلاما باهتا، ومفرقعات كلامية، فهو يهيئ هذه الاجيال للدجال، مجرد جملة، لن تعجب الغالبية، لكنها مجرد اجتهاد فكروا في الامر جيدا.
ولأني احترم وعي وعقل الناس، فلن اتنازل عن تقديم مادة جدية لهم، قد تعجبهم وقد لا تعجبهم، هذه مسالة أخرى، لكني احترم عقلهم ووعيهم ومعرفتهم.
سؤال كم من الوقت استغرق معك المقال اذا كنت قرأته حتى النهاية، اقل من موقع مؤثر ومضحك، واقل بكثير جدا من قراءة مئات المفرقعات الكلامية عبر هاتفك الذكي، لا يهمني هاتفك الذكي، يهمني ذكاءك، وشكرا لك على ما أبديته من صبر وتحمل، هو اقل من الانتظار في الصف لتهنئة العريس.
عبد الحكيم مفيد