هل ينص القرآن صراحة على حركة الأرض أم على ثباتها؟
تاريخ النشر: 02/07/16 | 0:15الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله اختاره ربه ليكون للعالمين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
تمهيد
إن هدف كتاب الله الأساس هو هداية البشرية. ومعنى الهداية الدلالة والإرشاد، فهداية البشرية إذن تعني إرشادها للطريق المستقيم. أي إرشادها لصحيح العقيدة، وبيان القويم من السلوك في هذه المرحلة من التكوين الخلقي: الحياة الدنيا. ويبين القرآن هذا الهدف في أول سورة ؛ فيعلمنا سبحانه عن ماهية القرآن في فاتحة كتابه، ويعلمنا الدعاء له: “اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ “، ثم يتلوها مباشرة، في ثاني سورة: “الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ” أي إن القرآن كتاب هداية. والحقيقة هي: إن جميع رسالات الله إلى البشر لا تختلف في جوهرها عن هذا الهدف: تعليم البشرية كيفية السلوك في هذه الحياة الدنيا، أي بيان للناس بكيفية عبادة الله تعالى خالقهم، لتحقيق هدف الخلق كما ورد في الآية الكريمة “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”.
أهمية التفكير والبحث والتعلم
لقد حشد القرآن الكريم عشرات الآيات القرآنية الداعية إلى التفكر والتدبر في آيات الله الكونية، وآيات الله القرآنية، كوسيلة للهداية. لقد علِم سبحانه وتعالى إن للعقل – أداة الفكر الإنساني؛ حدود وقدرات لا يستطيع تخطيها. لذا أرسل إليه الرسل من الأنبياء لإخباره عما يعجز علمه البشري عن معرفته وتحصيله في مراحل بدائيته. ولذا فإن الإنسان مأمور بالتفكر في كل الظواهر الكونية، ودراستها، والكشف عن كيفية حدوثها، وتعلم سنن الله تعالى المُسيّرة لها. ومن لم يتفكر فيها فسوف ينال غضب الله لسببين:
الأول: لتعطيله نعمة القدرة على التفكير والكفران بها لعدم استخدامها. و
الثاني: لأن التفكر والتعلم وسيلة للإيمان الذي بدوره يوصل إلى التقوى.
والمعلوم من القرآن إن التقوى هي التي تحدد درجة تكريم الله لنا: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” ﴿الحجرات: ١٣﴾ ، وما دلالة التقوى في هذه الآية الكريمة إلا الخوف والتوقي من سننه التي لا تجامل أحد.
إذن فدراسة الكون والتعرف على سنن الله فيه، والتفكير في خلق الله فريضة إسلامية.
أمية القرآن؟
يعتقد الكثيرون بأمية القرآن وحجتهم في ذلك إن القرآن أوحي إلى نبي أُمي، وأرسل إلى أمة أُمية. ونزل في فترة زمنية لم تصل فيها البشرية إلى اكتشاف الكثير من سنن الله في الكون ؛ فكيف يحدثهم الله عن علوم لا يعرفونها ؟ ولذا كان من الواجب الكلام في عجالة عن أسلوب القرآن الكريم في تقديمه للحقائق العلمية.
إن رسالة السماء؛ تقدم نتائج علوم كلية، ونهائية. يكون المقصود منها مساعدة البشر في محاولاتهم الدائبة في تحصيل المعرفة العلمية لطبيعة حياتهم الدنيا. بمعنى إن النص القرآني يأتي بالحقيقة العلمية، دون مقدمات، ولا براهين، ولا تجارب معملية، فيقول مثلا: “سبع سماوات”، “أنزل من السماء ماءا فأحيا به الأرض بعد موتها”، ” ومن كل شيء خلقنا زوجين”، “والليل نسلخ منه النهار”، “يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل”، ” والشمس تجري لمستقر لها”، “والقمر قدرناه منازل”، “أنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله مايركبون”، “خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون”،” وأرسلنا الرياح لواقح”، “مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان” “والسماء خلقناها بأيد وإنا لموسعون”، “يوم تأتي السماء بدخان مبين”،”أنزلنا من السماء ماءا فأحيينا الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون”، وغيرها آيات كريمة كثيرة من الصعب حصر عددها. وإن أردت العدد فقل: القرآن كله. إن مثل هذه المعلومات العلمية تضيء للبشرية الطريق فتدلهم على نواميس الخالق في الخلق. لقد علم الله تعالى بإمكانيات البشر المحدودة في التحصيل العلمي والمعرفي؛ ولذا يسر الله تعالى رسالته لهم بحديث لا يصدم معارفهم، ويناسب فهمهم وقدراتهم الإدراكية في وقت النزول. لكنه وفي الوقت ذاته صاغها في أسلوب معجز لا يند عن الحقيقة، وتتطور دلالاته على مر السنين. وكلما زاد علم البشر اتسعت دلالات النص. وألزم الله تعالى نفسه تيسير الحديث. وفي سبيل هذا التيسير، كان لله تعالى أن يُلبس الحقيقة العلمية ثوب قشيب من البلاغة، ولكنه ثوب غير كامل الشفافية. ولذا لا يرى الحقيقة إلا المتمعن، المدقق الذي يطيل النظر، والتأمل، والفكر. ونضرب مثالا لبيان وتوضيح ما نقول.
تطور فهم الأسلوب القرآني بتطور الزمان وزيادة المعرفة
تأمل مثلا في قول الله تعالى:
” أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا”( نوح ). هذه الآيات الكريمة سمعها العرب ففهم بعضهم من نسقها أن القمر نور والشمس نور، ولكن اختلف اللفظان ليكون في ذلك تنويع بليغ.
ويعلو آخر عن هذه المنزلة فيفهم إن القمر أضعف نورا من الشمس، لأن النص عبر عنها بالسراج. ولفظ السراج يحضر في النفس شعاعه المتقد فكأنه نور منبعث من نار.
ويدقق بعضهم فيرى إن الغرض هو التعبير عن الشمس بأنها تجمع إلى النور الحرارة. وللشمس فائدة في الحياة، وللقمر فائدة أخرى مكملة. والنور نفسه لا تكاد تحس فيه الحرارة، إنما تحسه في السراج ووهجه.
ثم يفهم أهل العلوم الحديثة مع كل هذه الوجوه إن المراد من الآية إثبات ما كشفته هذه العلوم من أن القمر جرم مظلم بذاته، وإنما يظهر لنا منيرا بما ينعكس عليه من ضوء الشمس التي هي سراجه، إذ نور القمر لا يكون من ذات نفسه ابتداء ، ولا بد من مصدر ينتجه ويبعثه، وذكر السراج بعد النور دليل على أن هذا مصدره ذاك.
ويفهم البعض من آية أخرى، علاوة على كل ذلك؛ دلالة وصف الشمس بالسراج الوهاج في الآية الكريمة ” وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا” (النبأ). والشيء الوهاج: الشديد الوهج. والوهج شدة الحرارة و الاتقاد. وتوهجت النار والشمس: أي توقدت (المفردات للأصفهاني). ويضيف المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، والذي صدر حديثا للدكتور محمد حسن حسن جبل: المعنى المحوري لـلتركيب (وهج) هو: احتواء الشيء ( = السراج في الآية الكريمة) أشعة أو شذى حاد يمتد منه (= انبعاث منه)، كما في وصف الشمس. لذا اختار القرآن الكريم وصف الشمس بأنها “سراجا وهاجا” لأنها ليست مضيئة فحسب، ولكنها هي من تنتج الضوء والحرارة لشدةٍ وحِدةٍ داخلها (الناتجة عن التفاعلات النووية). وبالتالي فلم يترك القرآن الكريم شكّا في الدلالة على أن مصدر الضوء هو الحرارة التي تتوقد داخل الشمس التي هي سراج السماء الدنيا.
والقرآن الكريم كان ولا يزال وسيظل؛ يفيض على الإنسانية من علومه وسيأتي كل جيل بفهم يزيد على الجيل الذي يسبقه، حتى يتحقق قول العليم الخبير: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (فصلت:53 )
دعوة القرآن للتعلم وأهمية العلم لتفسير القرآن
ولذا كان إعمال الفكر، وتدبر الأمور وفقهها؛ أهم ما دعا إليه القرآن مع الإيمان بالله. ذلك إن الإيمان بالله نفسه لا يَتَأَتّى إلا عن طريق التفكر في آياته سبحانه. قال جل من قائل: “أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّـهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ” ﴿الأعراف: ١٨٥﴾
ولتكوين فهم واضح لدى مفسر القرآن لما جاءت – وتجيء – به الكشوف العلمية الحديثة؛ يلزم المفسر الإلمام بقاعدة معرفية لنتائج المكتشفات والعلوم الحديثة، إلى جانب معرفة جيدة لدلالات ألفاظ القرآن الكريم العربية. إن ذلك يوفر علينا، أمة القرآن؛ مشاكل تهز العقيدة، ويستغلها أعداء الدين، فيما يبدو لنا أنه تضارب بين ما جاء به النص الكريم، وما جاءت به المكتشفات الحديثة من حقائق علمية. والمثال الآتي لاحقا يبين لنا:
1. أهمية معرفة العلوم الكونية عند التصدي لتفسير القرآن.
2. أهمية التدقيق اللغوي في ألفاظ وأساليب القرآن لِسَوق الحقائق العلمية.
ومن تجاربنا في تفسير الآيات القرآنية بوجه عام، والعلمية بوجه خاص؛ نعلم مدى أهمية التدقيق في الفروق اللغوية بين ألفاظ القرآن الكريم التي أحكم الله تعالى اختيارها. فلا يمكن أن نستبدل لفظة قرآنية بأخرى تقاربها في الدلالة ونقول إنها مترادفة. فما يجري على ألسنة الناطقين بالعربية من ترادف، لا يجوز في القرآن، إلا على سبيل التيسير والتبسيط والتفهيم والتقريب. إنني واثق من حقيقة فحواها: إن دقة الاختيار هذه ( = إحكام الاختيار، كما ورد في الآية الكريمة “كتاب أحكمت آياته ثم فصلت” هود 1) هي إحدى أساليب القرآن في صوغ الحقيقة العلمية؛ التي تأتي – كما ذكرنا – متألقة في ثوب قشيب، لكنه غير كامل الشفافية، وتحتاج إلى تأمل طويل وتفكير عميق، من قبل أن نجزم برأي يخالف الحقيقة العلمية.
دوران الأرض وحركتها؛ حقيقة علمية
البعض يجزم بأن النصوص القرآنية تتوافق مع المحسوس من ثبات الأرض وعدم حركتها. وبعد أن أكتشف العلماء أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وليس العكس كما كان يُظن؛ علمنا – بيقين – إن الأرض عبارة عن كرة كبيرة ضخمة تدور حول محورها أمام كرة أخرى شديدة الضخامة تسمى الشمس (تمثل الشمس 98.8% من كتلة المجموعة الشمسية كلها)، وهي الجسم المضيء المشع الذي يشد باقي المجموعه إليها. بعدها شاع إن النص القرآني يصرح بأن الشمس هي التي تتحرك وليست الأرض. ونبع هذا الفكر من نقص علمهم لسنن الله الكونية، وعدم تدقيقهم في اللفظ القرآني. لقد استنبطوا إن الشمس هي التي تجري (أي تتحرك) وليست الأرض، استنباطا من قول الله تعالى “وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا” في الآية 38 من سورة يس. وبالتالي على كل مؤمن بالقرآن أن يلفظ ما جاء به العلم الذي يتحدث عن حركة الأرض.
ولكي نشرح البعد العلمي لهذه الآية الكريمة نستعرض الآيات الكريمة التالية من سورة يس:
“وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ﴿٣٧﴾
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿٣٨﴾
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴿٣٩﴾
لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ“﴿٤٠﴾
ولفهم الآيات الكريمة أعلاه؛ فهما جيدا دقيقا علينا فهم بعض الحقائق العلمية في هذا المجال. وبعدها ندقق في الدلالة العلمية لألفاظ الآيات الكريمة. من أجل ذلك نشرح بإيجاز شديد بعض الحقائق العلمية التي توصل علماء فيزياء الفضاء إليها.
حقائق علمية موجزة عن الكون
الشمس نجم واحد من مليارات النجوم في المجرة. وتعتبر المجرة هي الوحدة واللبنة الأساسية التي يتكون منها الفضاء، الذي يطلق عليه القرآن الكريم مصطلح خاص به أسماه “السماوات والأرض”، و” السماوات والأرض وما بينهما”. (وفي حالات خاصة لإعطاء دلالة علمية أخرى يأتي القرآن باسم الجنس فيقول السماء). والمجرة التي تحوي النظام الشمسي تسمى “الطريق اللبني” ( Milky Way)، وهي واحدة من مليارات المجرات الأخرى المنتشرة في الكون الفسيح. والشمس عبارة عن جرم سماوي (= نجم) يولد الضوء والحرارة، ويدور حولها توابع (أي مرتبطة بها بقوى جاذبية، وتتبعها حيثما ذهبت) تسمى الكواكب، ومنها كوكب الأرض الذي نعيش عليه. ويتبع الأرض جرم سماوي أقل حجما ووزنا يسمى القمر. ويوجد لأرضنا قمر واحد.
الأجسام تتحرك بطرق مختلفة
أما بالنسبة لوصف حركة هذه الأجرام جميعا يمكن القول: إن الشمس، والأرض، والقمر كلهم:
1. تجري ( الجريان حركة انتقالية من موضع إلى موضع آخر)، الشمس تجري، والأرض تجري، والقمر يجري.
2. تدور حول محور لها (أو حول نفسها بتعبير آخر)، والمحور هو خط وهمي يخترق جسمها الكروي، ويمر من أعلاها إلى أسفلها.
3. فالشمس تدور حول محور لها (= حول نفسها)، والأرض تدور حول محور لها، والقمر يدور حول محور له. و
4. وهذه الأجرام تدور في فلك (= مسار دائري) حول بعضها البعض.
إذا فالقمر يسبح (يدور) في فلك حول الأرض.
والأرض، ويتبعها القمر؛ تسبح في فلك حول الشمس.
والشمس وكل مجموعتها تسبح في فلك حول مركز المجرة. مع العلم بأن القمر والأرض ممسوكان بقوى الجاذبية الشمسية ويجريان معها في اتجاه معلوم (= لمستقر لها).
آيات تصف الحقيقة العلمية بدقة بالغة
في ضوء هذه المعلومات نعيد قراءة الآيات الكريمة الواردة في سورة يس، وسوف نجد إن الوصف القرآني لما يجري في الواقع ينطبق تماما مع الصورة التي وصف بها العلماء هذه الظواهر الكونية. وعندما تحدث القرآن عن حركة الأرض؛ لم يقل مباشرة إن الأرض تجري أو تدور؛ لأن ذلك لا نحسه نحن البشر. وسيكون وقعه علينا منفرا، وسوف يكذبه الكثيرون. وذلك لأن الإنسان من طبيعته أن ينكر ويرفض ما لا يعلم، “وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا”. لذا تحدث القرآن، في مواضع أخرى؛ عن ظاهرة تتابع الليل والنهار. قال سبحانه “وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ”، والسلخ هو نزع ما هو ملتصق محيط بظاهر الشيء. وكأن الآية الكريمة تقول لنا: إن الله تعالى هو الذي ينزع النهار (= الضوء) الملتصق، والمحيط بسطح الأرض؛ قليلا قليلا، (كسلخ الجلد عن الشاة)، فيترك الأرض ومن عليها في ظلمة. ولقد ساعدنا سبحانه وتعالى في فهم ظاهرة تداخل الليل والنهار، والتي تنتج من كروية الأرض ودورانها حول محورها، فعبر عنها في آيات أخرى نختار منها: “يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ” ﴿فاطر: ١٣﴾. ونلاحظ إن القرآن تحاشى، هنا أيضا؛ وصف الأرض بالتكور والدوران، وهما سبب توالي الليل والنهار بالصورة التي نحسها ونشاهدها يوميا.
ونعود لآية يس “ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ”. هذه الآية الكريمة هي سبب الإشكال، وهي التي تلبس على البعض – لغياب الحقيقة العلمية- فينكر حركة الأرض، ويُقصِر الحركة على الشمس فقط. ولكي نزيل هذا الإلتباس نقول:
الجري هو انتقال الجسم من مكان إلى مكان آخر بحركة سريعة مسترسلة متصلة، كحركة الجارية (السفينة)، والجارية (الخادمة) التي ترسلها وتجريها هنا وهناك. أي إن الآية الكريمة تتحدث عن جريان الشمس وأغفلت ذكر جريان الأرض ودورانها في هذا الموضع بالذات.
ثم تأتي الآية التالية في سورة يس لتضيف معلومة أخرى، يقول تعالى “ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ”. وفيها يتحدث سبحانه عن حركة القمر، ينتقل من مكان لمكان آخر في فلكه حول الأرض. والمنازل جمع منزِل وهي الأماكن المختلفة التي ينزل بها القمر في دورانه (سباحته في فلك، أو لفه) حول الأرض، كنزول المسافر بمكان ما. والعرجون هو أصل عِذْق النخلة الذي يمتد معوجا، ثم يتفرع منه الشماريخ التي يعلق بها البلح، وشبه القرآن الهلال لما عاد دقيقا بالعذق القديم. ونلاحظ إن الله تعالى منع المؤمنين من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة لم يحن الوقت للإجابة عليه فقال عز من قائل: ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿البقرة: ١٨٩﴾ وكأنه سبحانه يقول لا تسألوا الآن عن سبب ظهور القمر كهلال، بعدها يكبر شيئا فشيء فيصبح بدرا، فذلك يعود إلى حقيقة علمية ( = سنة كونية) سوف تعلمونها لاحقا عندما تدخلوا بيت المعرفة من الباب الصحيح. وباب المعرفة والعلم هو البحث العلمي والتقصي والتجربة (في القرآن مصطلحات تعني طلب العلم والتقصي من مثل: المشي في الأرض، والنظر في السماء وفيما حولك، والتفكر والتأمل والتدبر). وتضيف الآية الكريمة : أما الآن فيكفيكم معرفة إن الله تعالى هو الذي خلق الأهلة بهذا النظام لتستخدم مواقيت للناس والحج تعرفون بها الشهور، وعدد السنين والحساب.
بعد ذلك تأتي آية كريمة – معجزة بحق؛ في ألفاظها وتركيبتها العلمية، يقول تعالى:”لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ”؛ فيبين استقلال الشمس والقمر في حركتيهما، ثم ذكر القاعدة العامة لكل أجرام السماء ” كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ”. ولا ينبغي أن ننسى إن هذا التعبير يشمل الجرم الذي نرى فيه توالي الليل والنهار أي الأرض. ويؤكد هذا المعنى تكراره مرة أخرى، في آية أخرى، ولا يذكر فيه الأرض صراحة أيضا ” وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” ﴿الأنبياء: ٣٣﴾. والفَلَك هو كل ما استدار كما يقول العرب “فلك ثدي الجارية” أي استدار (وتكور)، )، وسُمِّيَت السفينة فُلكا (بالضم) لأنها تعود بعدما تذهب في البحر. وعلى ذلك يكون التعبير ” في فلك يسبحون”، أي يسبحون في مسار دائري (في الفضاء).
سبب آخر لرفض حقيقة حركة الأرض
بقي في هذا المقام أن نذكر السبب الآخر الذي يحتج به المنكرون لحركة الأرض، وهو التعبير القرآني المعجز ” وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ”. يستنبطون من هذه الآية الكريمة إن الأرض ثابتة لا تتحرك. وذلك لأن معنى التعبير القرآني الكريم، كما يفهمونه هم؛ إن الله قد ألقى في الأرض رواسي فأرساها أي ثبتها، والجبال لا تتحرك، وبالتالي فالأرض الحاملة لها لا تتحرك. وهذا استنباط خاطئ راجع إلى:
أولا: عدم التدقيق في دلالات الألفاظ،
ثانيا: عدم معرفة وتصور ما يحدث في الواقع، وبعبارة أخرى سهو عن الحقيقة العلمية.
وسوف ندرك لاحقا من التحليل اللغوي، إن النص القرآني يعبر عن الحقيقة العلمية. وكذلك سوف يتبين لنا بشيء من الوضوح أحد أساليب القرآن في صياغة الحقيقة العلمية. لقد ألبس الله تعالى النص ثوبا غير كامل الشفافية، كما سبق الذكر.
ولكي نزيد الموضوع إيضاحا يجب أن نتحدث قليلا عما يقوله الفيزيائيون عن حركة الأجسام.
تنقسم حركة الأجسام – باختصار شديد – إلى ثلاثة أنواع أساسية:
الأولى: تسمى الحركة الانتقالية، وتنتج من تغير موضع الجسم، مثل سيارة تنتقل بنا من مكان إلى آخر.
والثانية: الحركة الدورانية (أو المغزلية، تماما كما يحدث عند غزل فتائل القطن والصوف) وفيها يدور الجسم حول محور يمر من أعلاه إلى أسفله وفي هذه الحركة يبقى الجسم في مكانه ولكنه يلف حول محوره.
والثالثة: الحركة التذبذبية، وهي حركة ترددية يتردد الجسم فيها بين مكانيين ذهابا وعودة، كحركة بندول الساعة يذهب يمنة ويسرة من الموضع الأول إلى الموضع الثاني، ثم يعيد الكرّة ذهابا وجيئة (أي يتردد)، وهكذا.
والأرض لها أكثر من نوع من الحركة. وحركتها في غاية التعقيد، لكننا هنا سنكتفي بذكر نوعين من الحركة فقط. الأولى انتقالية فيها تنتقل من مكان إلى آخر حول الشمس وقد عبر القرآن عن هذه الحركة بقوله ” كل في فلك يسبحون”، فالقمر يسبح حول الأرض، والأرض والقمر يسبحان حول الشمس، والشمس وكواكبها (وكل ما يقع تحت جاذبيتها، بما فيها الأرض) تسبح حول مركز المجرة، كما ورد من قبل. والحركة الثانية للأرض هي حركة دورانية (مغزلية)، فيها تلف الأرض حول محورها (أي حول نفسها) أمام الشمس. وهذه الحركة هي التي ينشأ عنها تتابع الليل والنهار. وذلك لأن الأرض تلف حول محورها أمام الشمس، فتلقي الشمس بضوئها على الجزء المقابل للأشعة الضوئية، ثم ينسلخ الضوء عن مكان ليضيء مكان تالي ومجاور له. ومن الإعجاز القرآني اختيار تعبير السلخ والإيلاج لليل والنهار الذي يحدث تدريجيا شيئا فشيئا، فسلخ النهار (= الضوء) يترك المكان مظلما. أما إيلاج النهار فيضئ المكان (يولج النهار في الليل). وهذا يتأتي فقط إذا ما كانت الأرض كروية الشكل، وتدور حول محورها أمام الشمس (الجسم الآخر المضيء الذي يولد الضوء). إلى هنا نظن أن الأمر قد وضح.
ولكن ماذا عن التعبير الكريم ” أَن تَمِيدَ ” “بكم” أو “بهم”؟
ورد هذا التعبير الكريم في ثلاث آيات كريمة في القرآن كله، في سور النحل والأنبياء ولقمان. وهي كالتالي:
1. “وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” ﴿النحل: ١٥﴾
2. “وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴿ لقمان: ١٠﴾
3. “وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ“﴿الأنبياء: ٣١﴾
وكما قلنا أعلاه إن هذا التعبير الكريم هو سبب الإشكال، الذي دعا بعض المفسرين إلى إنكار حركة الأرض. قالوا – ونعيد مرة أخرى – إذا كان الله تعالى ألقى الرواسي حتى لا تميد الأرض بنا، يعني ذلك أنه تعالى قد ثَبَتَ الأرض وجعلها راسية، لأن الجبال الرواسي ممسكة بالأرض، منغرزة ثابتة فيها. وهذا استنباط خاطئ. ولشرح وإثبات صحة ما نذهب إليه؛ نستعرض أولا المعنى العام الذي جاء في معظم أمهات التفاسير.
يقول الطبري: وقوله: { أنْ تَـمِيدَ بِكُمْ } يعنـي: أن لا تـميد بكم، وذلك كقوله:{ يُبَـيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلُّوا }، والـمعنى: أن لا تضلوا. والـميد: هو الاضطراب والتكفؤ، يقال: مادت السفـينة تـميد ميداً: إذا تكفأت بأهلها (= أي اضطربت وترجرجت بأهلها) ومالت، ومنه الـميد الذي يعتري راكب البحر، وهو الدوار.
وبأسلوب مشابه ذكر القرطبي: { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي لئلا تَميد؛ عند الكوفيين. وكراهية أن تميد؛ على قول البصريين. والمَيْد: الاضطراب يميناً وشمالاً؛ ماد الشيء يميد ميداً إذا تحرك؛ ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر.
ونلاحظ من التفسيرين إجماع على معنى الميد في اللسان العربي فالميد هو الاضطراب والتكفؤ عند الطبري، وهو الاضطراب يمينا وشمالا عند القرطبي. ويضيف القرطبي: ماد الشيء يميد إذا تحرك. وهنا نقول إن تعبير القرطبي واستبدال الميدان بالحركة ليس صحيحا. والصحيح هو: ماد الشيء يميد إذا اضطربت حركته (المنتظمة)، وليس إذا تحرك. وبعبارة أخرى طالما إن الجسم يتحرك حركة منتظمة لا اضطراب فيها؛ فلا يصح أن يقال ماد الجسم. فماد الرجل أي ترنح واضطربت مشيته يمينا ويسارا من تأثير الخمر، التي تخامر مخه فيختل توازنه. ولو سار الرجل سيرا منتظما لما استطعنا قول: ماد الرجل، فهذا لا يجوز.
الفرق بين الحركة المنتظمة واضطراب الحركة (الميدان)
مثال على ذلك من حياتنا العملية ميسور للكثير منا. فعندما نركب قطارا يسير بسرعة منتظمة لا نحس بحركته، ونتصور أنه ثابت. ونبدأ الإحساس بالحركة فقط؛ عندما تتغير سرعته، أو بتعبير آخر؛ تضطرب حركته. مثلا بأن يمر بأرض غير مستوية فيبدأ الاضطراب في الحركة، أي يبدأ في الميَدان.
ومثال آخر: راكب الطائرة لا يحس بحركتها ولا سبحها في الفضاء إلا إذا قابل منخفض جوي فتبدأ حركة الطائرة بالاضطراب (= الميدان). ولحماية الركاب من الانكفاء؛ يؤمرون بربط الحزام ليثبتهم على المقعد، المثبت في جسم الطائرة، أثناء الصعود والهبوط خوفا من الانكفاء والاضطراب، ويؤمر بفك الحزام عندما تستقر وتنتظم حركتها. وبالطبع فإن المعروف هو أن الطائرة لا تتوقف عن الحركة. وكل ما حدث أن حركتها قد انتظمت. وبعبارة رائعة جميلة تواري الحقيقة يقال إن الطائرة “لا تميد” بالركاب.
الميدان في معاجم اللغة:
يعرف الراغب الأصفهاني، في مفرداته؛ الميد بأنه : اضطراب الشيء العظيم (؟ لا داعي لأن يكون الجسم عظيما كي تضطرب حركته)، كاضطراب الأرض، كما في:” أن تميد بكم” في سورة النحل، و” أن تميد بهم” في سورة الأنبياء. وفي القاموس المحيط: ماد الرجل تبختر( = اضطرب سيره) وأصابه غثيان ودوار، من سُكرٍ، أو ركوب بحر. وفي المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، يعرف الميد بأنه: دوران أو حركة واسعة ترددية، كما في ماد الغصن أي تمايل ( مع الريح يمنة ويسرة، لاحظ إن الغصن لا ينتقل من مكانه وما زال مرتبط بالشجرة). ويقول: ومن الحركة الموصوفة ما في قوله تعالى “أن تميد بكم” أي تتحرك (في اضطراب، والأفضل القول: تضطرب حركتها، أو تضطرب في حركتها). ويضيف: ماد الرجل: تثنى وتبختر، والمائد في البحر: الذي يُدار يرأسه من ريح البحر، واضطراب السفينة.
ونرجو ملاحظة أني قد أضفت ما بين القوسين لكلام المعجم الاشتقاقي المؤصل، لإعتقادنا إن العالم الجليل صاحب المعجم قد تأثر بالموروث من التفاسير، وفي نفس الوقت سهى عن المعلومة العلمية التي تفرق بين الحركة المنتظمة والحركة المضطربة، أو الميدان.
ويستنبط من هذا العرض: إن الميدان ليس الحركة، ولكنه الاضطراب في الحركة. ولا يكون الميدان إذا لم تكن هناك حركة. وسبب أننا لا نحس بالحركة المنتظمة؛ أننا نكتسب سرعة الجسم المتحرك الذي يحملنا. فالأرض تحملنا وتجري وتدور بنا في حركة منتظمة لا نحس بحركتها، ونبدأ بالإحساس بالحركة إذا اضطربت حركتها أو مادت، عند حدوث الزلازل مثلا. ويكون المعني الصحيح للعبارة الكريمة “أن تميد بكم” أو “أن تميد بهم” هو { أن لا تضطرب حركتها بكم}، وتتحرك بكم حركة منتظمة لا تحسون بها. ويعني هذا بالضرورة القول: إن القرآن يصرح بطريقة مباشرة في هذه الآيات الكريمة بحركة الأرض. فلو لم تكن الأرض تتحرك؛ لما كان الحديث عن مَيَّدَانِها.
مثال آخر يؤكد سلامة استنباطنا. تأمل الآيات الكريمة:
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿١٤﴾ وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿١٥: النحل﴾. وفي آية أخرى “وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿فاطر: ١٢﴾
في الآيتين الكريمتين “وترى الفلك مواخر فيه” و “وترى الفلك فيه مواخر”، والماخرة هي السفينة، وصفت بذلك لأنها تشق الماء بجناحيها أي بصدرها. و المَخْرُ: الشق؛ يقال: مخرت السفينة الماء: إذا شقته، ومخر الأرض أي شقها بالمحراث. والسؤال الذي يوضح الدلالة هنا: هل يحدث مخر (= شق) الماء إذا ظلت السفينة ساكنة؟ بالطبع لا. يحدث المخر عند جريان السفينة وبسرعة، فتشق الماء (والهواء). ونظن – والله تعالى أعلم – إن القرآن جاء بهذه الآية الكريمة التي سبقت “ألا تميد بكم” في سورة النحل، حتى نفهم أنه لا مخر إلا بعد الحركة، وكذلك لا ميدان إلا بعد الحركة.
من هذا نستنتج إن الآيات التي تصف سنة كونية من سنن الله تعالى تحتاج في تفسيرها إلى تدقيق لغوي، ومعرفة ببعض العلوم الطبيعية. لقد علم الله تعالى إن المعرفة الإنسانية سوف تأتي متدرجة وعلى مراحل نتيجة البحوث والتفكر، لهذا أمر سبحانه ” وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا” ﴿الإسراء: ٣٦﴾ ” وقال ” سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ” ﴿فصلت: ٥٣﴾ بدأها بالسين المستقبلية، وكأنه يريد أن يقول لنا، سوف ترون صدق آيات ربكم خالق كل شيء؛ في الحاضر والمستقبل وإلى أن تقوم الساعة ويرث الله الأرض ومن عليها. فلا تستغرب أبدا؛ أيها القارئ الكريم، إذا غم عليك معنى آية كريمة أو تعبير قرآني كريم؛ ووجدت أنه يخالف ما فهمناه من العلوم الحديثة، وكن على ثقة من صدق القرآن الكريم، وانتظر حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
حسن الختام
ختاما نلخص ونكرر: إنه من بالغ الأهمية اطلاع مفسر القرآن الكريم على بعضا من العلوم الطبيعية إلى جانب التدقيق في دلالات ألفاظ القرآن الكريم وتعبيراته الدقيقة المحكمة، حتى يتسنى لنا تفسير أفضل للقرآن الكريم. هذا وبالله التوفيق.
“رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴿آل عمران: ١٩٣﴾
“رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” ﴿البقرة: ٢٨٦﴾ صدق الله العظيم
د. محيي الدين عبد الغني – النرويج